موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الخامِسُ: الضَّمانُ بالشَّكِّ لا يَجِبُ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الضَّمانُ بالشَّكِّ لا يَجِبُ" [3917] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (7/141). ، وصيغةِ: "الضَّمانُ الواجِبُ لحَقِّ العِبادِ غَيرُ مَبنيٍّ على الاحتياطِ، فلا يَجِبُ في مَوضِعِ الشَّكِّ" [3918] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/88). ، وصيغةِ: "مَعَ اشتِباهِ السَّبَبِ لا يَجِبُ الضَّمانُ" [3919] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (26/90). ، وصيغةِ: "إذا وقع الشَّكُّ لا يَجِبُ الضَّمانُ" [3920] يُنظر: ((مجمع الضمانات)) لغانم البغدادي (ص: 180). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
حُقوقُ العِبادِ لا تُبنى على الاحتياطِ؛ لأنَّ مَبناها على التَّنازُعِ والتَّشاحُنِ، بخِلافِ حُقوقِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فمِن ثَمَّ لا يَجِبُ الضَّمانُ فيها بالشَّكِّ، فإذا حَصَلَ شَكٌّ في سَبَبِ الضَّمانِ أو أركانِه أو نَحوِ ذلك مِمَّا يُفتَقَرُ إليه في إثباتِ الضَّمانِ، وكان ذلك في حَقٍّ مِن حُقوقِ العِبادِ، فلا يَثبُتُ الضَّمانُ؛ لأنَّ الضَّمانَ لا يَثبُتُ بالشَّكِّ، وقدِ انفرَدَ الحَنَفيَّةُ بالنَّصِّ على هذه القاعِدةِ، وهيَ تُعتَبَرُ تَطبيقًا لقاعِدةِ: (الأصلُ عَدَمُ الضَّمانِ) [3921] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/88) و (7/141) و (26/90). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ ما سَبَقَ مِن أدِلَّةٍ في قاعِدةِ (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ حَيثُ إنَّ بَراءةَ الذِّمَّةِ ثابتةٌ بيَقينٍ، فلا يَزولُ اليَقينُ بالشَّكِّ.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- إن سَقَطَ الميزابُ على أحَدٍ فإن أصابَ ما كان مِنه في الحائِطِ رَجُلًا فقَتَلَه، فلا ضَمانَ فيه على أحَدٍ؛ لأنَّه إنَّما وَضَع ذلك الطَّرَفَ مِنَ الميزابِ في مِلكِه، وإحداثُ شَيءٍ في مِلكِه لا يَكونُ تَعَدِّيًا، وإن أصابَه ما كان خارِجًا مِنه مِنَ الحائِطِ فالضَّمانُ على الذي وضَعَه؛ لأنَّه مُتَعَدٍّ في ذلك الطَّرَفِ؛ فإنَّه شَغَلَ به هَواءَ الطَّريقِ، فإن لَم يُعلَمْ أيُّهما أصابَه ففي القياسِ عِندَ الحَنَفيَّةِ: لا شَيءَ عليه؛ لأنَّه إن كان أصابَه الطَّرَفُ الدَّاخِلُ لَم يَضمَنْ شَيئًا، وإن أصابَه الطَّرَفُ الخارِجُ فهو ضامِنٌ، والضَّمانُ بالشَّكِّ لا يَجِبُ؛ لأنَّ فَراغَ ذِمَّتِه ثابتٌ يَقينًا، وفي الإشغالِ شَكٌّ، وفي الاستِحسانِ هو ضامِنٌ للنِّصفِ؛ لأنَّه في حالٍ هو ضامِنٌ للكُلِّ، وفي حالٍ لا شَيءَ عليه، فيَتَوزَّعُ الضَّمانُ على الأحوالِ ليَتَحَقَّقَ به مَعنى النَّظَرِ مِنَ الجانِبَينِ [3922] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (27/7). .
2- إذا سَقَطَ الرَّجُلُ في بئرٍ في الطَّريقِ، فقال الحافِرُ: ألقى نَفسَه فيها عَمدًا، وقال ورَثةُ الرَّجُلِ: كَذَبَ، فالقَولُ قَولُ الحافِرِ، وهذا قَولُ أبي يوسُفَ الآخَرُ، وهو قَولُ مُحَمَّدٍ، وكان يَقولُ أوَّلًا: القَولُ قَولُ الورَثةِ؛ لأنَّ الظَّاهرَ يَشهَدُ لَهم، فالإنسانُ لا يُلقي نَفسَه في البئرِ عَمدًا في العادةِ، فعِندَ المُنازَعةِ القَولُ قَولُ مَن يَشهَدُ له الظَّاهِرُ، ثُمَّ رَجَعَ فقال: الضَّمانُ بالشَّكِّ لا يَجِبُ، والظَّاهِرُ إنَّما يَكونُ حُجَّةً لدَفعِ الاستِحقاقِ لا لإثباتِ الاستِحقاقِ، وحاجةُ الورَثةِ هاهنا إلى الاستِحقاقِ، وهو استِحقاقُ الدِّيةِ على عاقِلةِ الحافِرِ، فلا يَكفيهمُ الظَّاهِرُ لذلك، بَل يَحتاجونَ إلى إقامةِ البَيِّنةِ على أنَّه وقَعَ فيها بغَيرِ عَمدٍ، وهذا الظَّاهرُ يُقابلُه ظاهِرٌ آخَرُ، وهو أنَّ الظَّاهرَ أنَّ البَصيرَ يرى البِئرَ أمامَه في مَمشاه، فيَتَقابَلُ الظَّاهِرانِ، ويَبقى الاحتِمالُ في سَبَب وُجوبِ الضَّمانِ، فلا نوجِبُه بالشَّكِّ [3923] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (27/20). .
3- إذا كان سائِقُ السَّيَّارةِ يَقودُ مُلتَزِمًا بجَميعِ قَواعِدِ السَّيرِ، وفجأةً قَفزَ أمامَه إنسانٌ فاصطَدَمَ به، ولَم يَكُنْ في مَقدورِه أن يَتَوقَّفَ ويَتَّخِذَ إجراءاتِ الأمانِ مِن كَبحِ الفرامِلِ وغَيرِها؛ وذلك لضِيقِ المَسافةِ بَينَه وبَينَ الشَّخصِ الآخَرِ، ففي هذه الحالةِ لا يَضمَنُ السَّائِقُ مَعَ كَونِه مُباشِرًا للحادِثِ؛ وذلك لأنَّ فِعلَ الغَيرِ كان الأقوى في إحداثِ الاصطِدامِ، فيَكونُ كَمَن أتلَفَ نَفسَه بنَفسِه، فيَكونُ هَدرًا، فإنَّه إذا وقَعَ الشَّكُّ لا يَجِبُ الضَّمانُ [3924] يُنظر: ((مجمع الضمانات)) لغانم البغدادي (ص: 180)، ((بحوث في قضايا فقهية معاصرة)) لمحمد تقي العثماني (ص: 318)، ((المسؤولية في حوادث السير والقواعد الفقهية المتعلقة بها)) لـ: Üyesi AMER ALDERSHEWI (ص: 151). .

انظر أيضا: