المَطلَبُ الأوَّلُ: النِّسيانُ عُذرٌ في المَنهيَّاتِ دونَ المَأموراتِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "النِّسيانُ عُذرٌ في المَنهيَّاتِ دونَ المَأموراتِ"
[5764] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/272). ، وصيغةِ: "الجَهلُ والنِّسيانُ في المَأمورِ به لا يُجعَلُ عُذرًا"
[5765] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (7/207). ، وصيغةِ: "المَنهيَّاتُ تَسقُطُ بالجَهلِ والنِّسيانِ، والمَأموراتُ لا تَسقُطُ بالجَهلِ والنِّسيانِ"
[5766] يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (1/227). ، وصيغةِ: "لا يَفتَرِقُ العَمدُ مِنَ النِّسيانِ في بابِ سُقوطِ المَأموراتِ، ولا العُذرُ مِنَ الاختيارِ بخِلافِ ثُبوتِ المَنهيَّاتِ فيهما"
[5767] يُنظر: ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (2/511). ، وصيغةِ: "النِّسيانُ لا يُؤَثِّرُ في إسقاطِ امتِثالِ المَأموراتِ، وإنَّما تَأثيرُه في العَفوِ عَنِ المَنهيَّاتِ"
[5768] يُنظر: ((عارضة الأحوذي)) لابن العربي (1/ 454). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعدةِ.إذا نَسيَ الإنسانُ وارتَكَبَ شَيئًا مِنَ المُحَرَّماتِ أوِ المَنهيَّاتِ، فإنَّ الشَّريعةَ تَعذِرُه ولا يُؤاخَذُ عليها؛ لأنَّ النِّسيانَ يَرفَعُ الإثمَ في هذه الحالةِ، أمَّا إذا نَسيَ القيامَ بشَيءٍ مِنَ الواجِباتِ أوِ المَأموراتِ فإنَّه يَبقى مُطالَبًا بأدائِها فورَ تَذَكُّرِه؛ لأنَّ الواجِبَ لا يَسقُطُ بالنِّسيانِ، فالنِّسيانُ يَجعَلُ وجودَ ما فعَلَه كَعَدَمِه؛ لأنَّه مَعفوٌّ عَنه، فإذا كان قد فعَلَ مَحظورًا كان كَأنَّه لَم يَفعَلْه، فلا إثمَ عليه، ولا تَلحَقُه أحكامُ الإثمِ، وإذا تَرَكَ واجِبًا ناسيًا أو جاهلًا، فلا إثمَ عليه بالتَّركِ، لَكِنَّه لَم يَفعَلْه، فيَبقى في عُهدةِ الأمرِ حَتَّى يَفعَلَه إذا كان الفِعلُ مُمكِنًا، فكانتِ المُسامَحةُ في تَركِ الواجِبِ أوسَعَ مِنَ المُسامَحةِ في فِعلِ المُحَرَّمِ
[5769] يُنظر: ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (2/345)، ((المجموع)) للنووي (7/207)، ((فتاوى السبكي)) (1/227)، ((المنثور)) للزركشي (3/272)، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (2/511). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعدةِ بالسُّنَّةِ والمعقولِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:عَن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إذا رَقدَ أحَدُكُم عَنِ الصَّلاةِ، أو غَفَلَ عَنها، فليُصَلِّها إذا ذَكَرَها؛ فإنَّ اللهَ يَقولُ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14] )) [5770] أخرجه مسلم (684). .
وفي رِوايةٍ عَن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه؛ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن نَسيَ صَلاةً فليُصَلِّها إذا ذَكَرَها لا كَفَّارةَ لَها إلَّا ذلك )) [5771] أخرجها البخاري (597)، ومسلم (684) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ النَّاسيَ للصَّلاةِ بفِعلِها حينَ يَذكُرُها، فدَلَّ على أنَّ المَأمورَ لا يَسقُطُ بالنِّسيانِ حَيثُ أبانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ سُقوطَ الإثمِ عَنه غَيرُ مُسقِطٍ لما لَزِمَه مِن فرضِ الصَّلاةِ؛ وأنَّها واجِبةٌ عليه إذا ذَكَرَها
[5772] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (2/220)، ((الاستذكار)) لابن عبد البر (1/77،76). .
- وعَن أبي هرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن نَسيَ وهو صائِمٌ فأكَلَ أو شَرِبَ، فليُتِمَّ صَومَه؛ فإنَّما أطعَمَه اللهُ وسَقاه )) [5773] أخرجه البخاري (1933)، ومسلم (1155) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:نَصَّ الحَديثُ على أنَّ مَن نَسيَ ففَعَلَ المَنهيَّ عَنه في الصَّومِ وهو الأكلُ والشُّربُ، فلا يَبطُلُ صَومُه، وهو مَضمونُ القاعِدةِ في أنَّ النِّسيانَ عُذرٌ في المَنهيَّاتِ
[5774] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (4/60)، ((المعلم)) للمازري (2/63)، ((الإفصاح)) لابن هبيرة (7/184). .
2- مِنَ المعقولِ:وهو أنَّ الأمرَ يَقتَضي إيجادَ الفِعلِ فما لَم يُفعَلْ لَم يَخرُجْ عَنِ العُهدةِ، والنَّهيُ يَقتَضي الكَفَّ، فالمَفعولُ مِن غَيرِ قَصدٍ للمَنهيِّ عَنه كَلا قَصدٍ، ولأنَّ تارِكَ المَأمورِ يُمكِنُه تَلافيه بإيجادِ الفِعلِ، فلَزِمَه ولَم يُعذَرْ فيه، بخِلافِ المَنهيِّ إذا ارتَكَبَه فإنَّه لا يُمكِنُه تَلافيه؛ إذ ليس في قُدرَتِه نَفيُ فِعلٍ حَصَلَ في الوُجودِ، فعُذِرَ فيه، ولأنَّ القَصدَ مِنَ الأمرِ رَجاءُ الثَّوابِ، فإذا لَم يَأتَمِرْ لَم يُرجَ له ثَوابُه، بخِلافِ النَّهيِ فإنَّ سَبَبَه خَوفُ العِقابِ؛ لأنَّه لهَتكِ الحُرمةِ، والنَّاسي لا يَقتَضي فِعلُه هَتكَ حُرمةٍ، فلَم يُخشَ عليه العِقابُ
[5775] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/273،272). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعدةِ. تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- لا تَسقُطُ السُّترةُ بجَهلِ وُجوبِها ولا نِسيانٍ لَها، كما تَسقُطُ بالعَجزِ، فلَو نَسيَ الاستِتارَ وصَلَّى أو جَهلَ وُجوبَه، أو أُعتِقَتِ الأمةُ في أثناءِ الصَّلاةِ ولَم تَعلَمْ حَتَّى فرَغَت، لَزِمَتهمُ الإعادةُ؛ لأنَّ الزِّينةَ مِن بابِ المَأمورِ به، فلا تَسقُطُ بالجَهلِ والنِّسيانِ، كَطَهارةِ الحَدَثِ
[5776] يُنظر: ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (2/345). .
2- لَو أكَلَ ناسيًا في صَلاتِه أو صَومِه لا يَبطُلانِ؛ لأنَّه مِن بابِ المَنهيَّاتِ، وهيَ تَسقُطُ بالنِّسيانِ
[5777] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/273). .
3- لَو تَرَكَ التَّرتيبَ في الوُضوءِ ناسيًا لَزِمَه الإعادةُ؛ لأنَّه مِن بابِ المَأموراتِ، والنِّسيانُ لا يُسقِطُها
[5778] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/273). .
4- لَو نَسيَ وجودَ الماءِ لَدَيه فتَيَمَّمَ وصَلَّى ثُمَّ تَذَكَّرَ، أعادَ؛ لأنَّه مِن بابِ المَأموراتِ، والنِّسيانُ لا يُسقِطُها
[5779] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/273). .
5- مَن نَسيَ نَجاسةَ طَعامٍ له فأكَلَه، أو جَهلَ كَونَ هذا الشَّرابِ خَمرًا فشَرِبَه، فلا إثمَ ولا حَدَّ ولا تَعزيزَ؛ لأنَّ هذه إنَّما شُرِعَت زَواجِرَ لأجلِ المُعاودةِ، وذلك إنَّما يَكونُ في حالةِ الذِّكرِ والعَمدِ دونَ النِّسيانِ والخَطَأِ
[5780] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (2/275،274). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استثناءاتٌ:1- تَحيَّةُ المَسجِدِ تَفوتُ بالجُلوسِ ناسيًا عِندَ الشَّافِعيَّةِ
[5781] قال النَّوويُّ: (وقد أطلَقَ أصحابُنا فواتَها بالجُلوسِ). ((شرح صحيح مسلم)) (6/ 164). ويُنظر: ((طرح التثريب)) للعراقي (3/ 189). ، مَعَ أنَّها مِنَ المَأموراتِ
[5782] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/273). .
2- اقتِرانُ النِّسيانِ بحالةٍ مُذَكِّرةٍ:
كَهَيئةِ المُحرِمينَ والمُصَلِّينَ، فلا يُعذَرُ بالنِّسيانِ، وأمَّا إذا لَم يَقتَرِنْ بحالةٍ مُذَكِّرةٍ فإنَّه يُعذَرُ بالنِّسيانِ، كالصَّومِ
[5783] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/ 238). .
قال السَّرَخسيُّ: (إن أكَلَ أو شَرِبَ في الصَّلاةِ ناسيًا أو عامِدًا، بخِلافِ الصَّومِ، فإنَّه يُفصَلُ بَينَ النِّسيانِ والعَمدِ؛ لأنَّه قدِ اقتَرَنَ بحالِ المُصَلِّي ما يُذَكِّرُه، فإنَّ حُرمةَ الصَّلاةِ مانِعةٌ مِنَ التَّصَرُّفِ في الطَّعامِ المُؤَدِّي إلى الأكلِ، فلِهذا سَوَّى بَينَ النِّسيانِ والعَمدِ، وفي الصَّومِ لَم يَقتَرِنْ بحالِه ما يُذَكِّرُه، فإنَّ الصَّومَ لا يَمنَعُه ما يُؤَدِّي إلى الأكلِ، وهو التَّصَرُّفُ في الطَّعامِ، ثُمَّ الأكلُ عَمَلٌ لَو نَظَرَ إلَيه النَّاظِرُ لا يَشُكُّ أنَّه في غَيرِ الصَّلاةِ)
[5784] ((المبسوط)) (1/ 195). .
3- إذا تَرَتَّبَ على النِّسيانِ إتلافٌ:
قال السُّيوطيُّ: (قاعِدةُ الفِقهِ: أنَّ النِّسيانَ والجَهلَ مُسقِطٌ للإثمِ مُطلَقًا، وأمَّا الحُكمُ: فإن وقَعا في تَركِ مَأمورٍ لَم يَسقُطْ، بَل يَجِبُ تَدارُكُه، ولا يَحصُلُ الثَّوابُ لمُتَرَتِّبٍ عليه لعَدَمِ الائتِمارِ، أو فِعلِ مَنهيٍّ ليس مِن بابِ الإتلافِ، فلا شَيءَ فيه، أو فيه إتلافٌ لَم يَسقُطِ الضَّمانُ. فإن كان يوجِبُ عُقوبةً كان شُبهةً في إسقاطِها)
[5785] ((الأشباه والنظائر)) (ص: 188). .