موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّاني: كُلُّ عَقدٍ جازَ أن يَعقِدَه الإنسانُ بنَفسِه جازَ أن يوكِّلَ فيه غَيرَه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ عَقدٍ جازَ أن يَعقِدَه الإنسانُ بنَفسِه جازَ أن يوكِّلَ فيه غَيرَه" [5386] يُنظر: ((مختصر القدوري)) (ص: 115)، ((بداية المبتدي)) (ص: 159)، ((الهداية)) (3/136) كلاهما للمرغيناني، ((العناية)) للبابرتي (7/501)، ((البناية)) للعيني (9/217). ، وصيغةِ: كُلُّ ما جازَت به النِّيابةُ مِنَ الحُقوقِ جازَتِ الوَكالةُ فيه [5387] يُنظر: ((اختلاف الأئمة)) لابن هبيرة (1/452). ، وصيغةِ: مَن له التَّصَرُّفُ في شَيءٍ فلَه التَّوكيلُ والتَّوكُّلُ فيه [5388] يُنظر: ((زاد المستقنع)) للحجاوي (ص: 122)، ((عمدة الطالب)) للبهوتي (1/154). ، وصيغةِ: مَن صَحَّ تَصَرُّفُه في شَيءٍ تَدخُلُه النِّيابةُ جازَ أن يوكِّلَ فيه غَيرَه [5389] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (6/402). ، وصيغةِ: كُلُّ مَن صَحَّ تَصَرُّفُه في شَيءٍ بنَفسِه، وكان مِمَّا تَدخُلُه النِّيابةُ، صَحَّ أن يوكِّلَ فيه [5390] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/197). ، وصيغةِ: القاعِدةُ: أنَّ ما تَمَكَّنَ الشَّخصُ مِن فِعلِه جازَ أن يوكِّلَ فيه مِن يتمَكَّنُ مِن مُباشَرَتِه لنَفسِه [5391] يُنظر: ((فتاوى الرملي)) (4/67). ، وصيغةِ: كُلُّ ما لا يَجوزُ للمُسلمِ العَقدُ عليه، لا يَجوزُ أن يوكِّلَ فيه [5392] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/254)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (13/521). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ العُقودَ التي يَجوزُ للإنسانِ أن يَعقِدَها بنَفسِه يَجوزُ أن يوكِّلَ فيها غَيرَه، وشَرطُ هذه الوَكالةِ أن يَكونَ الموكِّلُ مِمَّن تَصِحُّ مِنه مُباشَرةُ ما وَكَّلَ فيه، إمَّا بمِلكٍ أو وِلايةٍ كالأبِ والجَدِّ؛ فإنَّ لهما أن يوكِّلا؛ حَيثُ إنَّ الحاجةَ تَدعو إلى الوَكالةِ أحيانًا، ففي البَيعِ قد يَكونُ للإنسانِ مالٌ ولَكِنَّه لا يُحسِنُ التِّجارةَ فيه، وقد يُحسِنُ التِّجارةَ فيه ولَكِنَّه لا يَتَفرَّغُ إليه لكَثرةِ أشغالِه، فجازَ أن يوكِّلَ فيه غَيرَه، وكَذلك يَجوزُ في سائِرِ عُقودِ المُعامَلاتِ، كالرَّهنِ والحَوالةِ والضَّمانِ والكَفالةِ والشَّرِكةِ والوديعةِ والإعارةِ والمُضارَبةِ والجَعالةِ والمُساقاةِ والإجارةِ والقَرضِ والهبةِ والوَقفِ والصَّدَقةِ؛ لأنَّ الحاجةَ إلى التَّوكيلِ فيها كالحاجةِ إلى التَّوكيلِ في البَيعِ.
فإن كان الموكِّلُ لا يَصِحُّ مِنه مُباشَرةُ ما وكَّلَ فيه فلا تَصِحُّ الوَكالةُ، فمَن لا يَملكُ التَّصَرُّفَ في شَيءٍ بنَفسِه لا يَجوزُ له أن يوكِّلَ غَيرَه فيه، فلا يَصِحُّ للصَّبيِّ، والمَجنونِ، والمَحجورِ عليه لسَفهٍ أن يوكِّلَ غَيرَه في بَيعِ مالِه؛ لأنَّه إذا لم يَملِكْ ذلك بنَفسِه فلَأَن لا يَملِكَ غَيرُه ذلك مِن جِهَتِه أَولى [5393] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/162)، ((البيان)) للعمراني (6/402)، ((العناية)) للبابرتي (7/501)، ((البناية)) للعيني (9/217)، ((كفاية الأخيار)) للحصني (ص: 272)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (3/20). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (حُقوقُ العَقدِ تَتَعَلَّقُ بالعاقِدِ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّه يَجوزُ التَّوكيلُ في العَقدِ الذي يَجوزُ للإنسانِ أن يَعقِدَه بنَفسِه؛ حَيثُ إنَّ ذلك التَّوكيلَ يُعَدُّ مِن حُقوقِ العَقدِ، وحُقوقُ العَقدِ إنَّما تَتَعَلَّقُ بالعاقِدِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قال اللهُ تَعالى: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ [الكهف: 19] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذا تَوكيلٌ، فقد وكَّلوا واحِدًا مِنهم أن يَذهَبَ إلى المَدينةِ ويَأتيَ بطَعامٍ، فتَدُلُّ الآيةُ على جَوازِ التَّوكيلِ فيما يَجوزُ للإنسانِ أن يَعقِدَه كالشِّراءِ [5394] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (6/29)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (9/322). .
- وقال اللهُ تَعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِه تَعالى: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا؛ حَيثُ جَوَّز العَمَلَ عليها، وذلك بحُكمِ النِّيابةِ عنِ المُستَحِقِّينَ [5395] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (6/29). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عُروةَ البارقيِّ رَضيَ اللهُ عنه ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أعطاه دينارًا يَشتَري به شاةً، فاشتَرى له به شاتَينِ، فباعَ إحداهما بدينارٍ، وجاءَه بدينارٍ وشاةٍ، فدَعا له بالبَرَكةِ في بَيعِه، وكان لوِ اشتَرى التُّرابَ لرَبحَ فيه )) [5396] أخرجه البخاري (3642). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وكَّلَه في الشِّراءِ، فدَلَّ الحَديثُ على جَوازِ التَّوكيلِ فيما يَجوزُ للإنسانِ أن يَعقِدَه بنَفسِه [5397] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/162). .
3- مِنَ الإجماعِ:
ومِمَّن حَكاه: الرُّويانيُّ [5398] قال: (لا خلاف بين المسلمين فيهـ). ((بحر المذهب)) (6/30). ، وابنُ هُبَيرةَ [5399] قال: (اتَّفقوا على أنَّ الوكالةَ مِنَ العُقودِ الجائِزةِ في الجُملةِ، وأنَّ كُلَّ ما جازَت به النِّيابةُ مِنَ الحُقوقِ جازَتِ الوكالةُ فيه كالبَيعِ والشِّراءِ والإجارةِ وقَضاءِ الدَّينِ والخُصومةِ في المُطالَبةِ بالحُقوقِ والتَّزويجِ والطَّلاقِ وغَيرِ ذلك). ((اختلاف الأئمة)) (1/452). ، وابنُ قُدامةَ [5400] قال: (يَجوزُ التَّوكيلُ في الحَوالةِ، والرَّهنِ، والضَّمانِ، والكَفالةِ، والشَّرِكةِ، والوديعةِ، والمُضارَبةِ، والجَعالةِ، والمُساقاةِ، والإجارةِ، والقَرضِ، والصُّلحِ، والوصيَّةِ، والهبةِ، والوقفِ، والصَّدَقةِ، والفَسخِ، والإبراءِ؛ لأنَّها في مَعنى البَيعِ في الحاجةِ إلى التَّوكيلِ فيها، فيَثبُتُ فيها حُكمُه. ولا نَعلَمُ في شَيءٍ مِن ذلك اختِلافًا). ((المغني)) (7/198). .
4- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (حُقوقُ العَقدِ تَتَعَلَّقُ بالعاقِدِ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- كُلُّ ما للمُضارِبِ أن يَعمَلَ بنَفسِه، فلَه أن يوكِّلَ فيه غَيرَه، وكُلُّ ما لا يَكونُ له أن يَفعَلَه بنَفسِه لا يَجوزُ فيه وَكالَتُه على رَبِّ المالِ؛ لأنَّه لمَّا لم يَملِكْ أن يَعمَلَ بنَفسِه فبوكيلِه أَولى [5401] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/88). .
2- لا يَصِحُّ تَوكيلُ الفاسِقِ في تَزويجِ ابنَتِه فإنَّه لا يَلي نِكاحَها بنَفسِه فلا يوكِّلُ، كما أنَّ المُحرِمَ لا يَجوزُ أن يَعقِدَ نِكاحَه فلا يوكِّلُ مَن يَعقِدُ نِكاحَه في حالةِ الإحرامِ، فلَو وكَّل مَن يَعقِدُ له بَعدَ التَّحَلُّلِ صَحَّتِ الوَكالةُ [5402] يُنظر: ((كفاية الأخيار)) للحصني (ص: 272). .
3- يَجوزُ لوَليِّ المَرأةِ في عَقدِ الزَّواجِ أن يوكِّلَ فيه غَيرَه، وليس للمَرأةِ أن تَمنَعَه مِنَ التَّوكيلِ؛ لأنَّ الوليَّ قائِمٌ مَقامَها في العَقدِ، والعَقدُ إليه، وليس لها مِنَ العَقدِ شَيءٌ، فإذا أذِنَت له في العَقدِ جازَ أن يوكِّلَ فيه غَيرَه، ولَم يَكُنْ لها أن تَمنَعَه مِنَ التَّوكيلِ [5403] يُنظر: ((عيون الأدلة)) لابن القصار (5/323). .
4- مَن وكَّلَ ذِمِّيًّا في شِراءِ خَمرٍ أو خِنزيرٍ، فاشتَراه له، لم يَصِحَّ الشِّراءُ؛ لأنَّ كُلَّ ما لا يَجوزُ للمُسلمِ العَقدُ عليه، لا يَجوزُ أن يوكِّلَ فيه، كَتَزَوُّجِ المَجوسيَّةِ [5404] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/254)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (13/521). .
5- إذا اشتَرى إنسانٌ شَيئًا مَعيبًا، ووكَّلَ غَيرَه أن يَفسَخَ البَيعَ مَعَ البائِعِ، وقال: أنا اشتَرَيتُ السَّيَّارةَ الفُلانيَّةَ مِن فُلانٍ، ووجَدتُ فيها عَيبًا، وأنا لن أُنازِعَه لأنَّه رَجُلٌ صاحِبُ قوَّةٍ وبَيانٍ، وقد وكَّلتُك أن تَفسَخَ البَيعَ مَعَه، فهذا جائِزٌ [5405] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (9/328). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ، مِنها: المَحجورُ عليه؛ فإنَّه لا يَملكُ التَّصَرُّفَ في شَيءٍ بنَفسِه، ويَملكُ أن يوكِّلَ غَيرَه في طَلاقِ امرَأتِه، وفي خُلعِها. وأمَّا المَحجورُ عليه للإفلاسِ فلا يَصِحُّ أن يوكِّلَ غَيرَه في بَيعِ أعيانِ مالِه، ويَجوزُ أن يوكِّلَ مَن يَشتَري له بثَمَنٍ في ذِمَّتِه؛ لأنَّه يَملِكُ ذلك بنَفسِه، فمَلَكَ التَّوكيلَ فيه [5406] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (6/402). .

انظر أيضا: