موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ التَّاسِعُ: كُلُّ ما لا يُضمَنُ مِنَ المُتلَفاتِ المَأخوذةِ بإشهادٍ لا يُضمَنُ إذا أُخِذَ بغَيرِ إشهادٍ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "كُلُّ ما لا يُضمَنُ مِنَ المُتلَفاتِ المَأخوذةِ بإشهادٍ لا يُضمَنُ إذا أُخِذَ بغَيرِ إشهادٍ" [3973] يُنظر: ((القواعد الفقهية من خلال كتاب الإشراف للقاضي عبد الوهاب البغدادي)) لمحمد الروكي (ص: 348). ونَصُّ العِبارةِ عِندَ القاضي عبدِ الوهَّابِ في كِتابِه: (كُلُّ ما تَلِفَ وقد أُخِذَ بإشهادٍ لَم يَضمَنْه، فإذا تَلِف وقد أُخِذَ بغَيرِ إشهادٍ لَم يَضمَنْهـ). ((الإشراف)) (2/681). ، ويُمكِنُ أن يُعَبَّرَ عنها أيضًا بـ "لا أثَرَ للإشهادِ في سُقوطِ الضَّمانِ" [3974] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية في الضمان المالي)) لحمد الهاجري (ص: 684). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
العُقودُ التي تَكونُ يَدُ الآخِذِ فيها يَدَ أمانةٍ إذا أخَذَها بإشهادٍ فتَلِفَت مِنه بلا تَعَدٍّ ولا تَقصيرٍ، لا ضَمانَ عليه فيها، فكَذلك لا يَضمَنُ إذا أخَذَها بغَيرِ إشهادٍ، فلا تَأثيرَ للشَّهادةِ في إسقاطِ الضَّمانِ ولا في ثُبوتِه، فكُلُّ ما لا يُضمَنُ إذا أُخِذَ بإشهادٍ فإنَّه لا يُضمَنُ أيضًا إذا أُخِذَ بغَيرِ إشهادٍ. وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكَمِّلةً لقاعِدةِ (الأصلُ عَدَمُ الضَّمانِ) [3975] يُنظر: ((الإشراف)) لعبد الوهاب (2/681)، ((القواعد الفقهية من خلال كتاب الإشراف للقاضي عبد الوهاب البغدادي)) لمحمد الروكي (ص: 348)، ((القواعد والضوابط الفقهية في الضمان المالي)) لحمد الهاجري (ص: 684)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/611). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقياسِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن زَيدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنيِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: سُئِلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ اللُّقَطةِ: الذَّهَبِ أوِ الوَرِقِ؟ فقال: (اعرِفْ وِكاءَها [3976] قال النَّوويُّ: (أمَّا الوِكاءُ فهو الخَيطُ الذي يُشَدُّ به الوِعاءُ). ((شرح مسلم)) (12/ 21). وعِفاصَها [3977] قال النَّوويُّ: (أمَّا العِفاصُ فبكَسرِ العَينِ وبالفاءِ والصَّادِ المُهمَلةِ، وهو الوِعاءُ الذي تَكونُ فيه النَّفقةُ، جِلدًا كان أو غَيرَه، ويُطلقُ العِفاصُ أيضًا على الجِلدِ الذي يَكونُ على رَأسِ القارورةِ؛ لأنَّه كالوِعاءِ له، فأمَّا الذي يَدخُلُ في فمِ القارورةِ مِن خَشَبٍ أو جِلدٍ أو خِرقةٍ مَجموعةٍ ونَحوِ ذلك، فهو الصِّمامُ بكَسرِ الصَّادِ). ((شرح مسلم)) (12/ 21). ، ثُمَّ عَرِّفْها سَنةً، فإن لَم تَعرِفْ فاستَنفِقْها، ولتَكُنْ وديعةً عِندَك؛ فإن جاءَ طالِبُها يَومًا مِنَ الدَّهرِ فأدِّها إليهـ). وسَألَه عن ضالَّةِ الإبِلِ؟ فقال: (ما لَك ولَها؟ دَعْها؛ فإنَّ مَعَها حِذاءَها وسِقاءَها، تَرِدُ الماءَ وتَأكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَها رَبُّها). وسَألَه عنِ الشَّاةِ؟ فقال: (خُذْها؛ فإنَّما هيَ لَك أو لأخيك أو للذِّئبِ) [3978] أخرجه البخاري (2428)، ومسلم (1722) واللفظ له .
- وعَن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: إنِّي وجَدتُ صُرَّةً فيها مِائةُ دينارٍ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأتَيتُ بها رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: (عَرِّفْها حَولًا، قال: فعَرَّفتُها فلَم أجِدْ مَن يَعرِفُها، ثُمَّ أتَيتُه، فقال: عَرِّفْها حَولًا، فعَرَّفتُها فلَم أجِدْ مَن يَعرِفُها، ثُمَّ أتَيتُه فقال: عَرِّفها حَولًا، فعَرَّفتُها فلَم أجِدْ مَن يَعرِفُها، فقال: احفَظْ عَدَدَها ووِعاءَها ووِكاءَها، فإن جاءَ صاحِبُها وإلَّا فاستَمتِعْ بها) [3979] أخرجه البخاري (2426)، ومسلم (1723) واللفظ له .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثَينِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (أمَرَهما بالتَّعريفِ دونَ الإشهادِ، ولا يَجوزُ تَأخيرُ البَيانِ عن وقتِ الحاجةِ، فلَو كان واجِبًا لبَيَّنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، سيَّما وقد سُئِلَ عن حُكمِ اللُّقَطةِ فلَم يَكُنْ ليُخِلَّ بذِكرِ الواجِبِ فيها) [3980] ((المغني)) لابن قدامة (8/ 309). .
2- مِنَ القياسِ:
وذلك بالقياسِ على المَغصوباتِ؛ حَيثُ أجمع العُلَماءُ على أنَّ المَغصوباتِ لَو شَهدَ الغاصِبُ على نَفسِه أنَّه غَصَبَها لَم يُدخِلْها إشهادُه ذلك في حُكمِ الأماناتِ، فكَذلك تَركُ الإشهادِ على الأماناتِ لا يُدخِلُها في حُكمِ المَغصوباتِ [3981] يُنظر: ((اختلاف العلماء)) للجصاص (4/345)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/564). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- إذا تَلِفَت اللُّقَطةُ في يَدِ المُلتَقِطِ فإن كان قد أشهَدَ حينَ التِقاطِها أنَّه أخَذَها للتَّعريفِ فلا ضَمانَ عليه، وإن لم يُشهِدْ فلا ضَمانَ عليه أيضًا؛ لأنَّ كُلَّ ما تَلِفَ وقد أُخِذَ بإشهادٍ لَم يَضمَنْه، فكَذلك إذا تَلِف وقد أُخِذَ بغَيرِ إشهادٍ لَم يَضمَنْه [3982] يُنظر: ((اختلاف العلماء)) للجصاص (4/345)، ((الإشراف)) لعبد الوهاب (2/681)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/564). .
2- الوديعةُ إذا تَلِفَت بدونِ تَعَدٍّ ولا تَقصيرٍ فلا ضَمانَ على المودَعِ، سَواءٌ أخَذَها بإشهادٍ أو بغَيرِ إشهادٍ [3983] يُنظر: ((الهداية)) للكلوذاني (ص: 308)، ((البيان)) للعمراني (6/474)، ((المغني)) لابن قدامة (9/257). .

انظر أيضا: