موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ الثَّاني عَشَرَ: حَقُّ الشَّارِعِ يَسقُطُ بالمَوتِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "حَقُّ الشَّارِعِ يَسقُطُ بالمَوتِ" [5985] يُنظر: ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (6/185)، ونص عبارته: (وحق ‌الشارع من الصلاة وغيره يسقط بالموت). ، وصيغةِ: "المَوتُ يُسقِطُ التَّكليفَ" [5986] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (7/257). ، وصيغةِ: " العِباداتُ تَسقُطُ بمَوتِ ‌من ‌عليه" [5987] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/221). ، وصيغةِ: "المَوتُ مَعنًى يُسقِطُ التَّكليفَ" [5988] يُنظر: ((الروايتين والوجهين - المسائل الفقهية منهـ)) لأبي يعلى (2/ 370). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.
حُقوقُ اللهِ تَعالى على المُكَلَّفِ تَسقُطُ بمَوتِه عِندَ الحَنَفيَّةِ خِلافًا للشَّافِعيَّةِ، إلَّا إذا دَلَّ دَليلٌ شَرعيٌّ على خِلافِ ذلك، فالمَوتُ يُفيدُ انتِهاءَ التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ بمَوتِ الإنسانِ؛ حَيثُ إنَّ المَوتَ يُعَدُّ نِهايةً لحَياةِ الإنسانِ الدُّنيَويَّةِ، وتَنتَهي بمَوتِه مَسؤوليَّاتُه الشَّرعيَّةُ الشَّخصيَّةُ إلَّا ما يَرتَبِطُ بحُقوقِ العِبادِ فلا يَسقُطُ بمَوتِه [5989] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (7/257)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/221)، ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (6/185). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ والمَعقولُ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قَولُ اللهِ تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 53] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ حُقوقَ اللهِ تَعالى مِنها عِباداتٌ بَدَنيَّةٌ، كالصَّلاةِ والصِّيامِ، وهذه العِباداتُ لا تَجوزُ فيها النِّيابةُ في حالِ الحَياةِ، فكَذلك تَسقُطُ بالمَوتِ للعَجزِ [5990] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/ 212)، ((معلمة زايد)) (12/ 286). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عَن أبي هرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا ماتَ الإنسانُ انقَطَعَ عَنه عَمَلُه إلَّا مِن ثَلاثةٍ: إلَّا مِن صَدَقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو ولَدٍ صالِحٍ يدعو له )) [5991] أخرجه مسلم (1631). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيَّنَ ما يَنفَعُ المَيِّتَ بَعدَ مَوتِه، ولَم يَذكُرْ مِنها الصَّلاةَ عَنه أوِ الصَّومَ، فدَلَّ على أنَّه بمَوتِ الإنسانِ تَنقَطِعُ العِبادةُ، وأنَّه لا يَصومُ أحَدٌ عَن أحَدٍ، ولا يُصَلِّي أحَدٌ عَن أحَدٍ، كما لا يُؤمِنُ أحَدٌ عَن أحَدٍ [5992] يُنظر: ((تفسير الموطأ)) للقنازعي (1/296)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (3/261)، ((المنتقى)) للباجي (2/63). .
3- مِنَ المعقولِ:
وهو أنَّ نيَّةَ المُكَلَّفِ وفِعلَه رُكنٌ في العِبادةِ، وقد فاتَ ذلك بمَوتِه، فلا يُتَصَوَّرُ بَقاءُ الواجِبِ؛ إذِ الدُّنيا دارُ تَكليفٍ، والآخِرةُ دارُ جَزاءٍ، والعِبادةُ اختياريَّةٌ، وليست بجَبريَّةٍ، فلا يُتَصَوَّرُ بَقاءُ الواجِبِ؛ لأنَّ الآخِرةَ ليست بدارِ ابتِلاءٍ حَتَّى يَلزَمَه الفِعلُ فيها، ولا العِبادةُ جَبريَّةٌ حَتَّى يُجتَزَأَ بفِعلِ غَيرِه مِن غَيرِ اختيارِه، فلَم يَبقَ إلَّا جَزاءُ الفِعلِ أو تَركُه ضَرورةً [5993] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/230). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- مَن عليه الحَجُّ إذا ماتَ قَبلَ أدائِه فلا يَخلو إمَّا أنَّه ماتَ مِن غَيرِ وصيَّةٍ، وإمَّا أنَّه ماتَ عَن وصيَّةٍ، فإن ماتَ مِن غَيرِ وصيَّةٍ يَأثَمُ بلا خِلافٍ، لَكِن يَسقُطُ عَنه في حَقِّ أحكامِ الدُّنيا عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ حَتَّى لا يَلزَمَ الوارِثَ الحَجُّ عَنه مِن تَرِكَتِه؛ لأنَّه عِبادةٌ، والعِباداتُ تَسقُطُ بمَوتِ مَن عليه -سَواءٌ كانت بَدَنيَّةً أو ماليَّةً- في حَقِّ أحكامِ الدُّنيا عِندَ الحَنَفيَّةِ [5994] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/221). .
2- مَن ماتَ وعليه نَذرٌ فإنَّه يَسقُطُ بمَوتِه إذا لَم يوصِ بإخراجِ النَّذرِ مِن تَرِكَتِه، فإنَّه يَسقُطُ عَنه في حَقِّ أحكامِ الدُّنيا عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ حَتَّى لا يَلزَمَ الوارِثَ إخراجُه مِن تَرِكَتِه؛ لأنَّه عِبادةٌ، والعِباداتُ تَسقُطُ بمَوتِ ‌من ‌عليه [5995] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/221)، ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (1/269). .
3- مَن ماتَ وعليه كَفَّارةٌ فإنَّها تَسقُطُ بمَوتِه إذا لَم يوصِ بإخراجِها مِن تَرِكَتِه، فإنَّها تَسقُطُ عَنه في حَقِّ أحكامِ الدُّنيا عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ حَتَّى لا يَلزَمَ الوارِثَ إخراجُها مِن تَرِكَتِه؛ لأنَّ ذلك عِبادةٌ، والعِباداتُ تَسقُطُ بمَوتِ مَن عليه [5996] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/221)، ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (1/269). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استثناءاتٌ:
استَثنى بَعضُ العُلَماءِ مِنَ القاعِدةِ صُوَرًا، مِنها:
مَن حَجَّ مُتَمَتِّعًا فماتَ بَعدَ رَميِ جَمرةِ العَقَبةِ لَزِمَه هَديُ التَّمَتُّعِ مِن رَأسِ مالِه، عِندَ المالِكيَّةِ [5997] يُنظر: ((التوضيح)) لخليل بن إسحاق (3/ 177)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/ 408). .

انظر أيضا: