موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّامِنُ: مِلكُ المُبيحِ لا يَزولُ بالإباحةِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "مِلكُ المُبيحِ لا يَزولُ بالإباحةِ" [4676] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/2). ، وصيغةِ: "الإباحةُ لا تُزيلُ مِلكَ المُبيحِ" [4677] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (5/433). ، وصيغةِ: "مِلكُ المالكِ لَم يَزُلْ بالإباحةِ" [4678] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/ 73). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
إذا أباحَ شَخصٌ لغَيرِه الانتِفاعَ بشَيءٍ مَملوكٍ له، فإنَّ هذه الإباحةَ لا تُزيلُ مِلكيَّتَه لذلك الشَّيءِ، أي أنَّ المالكَ الأصليَّ يَظَلُّ مالكًا للعَينِ، والإباحةُ تُعطي فقَط للمُباحِ له حَقَّ الانتِفاعِ بالشَّيءِ دونَ نَقلِ المِلكيَّةِ، فيَجوزُ للمُبيحِ أن يَعودَ حينَئِذٍ في الإباحةِ، كما أنَّ المُباحَ له لا يَجوزُ له أن يَتَصَرَّفَ في الشَّيءِ تَصَرُّفَ المالكِ؛ لأنَّ المِلكيَّةَ لَم تَنتَقِلْ إلَيه، بَل ما زالَت في يَدِ المُبيحِ، فالإباحةُ تُجيزُ الانتِفاعَ بالشَّيءِ المُباحِ، ثُمَّ إن كان الانتِفاعُ به لا يُمكِنُ إلَّا بذَهابِ عَينِه كانتِ الإباحةُ قَبلَ إتلافِه غَيرَ لازِمةٍ، فهو باقٍ على مِلكِ مالكِه ولَه التَّصَرُّفُ فيه بأيِّ وجهٍ أرادَ، وليس للمُباحِ له التَّصَرُّفُ فيه بغَيرِ الوجه الذي أُبيحَ له وهو أكلُه مَثَلًا، فإذا أتلَفه بأكلِه أو نَحوِه تَبَيَّنَ أنَّه مَلَكَه قُبَيلَ إتلافِه، وإن كان الانتِفاعُ به مُمكِنًا مَعَ بَقاءِ عَينِه كالأرضِ، كانتِ الإباحةُ مُفيدةً لجَوازِ انتِفاعِه لا لمِلكِه العَينَ ولا المَنفعةَ، فلا يَجوزُ له إجارَتُه ولا إعارَتُه؛ لأنَّه إنَّما مَلَكَ أن يَنتَفِعَ، ولا فرقَ في ذلك كُلِّه بَينَ أن يُقَيِّدَ الإباحةَ بمُدَّةٍ أو يُطلِقَها [4679] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/2)، ((الفتاوى الكبرى)) للهيتمي (3/103)، ((المنثور)) للزركشي (1/73). .
ثالثًا: أدلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ:
1- عَن أبي أُمامةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((العاريَّةُ مُؤَدَّاةٌ، والمِنحةُ مَردودةٌ، والدَّينُ مَقضيٌّ، والزَّعيمُ غارِمٌ)) [4680] أخرجه أبو داود (3565)، والترمذي (2120) واللفظ لهما، وابن ماجه (2405، 2398) مفرقًا باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه القرطبي المفسر في ((التفسير)) (6/426)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (16/434)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3565)، وصححه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3565)، وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ أنَّ المِنحةَ -وهيَ ما يَمنَحُه الرَّجُلُ صاحِبَه كَأرضٍ يَزرَعُها مُدَّةً ثُمَّ يَرُدُّها، أو شاةٍ يَشرَبُ لَبَنَها ثُمَّ يَرُدُّها على صاحِبها، أو شَجَرةٍ يَأكُلُ ثَمَرَتَها- وجُملَتُها أنَّها تَمليكُ المَنفعةِ دونَ الرَّقَبةِ، وهيَ مِن مَعنى العَواريِّ، وحُكمُها الضَّمانُ كالعاريَّةِ [4681] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (3/176). .
2- عَن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه: (لمَّا قدِمَ المُهاجِرونَ المَدينةَ مِن مَكَّةَ، وليس بأيديهم -يَعني شَيئًا- وكانتِ الأنصارُ أهلَ الأرضِ والعَقارِ، فقاسَمَهمُ الأنصارُ على أن يُعطوهم ثِمارَ أموالِهم كُلَّ عامٍ، ويَكفوهمُ العَمَلَ والمُؤونةَ، وكانت أُمُّه أُمَّ أنَسٍ أُمُّ سُلَيمٍ كانت أُمَّ عَبدِ اللهِ بنِ أبي طَلحةَ، فكانت أعطَت أُمُّ أنَسٍ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِذاقًا، فأعطاهنَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمَّ أيمَنَ مَولاتَه أُمَّ أُسامةَ بنِ زَيدٍ. قال ابنُ شِهابٍ: فأخبَرَني أنَسُ بنُ مالكٍ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا فرَغَ مِن قَتلِ أهلِ خَيبَرَ، فانصَرَف إلى المَدينةِ رَدَّ المُهاجِرونَ إلى الأنصارِ مَنائِحَهمُ التي كانوا مَنَحوهم مِن ثِمارِهم، فرَدَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أُمِّه عِذاقَها، وأعطى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمَّ أيمَنَ مَكانهنَّ مِن حائِطِه [4682] أخرجه البخاري (2630) واللفظ له، ومسلم (1771). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قال القُرطُبيُّ: (فيه دَليلٌ على أنَّ ما وُهبَت مَنفعَتُه فإذا انقَضَت وجَبَ رَدُّ الأصلِ، ولا خِلافَ فيهـ) [4683] ((المفهم)) (4/589). .
وعَلَّقَ النَّوويُّ على الحَديثِ بأنَّه دَليلٌ على أنَّها كانت مَنائِحَ ثِمارٍ، أي: إباحةً للثِّمارِ لا تَمليكًا لرِقابِ النَّخلِ؛ فإنَّها لَو كانت هبةً لرَقَبةِ النَّخلِ لَم يَرجِعوا فيها؛ فإنَّ الرُّجوعَ في الهبةِ بَعدَ القَبضِ لا يَجوزُ، وإنَّما كانت إباحةً، والإباحةُ يَجوزُ الرُّجوعُ فيها مَتى شاءَ، ومَعَ هذا لَم يَرجِعوا فيها حَتَّى اتَّسَعَتِ الحالُ على المُهاجِرينَ بفتحِ خَيبَرَ واستَغنَوا عَنها فرَدُّوها على الأنصارِ فقَبِلوها [4684] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (12/100). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لَو قال: قد أطعَمتُكَ هذه الأرضَ، فإنَّما أطعَمَه غَلَّتَها، والرَّقَبةُ لصاحِبها؛ لأنَّ عَينَها لا تُطعَمُ، فمَعناه: أطعَمتُكَ ما يَحصُلُ مِنها، فيَكونُ تَمليكًا لمَنفعةِ الأرضِ دونَ عَينِها [4685] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (12/95). .
2- إذا أباحَ أحَدٌ لآخَرَ شَيئًا مِن مَطعوماتِه فأخَذَه فلَيسَ له التَّصَرُّفُ فيه بوجهٍ مِن لَوازِمِ التَّمَلُّكِ، كالبَيعِ والهبةِ، ولَكِن له الأكلُ والتَّناوُلُ مِن ذلك الشَّيءِ، وليس لصاحِبِ الطَّعامِ المُطالَبةُ بثَمَنِه بَعدَ ذلك [4686] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/479). .
3- إذا أخَذَ صَيدًا مَلَكَه، وإذا أرسَلَه لا يَزولُ مِلكُه، فإذا قال: أبَحتُ لكُلِّ مَن أخَذَه أكلَه وجَبَ أن لا يَجوزَ للآخِذِ بَيعُه، إنَّما يَحِلُّ له أكلُه؛ لأنَّ مِلكَ المالكِ لَم يَزُلْ بالإباحةِ، كالضَّيفِ يَأكُلُ الطَّعامَ ولا يَبيعُه [4687] يُنظر: ((فتاوى ابن الصلاح)) (2/708)، ((المنثور)) للزركشي (1/73). .
4- الكِسوةُ في كَفَّارةِ اليَمينِ إذا أُعيرَت للفُقَراءِ بلا تَمليكٍ لا تُجزِئُ في الكَفَّارةِ؛ لأنَّه يَحصُلُ بالتَّمليكِ دونَ التَّمكينِ [4688] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (7/ 15). .

انظر أيضا: