الفرعُ الأوَّلُ: العُقودُ تُصانُ عنِ النِّزاعِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "العُقودُ تُصانُ عنِ النِّزاعِ"
[4868] يُنظر: ((تحرير الفتاوى)) لابن العراقي (2/169)، ((فتح الوهاب)) لزكريا الأنصاري (1/271)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/130). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ ألفاظَ العُقودِ يَجِبُ أن تُصانَ عنِ النِّزاعِ ما أمكَنَ، فلا بُدَّ مِنَ العِلمِ بالعِوَضينِ في العَقدِ عِلمًا نافيًا للجَهالةِ ولا يَدعُ سَبيلًا للنِّزاعِ؛ وذلك لصيانةِ العَقدِ عنِ الجَهالةِ المُفضيةِ إلى المُنازَعةِ؛ لأنَّ الجَهالةَ تُؤَدِّي إلى تَنازُعِ المُتَعاقِدين، ويَصيرُ العَقدُ بها غَيرَ مُفيدٍ، وكُلُّ عَقدٍ يُؤَدِّي إلى النِّزاعِ فاسِدٌ
[4869] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/208)، ((الفوائد)) للعز بن عبد السلام (ص: 475)، ((تحرير الفتاوى)) لابن العراقي (2/169)، ((فتح الوهاب)) لزكريا الأنصاري (1/271)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (3/323)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/178). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (الأصلُ حَملُ العُقودِ على الصِّحَّةِ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ صيانةَ العُقودِ عن كُلِّ ما يُؤَدِّي إلى النِّزاعِ واجِبٌ قَدرَ الإمكانِ؛ لأنَّ الأصلَ حَملُ العُقودِ على الصِّحَّةِ ما أمكَنَ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:قال اللهُ تَعالى:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [البقرة: 282] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تَعالى لمَّا نَهى عنِ امتِناعِ الشُّهودِ إذا ما دُعُوا للشَّهادةِ نَهى أيضًا عنِ السَّآمةِ في كِتابةِ الدَّينِ، وكُلُّ ذلك ضَبطٌ لأموالِ النَّاسِ، وتَحريضٌ على أن لا يَقَعَ النِّزاعُ؛ لأنَّه مَتى ضُبطَ بالكِتابةِ والشَّهادةِ قَلَّ أن يَحصُلَ وهمٌ فيه أو إنكارٌ، أو مُنازَعةٌ في مِقدارٍ أو أجَلٍ أو وصفٍ. ونَصَّ على الأجَلِ للدَّلالةِ على وُجوبِ ذِكرِه، فيُكتَبُ كما يُكتَبُ أصلُ الدَّينِ ومَحَلُّه إن كان مِمَّا يُحتاجُ فيه إلى ذِكرِ المَحَلِّ، ونَبَّهَ بذِكرِ الأجَلِ على صِفةِ الدَّينِ ومِقدارِه؛ لأنَّ الأجَلَ بَعضُ أوصافِه، والأجَلُ هنا هو الوقتُ الذي اتَّفقَ المُتَدايِنانِ على تَسميَتِه
[4870] يُنظر: ((البحر المحيط)) لأبي حيان (2/736). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه قال:
((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم عن بَيعِ الحَصاةِ، وعَن بَيعِ الغَرَرِ )) [4871] أخرجه مسلم (1513). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّهيَ عن بَيعِ الغَرَرِ لقَطعِ النِّزاعِ؛ فإنَّ أصلَ الغَرَرِ هو ما طُويَ عنك عِلمُه، وخَفِي عليك باطِنُه وسِرُّه، فنَهى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن بَيعِ الغَرَرِ؛ تَحصينًا للأموالِ أن تَضيعَ، وقَطعًا للخُصومةِ والنِّزاعِ أن يَقَعا بَينَ النَّاسِ فيها، ومِن شُروطِ عَقدِ البَيعِ العِلمُ بمِقدارِ المَبيعِ لصيانةِ العَقدِ عنِ الجَهالةِ المُفضيةِ إلى المُنازَعةِ
[4872] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (3/88)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/208)، ((الفوائد)) للعز بن عبد السلام (ص: 475)، ((المجموع)) للنووي (9/311). .
3- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (الأصلُ حَملُ العُقودِ على الصِّحَّةِ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- مِن شُروطِ البَيعِ: العِلمُ بالمَبيعِ، فيُشتَرَطُ أن يَكونَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ المُتَعاقِدَينِ عالِمًا بالمَعقودِ عليه قَدرًا وصِفةً، فإن جُهِلَ أحَدُهما -المَبيعُ أوِ الثَّمَنُ- فسَدَ البَيعُ، وهو شَرطٌ لصيانةِ العَقدِ عنِ الجَهالةِ المُفضيةِ إلى المُنازَعةِ
[4873] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/208)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (2/261). .
2- يُشتَرَطُ في عَقدِ السَّلَمِ أن يَكونَ فيما يُمكِنُ ضَبطُه بالصِّفةِ: كالمَكيلِ والمَوزونِ والمَعدودِ والمَذروعِ، وعليه، فلا يَصِحُّ السَّلَمُ فيما لا يُمكِنُ أن يَنضَبطَ بالصِّفةِ؛ لأنَّه يَختَلفُ كَثيرًا، فيُفضي إلى المُنازَعةِ والشِّقاقِ، كما يُشتَرَطُ فيه أن يوصَفَ بما يَختَلفُ به الثَّمَنُ ظاهرًا بحَيثُ يَقطَعُ النِّزاعَ، كَأن يَذكُرَ الجِنسَ والنَّوعَ والبَلَدَ واللَّونَ والجَودةَ، ووَجهُ اشتِراطِ ذلك: أنَّ العِلمَ بالمَبيعِ شَرطٌ، والعِلمُ يَحصُلُ بالرُّؤيةِ أو بالوصفِ، والرُّؤيةُ مُتَعَذِّرةٌ، فلم يَبقَ إلَّا الوصفُ
[4874] يُنظر: ((أحكام عقد التمويل)) لعبدالله المعيدي (ص: 123). .
3- لا يَجوزُ بَيعُ شاةٍ غَيرِ مُعَيَّنةٍ مِن قَطيعِ غَنَمٍ؛ لأنَّه يَجِبُ أن يَكونَ المُشتَري عالمًا بالمَبيعِ على وجهٍ لا يَدعُ سَبيلًا للنِّزاعِ؛ لأنَّ جَهالةَ المَبيعِ تَمنَعُ مِن تَسليمِه وتَسَلُّمِه، وتُؤَدِّي إلى تَنازُعِ المُتَبايِعَينِ، ويَصيرُ العَقدُ بها غَيرَ مُفيدٍ، وكُلُّ عَقدٍ يُؤَدِّي إلى النِّزاعِ فاسِدٌ، فبيعُ المالِ المَجهولِ الذي يُؤَدِّي إلى النِّزاعِ بَينَ المُتَبايِعينِ فاسِدٌ
[4875] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/178). .
4- إذا أُطلِقَ لفظُ الزِّراعةِ -أي الإذن فيها- في الإعارةِ، كقَولِه: أعَرتُك للزَّارِعةِ أو لتَزرَعَها، صَحَّ، ويَزرَعُ ما شاءَ؛ لإطلاقِ اللَّفظِ، وإنَّما لم يَلزَمْه الاقتِصارُ على أخَفِّ الأنواعِ ضَرَرًا؛ لأنَّ المُطلَقاتِ إنَّما تُنَزَّلُ على الأقَلِّ إذا كانت بحَيثُ لو صُرِّحَ بهذا لصَحَّ، ولَو صُرِّحَ بذاكَ لم يَصِحَّ، فالمُطلَقاتُ هنا لم تُنَزَّلْ على الأقَلِّ ضَرَرًا لئَلَّا يُؤَدِّيَ إلى النِّزاعِ؛ لأنَّه لا يوقَفُ على حَدِّ الأقَلِّ ضَرَرًا، فيُؤَدِّي إلى النِّزاعِ، والعُقودُ تُصانُ عن ذلك
[4876] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (5/424)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (3/323)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/130). .