موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ الثَّاني: المَعتوهُ كالصَّبيِّ في حُكمِه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهَ الصِّيغةِ المذكورةِ: "المَعتوهُ كالصَّبيِّ في حُكمِه" [5708] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/238). ، وصيغةِ: "المَعتوهُ بمَنزِلةِ الصَّغيرِ" [5709] يُنظر: ((الأصل)) لمحمد بن الحسن (3/351)، ((المبسوط)) للسرخسي (3/104). ، وصيغةِ: "المَعتوهُ بمَنزِلةِ الطِّفلِ وإن كان كَبيرًا" [5710] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (11/417). ، وصيغةِ: "حُكمُ العَتَهِ حُكمُ الصِّبا مَعَ العَقلِ" [5711] يُنظر: ((التلويح)) للتفتازاني (2/334). ، وصيغةِ: "حُكمُ المَعتوهِ كالصَّبيِّ المُمَيِّزِ" [5712] يُنظر: ((بديع النظام)) لابن الساعاتي (1/211). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.
العَتَهُ هو اختِلالٌ في العَقلِ بحَيثُ يَختَلِطُ كَلامُ المَعتوهُ فيُشبِهُ مَرَّةً كَلامَ العُقَلاءِ، ومَرَّةً كَلامَ المَجانينِ، وحُكمُه كالصَّبيِّ العاقِلِ في تَصَرُّفاتِه وفي رَفعِ التَّكليفِ عَنه، فلا يُخاطَبُ بالعِباداتِ، ولا تَجِبُ عليه عُقوبةٌ في الجِناياتِ، ويَضمَنُ قيمةَ ما أتلَفَ للآخَرينَ مِن مالِه، ويُعامَلُ في تَصَرُّفاتِه الماليَّةِ مُعامَلةَ الصَّبيِّ، فيَصِحُّ مِنه ما فيه نَفعٌ مَحضٌ، كَقَبولِ الهبةِ، ولا يَصِحُّ ما فيه ضَرَرٌ مَحضٌ، كَتَقديمِ الهبةِ والكَفالةِ، ويَتَوقَّفُ على إذنِ الوليِّ ما يُتَرَدَّدُ فيه بَينَ النَّفعِ والضَّرَرِ، كالبَيعِ [5713] يُنظر: ((الأصل)) لمحمد بن الحسن (3/351)، ((المبسوط)) للسرخسي (3/104)، ((بديع النظام)) لابن الساعاتي (1/211)، ((التوضيح)) لصدر الشريعة (2/337)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/192). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعدةِ بالسُّنَّةِ والقياسِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عَن عائِشةَ، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((رُفِعَ القَلَمُ عَن ثَلاثٍ: عَنِ الصَّبيِّ حَتَّى يَحتَلِمَ، وعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَستَيقِظَ، وعَنِ المَعتوهِ حَتَّى يَعقِلَ )) [5714] أخرجه أبو داود (4398) بلَفظِ: "وعَنِ المُبتَلى حَتَّى يَبرَأَ"، والنسائي (3432) بلفظ: "وعَنِ المَجنونِ حَتَّى يَعقِلَ أو يُفيقَ"، وأحمد (24703) واللفظ له. وأخرجه الحاكم (2350)، والبيهقي (11453) بلفظ: (وعَنِ المَعتوهِ حَتَّى يُفيقَ)، مِن حَديثِ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها. صحَّحه الحاكم، وقال: على شرط مسلم، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/392)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3432). .
2- مِنَ القياسِ:
فيُقاسُ المَعتوهُ على الصَّبيِّ لتَشابُهِ إدراكِهما واشتِراكِهما في نُقصانِ العَقلِ [5715] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/238)، ((معلمة زايد)) (12/400). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ.
مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعدةِ:
1- إن كان الولَدُ مَعتوهًا كان في حَضانةِ الأُمِّ، ولَم يُخَيَّرْ؛ لأنَّ المَعتوهَ بمَنزِلةِ الطِّفلِ وإن كان كَبيرًا؛ ولِذلك كانتِ الأُمُّ أحَقَّ بكَفالةِ ولَدِها المَعتوهِ بَعدَ بُلوغِه [5716] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (11/417). .
2- طَلاقُ المَعتوهِ لا يَقَعُ كما لا يَقَعُ طَلاقُ الصَّبيِّ [5717] يُنظر: ((الأصل)) لمحمد بن الحسن (4/552)، ((الأم)) للشافعي (5/235)، ((مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح)) (1/128)، ((الإشراف)) لابن المنذر (5/224)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (6/144). .
3- ظِهارُ المَعتوهِ والصَّبيِّ باطِلٌ كَطَلاقِهما؛ لأنَّ موجِبَ الظِّهارِ الحُرمةُ المُؤَقَّتةُ بالكَفَّارةِ، وليسا مِن أهلِ وُجوبِ الكَفَّارةِ عليهما ولا مِن أهلِ مُباشَرةِ سَبَبِ الحُرمةِ بالقَولِ [5718] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/233). .
4- لا تَصِحُّ هبةُ المَعتوهِ؛ لكَونِ الهبةِ تَبَرُّعًا، والمَعتوهُ لا يَملِكُ التَّبَرُّعَ كالصَّبيِّ؛ لكَونِ التَّبَرُّعِ ضَرَرًا مَحضًا لا يُقابِلُه نَفعٌ دُنيَويٌّ، فلا يَملِكُه المَعتوهُ ولا الصَّبيُّ [5719] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/118). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
تنبيهٌ:
ما قَرَّرَه العُلَماءُ مِن تَضمينِ المَعتوهِ والصَّبيِّ ونَحوِه بقيَمِ المُتلَفاتِ والغَراماتِ والزَّكاةِ في مالِه لا يَعني أنَّه داخِلٌ تَحتَ خِطابِ التَّكليفِ، وأنَّ تَصَرُّفاتِه مُعتَبَرةٌ شَرعًا، وإنَّما ذلك مِن بابِ الخِطابِ الوضعيِّ، أي: أنَّه قد أتى سَبَبًا لوُجوبِ الإخراجِ مِن مالِه لا أنَّه يَأثَمُ بفِعلِه [5720] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/ 237)، ((الإقناع)) للشربيني (2/ 497). .
فرقٌ:
الفَرقُ بَينَ العَتَهِ والجُنونِ:
العَتَهُ اختِلالٌ في العَقلِ يَصيرُ به صاحِبُه مُختَلِطًا، يُشبِهُ حالُه أحيانًا حالَ العُقَلاءِ، وأحيانًا حالَ المَجانينِ [5721] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/ 176)، ((تيسير علم أصول الفقهـ)) لعبدالله الجديع (ص: 90). ، والمَعتوهُ إجمالًا قَليلُ الفَهمِ مُختَلِطُ الكَلامِ، فاسِدُ التَّدبيرِ، لَكِن لا يَضرِبُ ولا يَشتُمُ، ويُلازِمُه الهدوءُ، بخِلافِ المَجنونِ [5722] يُنظر: ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/ 2972). .
وأمَّا الجُنونُ فإنَّه اختِلالُ العَقلِ بحَيثُ يَمنَعُ مِن صُدورِ الأفعالِ والأقوالِ على نَهجِ العَقلِ إلَّا نادِرًا [5723] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/ 173)، ((تيسير علم أصول الفقهـ)) لعبدالله الجديع (ص: 89). . والجُنونُ يَصحَبُه اضطِرابٌ وهَيَجانٌ [5724] يُنظر: ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/ 2972). .
وعليه، فيُمكِنُ حَملُ المَجنونِ على مَن زالَ عَقلُه بالكُلِّيَّةِ، والمَعتوهِ على مَن عِندَه أصلُ العَقلِ لا كَمالُه [5725] يُنظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/ 19). .

انظر أيضا: