موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ السَّابعُ: التَّمليكُ يَرتَدُّ بالرَّدِّ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "التَّمليكُ يَرتَدُّ بالرَّدِّ"" [4658] يُنظر: ((الفروق)) للكرابيسي (2/245)، ((العناية)) للبابرتي (7/191). ، وصيغةِ: "التَّمليكُ يُرَدُّ برَدِّ المُتَمَلِّكِ" [4659] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/733). ، وصيغةِ: "يُرَدُّ ‌التَّمليكُ ‌بالرَّدِّ" [4660] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/414). ، وصيغةِ: "التَّمليكُ يَرتَدُّ قَبلَ قَبولِه" [4661] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (3/ 328). ، وصيغةِ: "ما فيه تَمليكُ مالٍ مِن وجهٍ قَبلَ الارتِدادَ بالرَّدِّ" [4662] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 84). ، وصيغةِ: "التَّمليكُ لا يَقومُ إلَّا بالإيجابِ والقَبولِ" [4663] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/ 6). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
إذا أرادَ شَخصٌ أن يُمَلِّكَ مالًا أو عَينًا مُعَيَّنةً لغَيرِه، وكان التَّمليكُ مَبنيًّا على الرِّضا، فإنَّ الطَّرَفَ الآخَرَ له الحَقُّ في رَدِّ هذا التَّمليكِ إذا لَم يَقبَلْه، وبالتَّالي إذا رَدَّ الطَّرَفُ الثَّاني التَّمليكَ فإنَّه يُلغى ولا يَنعَقِدُ، فعَمَليَّةُ التَّمليكِ لَيسَت نافِذةً إلَّا بموافقةِ الطَّرَفِ المُمَلَّكِ له، فإذا رَدَّ المَوهوبُ له أوِ المُشتَري أوِ المُتَمَلِّكُ العَرضَ، فإنَّ التَّمليكَ يُلغى [4664] يُنظر: ((الفروق)) للكرابيسي (2/245)، ((العناية)) للبابرتي (7/191)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/733) و (2/414). .
ثالثًا: أدلَّةُ القاعِدةِ.
دلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ:
1- عَن حَكيمِ بنِ حِزامٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: سَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأعطاني، ثُمَّ سَألتُه فأعطاني، ثُمَّ سَألتُه فأعطاني، ثُمَّ قال: ((يا حَكيمُ، إنَّ هذا المالَ خَضِرةٌ [4665] خَضِرةٌ: أي: غَضَّةٌ ناعِمةٌ طَريَّةٌ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (3/ 568). وتَأنيثُ خَضِرة لِما يَشتَمِلُ عليه المالُ مِن أنواعِ زَهَراتِ الدُّنيا. يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لقوام السنة (3/ 360). قال ابنُ حَجَرٍ: (شَبَّهَه بالرَّغبةِ فيه، والمَيل إلَيه، وحِرصِ النُّفوسِ عليه، بالفاكِهةِ الخَضراءِ المُستَلَذَّةِ؛ فإنَّ الأخضَرَ مَرغوبٌ فيه على انفِرادِه بالنِّسبةِ إلى اليابسِ، والحُلو مَرغوبٌ فيه على انفِرادِه بالنِّسبةِ للحامِضِ، فالإعجابُ بهما إذا اجتَمَعا أشَدُّ). ((فتح الباري)) (3/ 336). حُلوةٌ، فمَن أخَذَه بسَخاوةِ نَفسٍ بورِكَ له فيه، ومَن أخَذَه بإشرافِ نَفسٍ لَم يُبارَكْ له فيه، كالذي يَأكُلُ ولا يَشبَعُ، اليَدُ العُليا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلى))، قال حَكيمٌ: فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ لا أرزَأُ [4666] أي: لا آخُذُ مِن أحَدٍ شَيئًا بَعدَكَ. يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لقوام السنة (4/ 273). أحَدًا بَعدَكَ شَيئًا حَتَّى أُفارِقَ الدُّنيا. فكان أبو بَكرٍ يَدعو حَكيمًا إلى العَطاءِ، فيَأبى أن يَقبَلَه مِنه، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ دَعاه ليُعطيَه، فأبى أن يَقبَلَ مِنه شَيئًا، فقال عُمَرُ: إنِّي أُشهِدُكُم يا مَعشَرَ المُسلمينَ على حَكيمٍ أنِّي أعرِضُ عليه حَقَّه مِن هذا الفَيءِ [4667] أي: نَصيبَه مِنَ الفيءِ، والمُرادُ بالفيءِ ما حَصَلَ للمُسلمينَ مِن أموالِ الكُفَّارِ بغَيرِ جِهادٍ وحَربٍ. يُنظر: ((منحة الباري)) لزكريا الأنصاري (3/ 563)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 482). فيَأبى أن يَأخُذَه، فلَم يَرزَأْ حَكيمٌ أحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى توفِّيَ [4668] أخرجه البخاري (1472) واللفظ له، ومسلم (1035). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ أبا بَكرٍ وعُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما عَرَضا على حَكيمٍ رَضيَ اللهُ عنه حَقَّه مِنَ الفيءِ فلَم يَقبَلْه، فلَو صَحَّ تَمَلُّكُه بدونِ قَبولِه لَما عَرَضا عليه، وثَبَتَ به أنَّ التَّمليكَ يَرتَدُّ بالرَّدِّ؛ لأنَّ حَكيمًا رَدَّ حَقَّه، وقَبِلَ أبو بَكرٍ وعُمَرُ رَضيَ اللهُ عنهما ذلك منه [4669] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (3/504)، ((الكواكب الدراري)) للكرماني (8/17)، ((مصابيح الجامع)) للدماميني (3/434)، ((معلمة زايد)) (14/34). .
2- عَن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما ((أنَّ أعرابيًّا وهَبَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هبةً فأثابَه عليها، قال: رَضيتَ؟ قال: لا. فزادَه، قال: رَضيتَ؟ قال: لا. فزادَه، قال: رَضيتَ؟ قال: نَعَم. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَقد هَمَمتُ أن لا أتَّهِبَ هبةً إلَّا مِن قُرَشيٍّ أو أنصاريٍّ أو ثَقَفيٍّ)) [4670] أخرجه أحمد (2687)، واللفظ له، وابن حبان (6384)، والطبراني (11/18) (10897) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابنُ حبان، والعراقي في ((محجة القرب)) (351)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/240)، والألباني على شرط الشيخين في ((إرواء الغليل)) (6/48)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (2687). وأخرجه من طرُقٍ: الترمذي (3945)، والنسائي (3759)، وأحمد (7918) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ أبي هرَيرةَ رَضيَ الله عنه، ولَفظُ التِّرمِذيِّ: ((ولَقد هَمَمتُ أن لا أقبَلَ هَديَّةً إلَّا مِن قُرَشيٍّ، أو أنصاريٍّ، أو ثَقَفيٍّ، أو دَوسيٍّ)) صحَّحه ابن حبان في ((صحيحهـ)) (6383)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (2400)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3945). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هَمَّ أن لا يَقبَلَ هبةً وهَديَّةً إلَّا مِمَّن ذُكِرَ؛ إذ كانوا أهلَ حَواضِرَ وآدابٍ حَسَنةٍ، وذلك بخِلافِ أهلِ البَوادي والأعرابِ لغِلَظِ أخلاقِهم وجَهلِهم، فدَلَّ على أنَّ تَمَلُّكَها لا يَكونُ إلَّا بالقَبولِ، وأنَّ عَدَمَ القَبولِ يَمنَعُ التَّمليكَ، وهو مَضمونُ القاعِدةِ [4671] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/96)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (6/250)، ((منحة العلام)) لعبد الله الفوزان (7/45). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- يَجوزُ رَدُّ الهَديَّةِ والطَّعامِ المَبذولِ؛ لأنَّ الهَديَّةَ تَمليكٌ، والتَّمليكُ يَرتَدُّ بالرَّدِّ [4672] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (4/128)، ((المسالك في شرح موطأ مالك)) لابن العربي (2/419)، ((الفروع)) لابن مفلح (7/405). .
2- الإبراءُ مِنَ الدُّيونِ: فيَجوزُ رَفضُ الإبراءِ مِنَ الدُّيونِ؛ لأنَّه يَرتَدُّ بالرَّدِّ [4673] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/ 75). .
3- إذا أبرَأ البائِعُ المُشتَريَ عَن ثَمَنِ المَبيعِ صَحَّ مِن غَيرِ قَبولٍ، إلَّا أنَّه يَرتَدُّ بالرَّدِّ [4674] يُنظر: ((تحفة الفقهاء)) لعلاء الدين السمرقندي (2/ 19). .
خامسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ ما كان التَّمليكُ فيه بحُكمِ الشَّرعِ، وليس مِن جِهةِ الآدَميِّ، كَقِسمةِ اللهِ للمَواريثِ؛ فإنَّها تَثبُتُ مُباشَرةً للوارِثِ، كما قال السَّرَخسيُّ: ((الميراثُ يَثبُتُ مِن غَيرِ قَبولِ الوارِثِ ولا يَرتَدُّ بالرَّدِّ)) [4675] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (27/ 154). ويُنظر أيضًا: ((التهذيب)) للبغوي (5/ 92). .

انظر أيضا: