الفرعُ الثَّاني: الأصلُ أنَّ المَنافِعَ غَيرُ مَضمونةٍ بالإتلافِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ. استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأصلُ أنَّ المَنافِعَ غَيرُ مَضمونةٍ بالإتلافِ"
[3877] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/285). ، وصيغةِ: "المَنافِعُ لا تُضمَنُ بالإتلافِ"
[3878] يُنظر: ((أصول الشاشي)) (ص: 158)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 92). ، وصيغةِ: "المَنافِعُ لا تَتَقَوَّمُ إلَّا بالعَقدِ"
[3879] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/77)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/76). ، وصيغةِ: "المَنافِعُ لا تَتَقَوَّمُ إلَّا بالتَّسميةِ"
[3880] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/127). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ. المَنفعةُ هيَ: الفائِدةُ النَّاتِجةُ مِنَ الأعيانِ، كَسُكنى الدَّارِ، ورُكوبِ السَّيَّارةِ، ولُبسِ الثَّوبِ، ونَحوِ ذلك، والمَنافِعُ التي يَستَهلِكُها الإنسانُ بدونِ عَقدٍ لا يَلزَمُه ضَمانُها عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّها ليست مالًا، فلَوِ استَعمَلَ أحَدٌ مالًا بدونِ إذنِ صاحِبِه واستَوفى مَنفعَتَه أو عَطَّلَها، أي: إنَّه أخَذَ المالَ وأمسَكَه عِندَه، ولَم يَستَعمِلْه ومَنَعَ بذلك صاحِبَ المالِ مِنِ استِعمالِه، فهو مِن قَبيلِ غَصبِ المَنافِعِ، لا يَلزَمُه ضَمانُ تلك المَنفعةِ المَغصوبةِ، أي: لا يَجِبُ عليه دَفعُ أُجرةٍ مُقابلَ انتِفاعِه به، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكَمِّلةً لقاعِدةِ (الأصلُ عَدَمُ الضَّمانِ)
[3881] يُنظر للمعنى الإجماليِّ: ((أصول الشاشي)) (ص: 158)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 92)، ((المبسوط)) للسرخسي (11/77)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/76، 285)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/685). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ. مِمَّا دَلَّ على هذه القاعِدةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ: المَعقولُ:
وهو أنَّ صِفةَ الماليَّةِ للشَّيءِ إنَّما تَثبُتُ بالتَّمَوُّلِ، والتَّمَوُّلُ صيانةُ الشَّيءِ وادِّخارُه لوقتِ الحاجةِ، والمَنافِعُ لا تَبقى وقتَينِ، ولَكِنَّها أعراضٌ كُلَّما تَخرُجُ مِن حَيِّزِ العَدَمِ إلى حَيِّزِ الوُجودِ تَتَلاشى، فلا يُتَصَوَّرُ فيها التَّمَوُّلُ؛ ولهذا لا يتَقَوَّمُ في حَقِّ الغُرَماءِ والورَثةِ، حَتَّى إنَّ المَريضَ إذا أعانَ إنسانًا بيَدَيه أو أعارَه شَيئًا فانتَفعَ به، لا يُعتَبَرُ خُروجُ تلك المَنفعةِ مِنَ الثُّلثِ
[3882] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/79). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ. مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لَوِ استَأجَرَ امرَأةً لتُرضِعَ صَبيًّا له في بَيتِها فدَفعَته إلى خادِمَتِها فأرضَعَته حَتَّى انقَضى الأجَلُ ولَم تُرضِعْه بنَفسِها، فلَها أجرُها؛ لأنَّها التَزَمَت فِعلَ الإرضاعِ، فلا يَتَعَيَّنُ عليها مُباشَرَتُه بنَفسِها، فسَواءٌ أقامَت بنَفسِها أو بخادِمِها فقد حَصَلَ مَقصودُ أهلِ الصَّبيِّ، وكَذلك لَو أرضَعَته حَولًا، ثُمَّ يَبِسَ لبَنُها فأرضَعَته خادِمَتُها حَولًا آخَرَ، فلَها الأجرُ كامِلًا، وكَذلك لَو كانت تُرضِعُه هيَ وخادِمَتُها فلَها الأجرُ تامًّا، ولا شَيءَ لخادِمَتِها؛ لأنَّ المَنافِعَ لا تَتَقَوَّمُ إلَّا بالتَّسميةِ، ففيما زادَ على المَشروطِ لا تَسميةَ في حَقِّها ولا في حَقِّ خادِمَتِها
[3883] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/127). .
2- إذا عَمِلَ الصَّانِعُ على ما أرادَ رَبُّ الثَّوبِ ثُمَّ اختَلَفا، فقال رَبُّ الثَّوبِ: عَمِلتَه بلا أُجرةٍ، وقال الصَّانِعُ: بَل عَمِلتُه بأُجرةٍ، فالقَولُ قَولُ رَبِّ الثَّوبِ عِندَ أبي حَنيفةَ؛ لأنَّ المَنافِعَ لا تَتَقَوَّمُ إلَّا بعَقدٍ، والصَّانِعُ يَدَّعيه، ورَبُّ الثَّوبِ يُنكِرُه، فلا يُصَدَّقُ، وقال أبو يوسُفَ: إن كان حَريفًا وعادَتُه أن يَعمَلَ بأُجرةٍ فلَه الأُجرةُ؛ لأنَّ المُعتادَ كالمَنطوقِ به في العَقدِ، كَنَقدِ البَلَدِ، وقال مُحَمَّدٌ: إن كان الصَّانِعُ مُنتَدَبًا لهذه الصَّنعةِ وهيَ حِرفتُه فالقَولُ قَولُه أنَّه بأُجرةٍ؛ لأنَّ الظَّاهرَ مَعَه في ذلك
[3884] يُنظر: ((روضة القضاة)) لابن السمناني (2/491). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ. فائِدةٌ: انفرَدَ بذِكرِ هذه القاعِدةِ الحَنَفيَّةُ، وخالَفهمُ الجُمهورُ مِنَ المالكيَّةِ والشَّافِعيَّةِ والحَنابلةِ؛ فعِندَهم جَميعًا أنَّ المَنافِعَ لَها صِفةُ الماليَّةِ، فتُضمَنُ إذا تَلِفَت، وقد دَعا بَعضُ فُقَهاءِ الحَنَفيَّةِ المُعاصِرينَ إلى الأخذِ بقَولِ الجُمهورِ بضَمانِ المَنفعةِ لِما لَها مِن قيمةٍ، فقال: (وللمَنافِعِ قيمةٌ كُبرى في هذا الزَّمانِ، كما لَو أنشَأ أحَدٌ بنَفسِه قَصرًا للاصطيافِ، وكان أجرُ المِثلِ السَّنَويِّ لهذا القَصرِ سَبعينَ جُنَيهًا، فانتَهَزَ شَخصٌ آخَرُ غيابَ صاحِبِ القَصرِ وسَكَنه مُدَّةَ ثَلاثِ سَنَواتٍ غَصبًا، فعلى رَأيِ الأئِمَّةِ الحَنَفيَّةِ لا يَلزَمُه أجرٌ. أمَّا عِندَ الشَّافِعيِّ فيَلزَمُه، وبما أنَّ المُتَأخِّرينَ مِن فُقَهاءِ الحَنَفيَّةِ قالوا بضَمانِ المَنفَعةِ في مالِ الوقفِ واليَتيمِ، فيَجِبُ على فُقَهاءِ عَصرِنا هذا أن يَتَشاوَروا ويَتَّخِذوا قَرارًا بخُصوصِ قَبولِ مَذهَبِ الشَّافِعيِّ في عُمومِ مَنافِعِ الأموالِ، وأن يَستَحصِلَ على إرادةٍ سَنيَّةٍ بالعَمَلِ بهـ)
[3885] ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/686). ، وقال وهبةُ الزحيليُّ: (حَصَرَ الحَنَفيَّةُ مَعنى المالِ في الأشياءِ أوِ الأعيانِ المادِّيَّةِ، أي: التي لَها مادَّةٌ وجِرمٌ مَحسوسٌ. وأمَّا المَنافِعُ والحُقوقُ فليست أموالًا عِندَهم، وإنَّما هيَ مِلكٌ لا مالٌ. وغَيرُ الحَنَفيَّةِ اعتَبَروها أموالًا؛ لأنَّ المَقصودَ مِنَ الأشياءِ مَنافِعُها لا ذَواتُها، وهذا هو الرَّأيُ الصَّحيحُ المَعمولُ به في القانونِ وفي عُرفِ النَّاسِ ومُعامَلاتِهم، ويَجري عليها الإحرازُ والحيازةُ)
[3886] ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (4/2877). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش