موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ الرَّابِعُ: حُكمُ السَّفيهِ كالصَّغيرِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "حُكمُ السَّفيهِ كالصَّغيرِ" [5749] يُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (4/181). ونصها: (حكم السفيهين كالصغيرين). ، واستُعمِلَت بصيغةِ: "الكَبيرُ السَّفيهُ كالصَّغيرِ" [5750] يُنظر: ((النوادر والزيادات)) للقيرواني (12/426)، ((الشامل في فقه الإمام مالك)) للدميري (1/329). ، وصيغةِ: "السَّفيهُ كالصَّغيرِ" [5751] يُنظر: ((بداية المحتاج)) لابن قاضي شهبة (1/531). ، وصيغةِ: "السَّفيهُ وإنِ احتَلَمَ بمَنزِلةِ الصَّغيرِ" [5752] يُنظر: ((المدونة)) لسحنون (4/ 408). ، وصيغةِ: "السَّفيهُ كالطِّفلِ" [5753] يُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (2/ 212)، ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (3/ 55). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.
السَّفيهُ هو مَن لا يُحسِنُ التَّصَرُّفَ في أموالِه أو شُؤونِه بأن يُبَذِّرَ مالَه فيما حَرَّمَه اللهُ تَعالى أو يُضَيِّعَه فيما لا فائِدةَ مِنه، فالسَّفَهُ خِفَّةٌ تَبعَثُ الإنسانَ على العَمَلِ في مالِه بخِلافِ مُقتَضى العَقلِ والشَّرعِ مَعَ قيامِ العَقلِ في الحَقيقةِ، وحُكمُ السَّفيهِ أنَّه يُعامَلُ مُعامَلةَ الصَّغيرِ غَيرِ البالِغِ في التَّصَرُّفاتِ الماليَّةِ، بسَبَبِ عَدَمِ كَمالِ عَقلِه أو نَقصِ تَجرِبَتِه في التَّصَرُّفِ، وبِناءً عليه لا تُعتَبَرُ تَصَرُّفاتُه فيما يُعَدُّ ضَرَرًا مَحضًا، وتُعتَبَرُ فيما يُعَدُّ نَفعًا مَحضًا، وتَتَوقَّفُ على إذنِ وليِّه فيما يَحتَمِلُ النَّفعَ والضَّرَرَ، وهذا في التَّصَرُّفاتِ الماليَّةِ، أمَّا العِباداتُ والجِناياتُ فإنَّ مَناطَ الأهليَّةِ قائِمٌ به، فيَظَلُّ مُخاطَبًا بالعِباداتِ ومُلتَزِمًا لعَواقِبِ جِنايَتِه [5754] يُنظر: ((النوادر والزيادات)) للقيرواني (12/426)، ((المغني)) لابن قدامة (6/612)، ((المنثور)) للزركشي (2/204)، ((الشامل في فقه الإمام مالك)) للدميري (1/329)، ((بداية المحتاج)) لابن قاضي شهبة (1/531). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والمَعقولُ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء: 5] .
- وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: ‌فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [البقرة: 282] .
وَجهُ الدَّلالةِ من الآيتينِ:
أنَّ الآيةَ الأولى نَصٌّ في الحَجرِ على السَّفيهِ ومَنعِه مِنَ التَّصَرُّفِ، والآيةُ الثَّانيةُ أثبَتَتِ الوِلايةَ على السَّفيهِ كما أثبَتَتها على الضَّعيفِ [5755] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/87)، ((المنتقى)) للباجي (6/107)، ((البيان)) للعمراني (6/207).
2- مِنَ المعقولِ:
وهو أنَّ الحَجرَ على السَّفيهِ ثابِتٌ لمَصلَحةِ نَفسِه؛ إذ في إطلاقِ التَّصَرُّفِ له مَفسَدةٌ لمالِه، فلَزِمَ الحَجرُ عليه لمَصلَحَتِه اعتِبارًا بالصَّبيِّ [5756] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/132)، ((معلمة زايد)) (12/407). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها: 
1- السَّفيهُ لا يَنفُذُ بَيعُه وشِراؤُه وإجارَتُه وما أشبَهَ ذلك مِنَ التَّصَرُّفاتِ التي تَحتَمِلُ النَّقضَ والفَسخَ، فحُكمُه في ذلك حُكمُ الصَّبيِّ العاقِلِ [5757] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/171)، ((وبل الغمامة)) لعبدالله الطيار (4/290). .
2- لا تَصِحُّ هبةُ السَّفيهِ ولا صَدَقَتُه ونَحوُها مِنَ التَّصَرُّفاتِ الماليَّةِ التي فيها ضَرَرٌ مَحضٌ عليه [5758] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/171). .
3-‌ السَّفيهُ إذا أقَرَّ بمالٍ، كالدَّينِ، أو بما يوجِبُه، كَجِنايةِ الخَطَأِ وشِبهِ العَمدِ، وإتلافِ المالِ، وغَصبِه، وسَرِقَتِه: لَم يُقبَلْ إقرارُه به؛ لأنَّه مَحجورٌ عليه لحَظِّه، فلَم يَصِحَّ إقرارُه بالمالِ، كالصَّبيِّ والمَجنونِ، ولأنَّا لَو قَبِلنا إقرارَه في مالِه لَزالَ مَعنى الحَجرِ؛ لأنَّه يَتَصَرَّفُ في مالِه، ثُمَّ يُقِرُّ به، فيَأخُذُه المُقَرُّ له، ولأنَّه أقَرَّ بما هو مَمنوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فيه، فلَم يَنفُذْ [5759] يُنظر: ((المغني)) (6/615)، ((عمدة الفقهـ)) (ص: 154) كلاهما لابن قدامة. .
ولَو أقَرَّ السَّفيهُ بحَقٍّ يَتَعَلَّقُ ببَدَنِه لا بمالِه، كاعتِرافِه بشُربِ خَمرٍ، فإنَّه يُضرَبُ الحَدَّ، ويُؤخَذُ باعتِرافِه. وكَذلك اعتِرافُه بالزِّنا وبِالسَّرِقةِ، فإنَّه يُؤخَذُ باعتِرافِه أيضًا بما يَتَعَلَّقُ ببَدَنِه [5760] يُنظر: ((شرح التلقين)) للمازري (3/13)، ((عمدة الفقهـ)) لابن قدامة (ص: 154). .
4- إن تَزَوَّجَ السَّفيهُ بغَيرِ إذنِ الوليِّ فنِكاحُه مَوقوفٌ على إذنِ الوليِّ وإجازَتِه؛ إن رَأى وجهَ رُشدٍ أمضاه، وإن رَأى غَبنًا رَدَّه [5761] يُنظر: ((المنتقى)) للباجي (3/286). .
5- ما يَكسِبُه السَّفيهُ مِنَ المُباحاتِ فإنَّه يَملِكُه كما يَملِكُ الصَّبيُّ والمَجنونُ [5762] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (6/92). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استثناءٌ:
قال شِهابُ الدِّينِ النَّفراويُّ: (يُستَثنى مِن عَدَمِ جَوازِ عَقدِ السَّفيهِ عِتقُ أُمِّ ولَدِه، فالمَذهَبُ أنَّ له عِتقَها؛ لأنَّه لَم يَبقَ له فيها إلَّا الاستِمتاعُ وقَليلُ الخِدمةِ، كما تَجوزُ وصيَّتُه، ويَلزَمُه طَلاقُه والكَفَّارةُ، ويُكَفِّرُ بالصَّومِ إلَّا أن يَشُقَّ عليه فيُكَفِّرُ بالأقَلِّ قيمةً فيما لا تَرتيبَ فيهـ) [5763] ((الفواكه الدواني)) (2/147). .

انظر أيضا: