موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّامِنُ: ما حُرِّمَ الانتِفاعُ به لَم يَجِبْ ضَمانُه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما حُرِّمَ الانتِفاعُ به لم يَجِبْ ضَمانُه" [3958] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/426)، ((الكنز الأكبر)) لابن داود (ص: 215). ، وصيغةِ: "كُلُّ ما لا يَجوزُ مِلكُه لا ضَمانَ فيه" [3959] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (8/556). ، وصيغةِ: "ما حُرِّم الانتِفاعُ به لَم يُضمَنْ ببَدَلٍ" [3960] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/ 208)، ((تكملة المطيعي على المجموع)) (14/ 275). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
ما لا يَجوزُ للشَّخصِ تَمَلُّكُه وما لا يَجوزُ له الانتِفاعُ به لا يَجِبُ فيه الضَّمانُ، فلَو أتلَف شَخصٌ على آخَرَ ما لا يَجوزُ له تَملُّكُه شَرعًا أو ما لا يَصِحُّ الانتِفاعُ به، فلا ضَمانَ عليه، وقد يُعَزَّرُ مِن جِهةِ الحاكِمِ لافتياتِه على حَقِّ الآخَرينَ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكَمِّلةً لقاعِدةِ (الأصلُ عَدَمُ الضَّمانِ) [3961] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/426). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ النَّبَويَّةُ، والإجماعُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَعَنَ اللهُ اليَهودَ؛ حُرِّمَت عليهمُ الشُّحومُ فباعوها وأكَلوا أثمانَها، وإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ إذا حَرَّمَ على قَومٍ أكلَ شَيءٍ حَرَّمَ عليهم ثَمَنَه )) [3962] أخرجه أبو داود (3488)، وأحمد (2221) واللفظ له صححه ابن حبان في ((صحيحهـ)) (4938)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/267)، والشوكاني في ((السيل الجرار)) (4/113)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3488)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (650)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2221). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ الحَديثُ على حُرمةِ أكلِ ثَمَنِ ما حَرَّمَه اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وأكلُ الثَّمَنِ عامٌّ قد يَكونُ بالبَيعِ أو بالضَّمانِ، فكَما لا يَصلُحُ ما لا يُنتَفَعُ به للبَيعِ، لا يَصلُحُ للضَّمانِ حينَئِذٍ [3963] يُنظر: ((رسوخ الأحبار)) للجعبري (ص: 412)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/447). .
- وعَن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه ((أنَّ أبا طَلحةَ رَضيَ اللهُ عنه سَألَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أيتامٍ وَرِثوا خَمرًا. قال: أهرِقْها. قال: أفلا أجعَلُها خَلًّا؟ قال: لا )) [3964] أخرجه أبو داود (3675) واللفظ له، وأحمد (12189). صححه النووي في ((المجموع)) (2/575)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/630)، وابن القيم في ((إعلام الموقعين)) (2/296)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3675)، وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (3/998): أصله في مسلم. والحَديثُ أصلُه في صَحيحِ مُسلمٍ (1983) ولَفظُه: عَن أنَسٍ ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم سُئِلَ عَنِ الخَمرِ تُتَّخَذُ خَلًّا، فقال: لا)). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَه بإهراقِ الخَمرِ لمَّا لم يَحِلَّ مِلكُها ولا الانتِفاعُ بها شَرعًا، فلَو كانت مَضمونةً لما أمَرَه بإهلاكِها [3965] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/263)، ((الاستذكار)) لابن عبد البر (8/30)، ((المفهم)) للقرطبي (5/260). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (فلَو كان هذا جائِزًا لَكان قد ضَيَّعَ على الأيتامِ مالَهم، ولَوجَبَ الضَّمانُ على مَن أراقَها عليهم، وهو: أبو طَلحةَ. وكُلُّ ذلك لَم يَلزَمْ) [3966] ((المفهم)) (5/260). .
2- مِنَ الإجماعِ:
فقد نَقَلَ ابنُ المُنذِرِ الإجماعَ على أنَّه لا قَطعَ على المُسلمِ الذي يَسرِقُ مِنَ المُسلمِ خَمرًا [3967] قال: (أجمَعَ كُلُّ مَن نَحفظُ عَنه مِن أهلِ العِلمِ على أنْ لا قَطعَ على المُسلمِ يَسرِقُ مِنَ المُسلمِ خَمرًا). ((الأوسط)) (12/ 359). .
ووَجهُ الدَّلالةِ مِن هذا الإجماعِ:
هو أنَّه لَمَّا كان الخَمرُ لا ثَمَنَ لَها لَم يَجُزْ قَطعُ اليَدِ فيها؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما أمَرَ بالقَطعِ فيما يَجوزُ مِلكُه، والشَّيءُ الذي لا يَجوزُ مِلكُه لا ثَمَنَ له، وإذا لَم يَكُنْ له ثَمَنٌ فغَيرُ جائِزٍ أن يُغَرَّمَ المُتلِفُ قيمَتَه [3968] ((الأوسط)) لابن المنذر (12/ 360). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- إن وَجَدَ مَيتةً فأتلَفَها على مالكِها لَم يَلزَمْه ضَمانُها؛ لأنَّ الميتةَ يَحرُمُ الانتِفاعُ بها، وما حَرُم الانتِفاعُ به لم يَجِبْ ضَمانُه [3969] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/426). .
2- إن كَسَر لمُسلمٍ صَليبًا، لَم يَضمَنْه؛ لأنَّه يَحرُمُ تَمَلُّكُه، وما يَحرُمُ تَمَلُّكُه لا ضَمانَ فيه [3970] يُنظر: ((الهداية)) للكلوذاني (ص: 318)، ((عمدة الحازم)) لابن قدامة (ص: 358). .
3- إن غَصَبَ خَمرًا لمُسلمٍ، لَم يَضمَنْه؛ لأنَّها يَحرُمُ تَمَلُّكُها والانتِفاعُ بها، ويَجِبُ إهراقُها، فلا ضَمانَ فيها [3971] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/ 208). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ:
غَصبُ الخَمرِ مِن مُسلمٍ: إن تَحَوَّلَت إلى خَلٍّ لَزِمَه رَدُّه على صاحِبِه؛ لأنَّه صارَ خَلًّا على حُكمِ مِلكِه، فلَزِمَه رَدُّه إليه، فإن تَلِفَ ضَمِنَه؛ لأنَّه مالٌ للمَغصوبِ مِنه تَلِفَ في يَدِ الغاصِبِ، فضَمِنَه [3972] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/ 208). .

انظر أيضا: