الفرعُ الرَّابعُ: إتلافُ ما ليس بمُتَقَوِّمٍ لا يوجِبُ الضَّمانَ.
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "إتلافُ ما ليس بمُتَقَوِّمٍ لا يوجِبُ الضَّمانَ"
[3900] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/151). ، وصيغةِ: "ما لا قيمةَ له لا يُضمَنُ"
[3901] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/208). ، وصيغةِ: "إتلافُ غَيرِ المُتَقَوِّمِ لا يوجِبُ الضَّمانَ"
[3902] يُنظر: ((البناية)) للعيني (11/266). ، وصيغةِ: "إتلافُ ما ليس بمتَقَوِّمٍ لا يَكونُ سَبَبًا للضَّمانِ"
[3903] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/313). ، وصيغةِ: "ما لا قيمةَ له لا تَصِحُّ المُعاوَضةُ عليه"
[3904] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (5/262). ، وصيغةِ: "ما لا ماليَّةَ له لا حُرمةَ له"
[3905] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (8/275). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.الأشياءُ التي لَها قيمةٌ في الشَّرعِ والعُرفِ إذا تَلِفَت يَجري فيها الضَّمانُ بحَسَبِها، أمَّا الأشياءُ التي لا قيمةَ لَها في الشَّرعِ والعُرفِ فلا يَجري فيها الضَّمانُ، بَل تُعتَبَرُ الجِنايةُ عليها وإتلافُها هَدرًا لا ضَمانَ فيه، فإذا أتلَف شَخصٌ لغَيرِه ما ليس متقوِّمًا فلا يَجِبُ عليه الضَّمانُ، وتُعتَبُرُ هذه القاعِدةُ مُكَمِّلةً لقاعِدةِ (الأصلُ عَدَمُ الضَّمانِ)
[3906] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/208)، ((المبسوط)) للسرخسي (6/151)، ((البناية)) للعيني (11/266). .
ولا يَلزَمُ مِن كَونِ الشَّيءِ غَيرَ مُتَقَوِّمٍ ألَّا يُنتَفعَ به؛ فقد يَكونُ مُنتَفَعًا به بوجهٍ لَكِنَّه في باب القيمةُ لا قيمةَ له، كلَبَنِ الآدَميَّةِ المُدرَجِ في الأمثِلةِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بقاعِدةِ (المَعدومُ شَرعًا كالمَعدومِ حِسًّا)؛ وذلك لأنَّ المُعتَبَرَ في التَّقويمِ إنَّما هو مُراعاةُ المَنفَعةِ التي أذِنَ الشَّارِعُ فيها، وما لا يُؤذَنُ فيه فلا عِبرةَ به، فلا تُعتَبَرُ قيمَتُه؛ لأنَّ المَعدومَ شَرعًا كالمَعدومِ حِسًّا
[3907] يُنظر: ((شرح حدود ابن عرفة)) للرصاع (ص: 505). .
ويُستَدَلُّ أيضًا بالسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ:
فعَن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه
((أنَّ أبا طَلحةَ رَضيَ اللهُ عنه سَألَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أيتامٍ وَرِثوا خَمرًا. قال: أهرِقْها. قال: أفلا أجعَلُها خَلًّا؟ قال: لا )) [3908] أخرجه أبو داود (3675) واللفظ له، وأحمد (12189). صَحَّحَه النَّوويُّ في ((المجموع)) (2/575)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/630)، وابن القيم في ((إعلام الموقعين)) (2/296)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3675)، وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (3/998): أصلُه في مسلم. والحَديثُ أصلُه في صَحيحِ مُسلمٍ (1983) ولَفظُه: عَن أنَسٍ ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم سُئِلَ عَنِ الخَمرِ تُتَّخَذُ خَلًّا، فقال: لا)). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ بإراقةِ الخَمرِ؛ فدَلَّ على عَدَمِ تَقَوُّمِها، وعَدَمِ ضَمانِ إتلافِها
[3909] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/ 208)، ((المفهم)) للقرطبي (5/ 260)، ((القواعد والضوابط الفقهية في الضمان المالي)) للهاجري (2/505)، ((أحكام الغصب)) لشرارة (ص: 74). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إن شَهدَ رَجُلانِ بالدُّخولِ ورَجُلانِ بالطَّلاقِ، فألزَم القاضي الزَّوجَ كَمالَ المَهرِ، ثُمَّ رَجَعَ شاهِدَا الطَّلاقِ فلا شَيءَ عليهما عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّ شاهدَيِ الدُّخولِ ثابتانِ على الشَّهادةِ، فصارَ كَأنَّ الدُّخولَ ثابتٌ بإقرارِ الزَّوجِ، فبَقيَت شَهادةُ الآخَرينِ بالطَّلاقِ بَعدَ الدُّخولِ، وذلك غَيرُ موجِبٍ للضَّمانِ عليهما إذا رَجَعا عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّ البُضعَ عِندَ خُروجِه مِن مِلكِ الزَّوجِ غَيرُ مُتَقَوِّمٍ، وإتلافُ ما ليس بمُتَقَوِّمٍ لا يوجِبُ الضَّمانَ عليهما
[3910] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/151). .
2- مَن أتلَف خَمرًا لمُسلمٍ أو خِنزيرًا أو كَلبًا أو كَسَرَ صَليبًا أو آلةَ لَهوٍ، لَم يَضمَنْ؛ لأنَّ ما أتلَفَه لا قيمةَ له شَرعًا، والدَّليلُ عليه ما رَوى جابرٌ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ فتحِ مَكَّةَ:
((إنَّ اللَّهَ ورَسولَه حَرَّمَ بَيعَ الخَمرِ والميتةِ والخِنزيرِ والأصنامِ )) [3911] أخرجه البخاري (2236)، ومسلم (1581). ؛ فدَلَّ على أنَّه لا قيمةَ له، وما لا قيمةَ له لا يُضمَنُ
[3912] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (2/208، 209)، ((المحرر)) لابن تيمية (1/363)، ((الفتاوى الهندية)) (5/160). .
3- لَبَنُ الآدَميَّةِ ليس بمالٍ مُتَقَوِّمٍ عِندَ الحَنَفيَّةِ، فلا يَجوزُ بَيعُه، ولا يَضمَنُ مُتلِفُه، كالبُزاقِ والمُخاطِ والعَرَقِ، وبَيانُه أنَّ المالَ اسمٌ لِما هو مَخلوقٌ لإقامةِ مَصالحِنا به مِمَّا هو غَيرُنا، فأمَّا الآدَميُّ فخُلِقَ مالكًا للمالِ، وبَينَ كَونِه مالًا وبَينَ كَونِه مالكًا للمالِ مُنافاةٌ
[3913] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (15/125). .
4- مِنَ التَّطبيقاتِ المُعاصِرةِ أنَّه لا ضَمانَ على مَن أتلَف المُخَدِّراتِ والمُسكِراتِ
[3914] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية في الضمان المالي)) للهاجري (ص: 508). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.فائِدةٌ:المُرادُ بالإتلافِ: إخراجُ الشَّيءِ مِن أن يَكونَ مُنتَفَعًا به مَنفعةً مَطلوبةً مِنه عادةً، أو هو كُلُّ نَقصٍ أو فسادٍ يَدخُلُ على الأعيانِ
[3915] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/ 164)، ((ضمان المتلفات المالية بفعل الآدمي)) للصاعدي (ص: 49). .
وهو نَوعانِ:
1- إتلافُ الشَّيءِ صورةً ومَعنًى.
2- إتلافُ الشَّيءِ مَعنًى لا صورةً، وهو إحداثُ مَعنًى فيه يَمنَعُ مِن أن يَكونَ مُنتَفَعًا به مَعَ قيامِه في حَقيقَتِه، وكِلا النَّوعَينِ إتلافٌ
[3916] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/ 165)، ((ضمان المتلفات المالية بفعل الآدمي)) للصاعدي (ص: 49). .