موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ السَّادِسُ: لا ضَمانَ على مُؤتَمَنٍ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "لا ضَمانَ على مُؤتَمَنٍ" [3925] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (7/3642). ، وصيغةِ: "الأمينُ غَيرُ ضامِنٍ ما لَم يُفرِّطْ" [3926] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/165). ، وصيغةِ: "لا ضَمانَ على الأمينِ" [3927] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (8/467)، ((المبسوط)) للسرخسي (25/133)، ((ديوان الأحكام)) لأبي الأصبغ (ص: 684)، ((جواهر الدرر)) للتتائي (7/61). ، وصيغةِ: "الأمينُ لا يَضمَنُ، ما لم يوجَدْ مِنه تَفريطٌ أو عُدوانٌ" [3928] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (12/550). ، وصيغةِ: "الضَّمانُ والأمانةُ لا يَجتَمِعانِ" [3929] يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (4/68)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/343). ، وصيغةِ: "من كان أمينًا بائتِمانِ المالكِ -كالمودَعِ- أو بائتِمانِ الشَّرعِ -كالمُلتَقِطِ للحِفظِ- لا يَضمَنُ بالتَّلَفِ" [3930] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/ 209). ويُنظر أيضًا: ((القواعد)) لابن رجب (1/289). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ كُلَّ مَن جَعَلَ الشَّرعُ يَدَه يَدَ أمانةٍ بأن أثبَتَ له صِفةَ الأمانةِ، كالوكيلِ ونَحوِه، فإنَّه لا يَضمَنُ ما تَحتَ يَدِه مِمَّا هو للغَيرِ إذا تَلِف عِندَه لسَبَبٍ مِنَ الأسبابِ، ما لَم يُفرِّطْ أو يَتَعَدَّ؛ إذِ الضَّمانُ والأمانةُ لا يَجتَمِعانِ، كما ذُكِرَ في إحدى صيَغِ القاعِدةِ. وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكَمِّلةً لقاعِدةِ (الأصلُ عَدَمُ الضَّمانِ) [3931] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (7/3642)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/165)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (8/467)، ((المبسوط)) للسرخسي (25/133)، ((ديوان الأحكام)) لأبي الأصبغ (ص: 684)، ((المغني)) لابن قدامة (12/550)، ((روضة الطالبين)) للنووي (4/68)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/343). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ والقَواعِدُ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:
قال اللهُ تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الوديعةَ باسمِ الأمانةِ، فلا تُضمَنُ؛ وذلك لأنَّ الضَّمانَ يُنافي الأمانةَ [3932] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 257). ويُنظر أيضًا: ((التجريد)) للقدوري (7/ 3281)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/ 210). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
فيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بعُمومِ الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على عِصمةِ مالِ المُسلمِ، ومِنها:
- عن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فإنَّ دِماءَكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم عليكُم حَرامٌ، كَحُرمة يَومِكُم هذا، في بَلَدِكُم هذا، في شَهرِكُم هذا )) [3933] أخرجه البخاري (1739). .
- وعَن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُمِرتُ أن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشهَدوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ، ويُقيموا الصَّلاةَ، ويُؤتوا الزَّكاةَ، فإذا فعَلوا ذلك عَصَموا مِنِّي دِماءَهم وأموالَهم إلَّا بحَقِّ الإسلامِ، وحِسابُهم على اللهِ )) [3934] أخرجه البخاري (25) واللفظ له، ومسلم (22). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثَينِ:
أنَّ الأصلَ عِصمةُ مالِ المُسلمِ، والتَّضمينُ يُبيحُ مالَه، وهذا يَحتاجُ إلى دَليلٍ شَرعيٍّ مُبيحٍ له. قال الشَّوكانيُّ عنِ الأجيرِ، وهو أحَدُ المُؤتَمَنينَ: (ولا يَضمَنُ إلَّا إذا حَصَلَت مِنه جِنايةٌ أو تَفريطٌ؛ فإنَّ التَّضمينَ حُكمٌ شَرعيٌّ يَستَلزِمُ أخذَ مالِ مُسلمٍ مَعصومٍ بعِصمةِ الإسلامِ، فلا يَجوزُ إلَّا بحُجَّةٍ شَرعيَّةٍ، وإلَّا كان ذلك مِن أكلِ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ) [3935] ((السيل الجرار)) (ص: 577). .
وكَذلك المُستَودَعُ، وهو أحَدُ المُؤتَمَنينَ: قال عنه ابنُ قُدامةَ: (المُستَودَعُ مُؤتَمَنٌ، فلا يَضمَنُ ما تَلِفَ مِن غَيرِ تَعَدِّيه وتَفريطِه، كالذي ذَهَبَ مَعَ مالِه، ولأنَّ المُستَودَعَ إنَّما يَحفَظُها لصاحِبِها مُتَبَرِّعًا مِن غَيرِ نَفعٍ يَرجِعُ إليه؛ فلو لَزِمَه الضَّمانُ لامتَنَعَ النَّاسُ مِن قَبولِ الودائِعِ، وذلك مُضِرٌّ؛ لِما بَيَّنَّاه مِنَ الحاجةِ إليها) [3936] ((المغني)) (9/ 257). .
3- مِنَ الإجماعِ:
ومِمَّن حَكاه: أبو بَكرٍ الجَصَّاصُ [3937] قال: (لا خِلافَ بَينَ الفُقَهاءِ في نَفيِ ضَمانِ الوديعةِ إذا لم يَتَعَدَّ فيها المودَعُ). ((أحكام القرآن)) (3/ 173). ، وابنُ المُنذِرِ [3938] قال: (أجمَع أهلُ العِلمِ على أنَّ المودَعَ إذا أحرَزَ الوديعةَ بنَفسِه في صُندوقِه أو حانوتِه أو بَيتِه، فتَلِفَت: أنْ لا ضَمانَ عليهـ). ((الإشراف)) (6/331). .
4- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بقاعِدةِ (الأصلُ عَدَمُ الضَّمانِ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- الوديعةُ أمانةٌ، فإذا تَلِفَت بغَيرِ تَفريطٍ مِنَ المودَعِ، فليس عليه ضَمانٌ، سَواءٌ ذَهَبَ مَعَها شَيءٌ مِن مالِ المودِعِ أو لَم يَذهَبْ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى سَمَّاها أمانةً، والضَّمانُ يُنافي الأمانةَ [3939] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/257). .
2- إذا غَرِقَتِ السَّفينةُ أوِ اصطَدَمَت بسَفينةٍ أُخرى دونَ تَفريطٍ مِن مَلَّاحِها، فتَلِفَ ما فيها مِن ودائِعَ وغَيرِها مِن أموالٍ، لَم تُضمَنْ؛ لأنَّ الأمينَ لا يَضمَنُ، ما لَم يوجَدْ مِنه تَفريطٌ أو عُدوانٌ [3940] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (12/550،549). .
3- لَو أنَّ شَخصًا وكَّلَ آخَر ليُحَوِّلَ له مَبلَغًا مِنَ المالِ إلى جِهةٍ ما أو بَلَدٍ ما، وأثناءَ ذَهابِه إلى مَكتَبِ الصِّرافةِ سَرَقَ لصٌّ مِنه المالَ مَعَ أموالِه الخاصَّةِ، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه لا ضَمانَ على مُؤتَمَنٍ [3941]  يُنظر: ((القواعد الفقهية الناظمة لإسقاط الضمان)) للروسان (ص: 80). .
4- لَوِ استَأجَرَ أحَدٌ بَيتًا ليَسكُنَه فانهَدَمَ بَعضُه مِن غَيرِ تَعَدٍّ في الاستِعمالِ المَأذونِ فيه عُرفًا، فلا ضَمانَ على المُستَأجِرِ؛ لأنَّه لا ضَمانَ على مُؤتَمَنٍ [3942]  يُنظر: ((القواعد الفقهية الناظمة لإسقاط الضمان)) للروسان (ص: 80). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءٌ:
استُثنيَ مِن قَبولِ قَولِ الأمينِ في التَّلَفِ إذا كانت دَعواه بالتَّلَفِ على شَيءٍ كان تَلَفُه بسَبَبٍ ظاهرٍ، فإنَّه يُكَلَّفُ حينَها بإقامةِ البَيِّنةِ.
ومِثالُ ذلك: إذا أودَعَ أحَدٌ مالًا عِندَ شَخصٍ حَتَّى يَأتيَ مِن سَفرِه، فلَمَّا عادَ سَألَ المودَعَ عن مالِه فادَّعى بأنَّ حَريقًا شَبَّ في بَيتِه فذَهَبَ المالُ، فهذا يَحتاجُ إلى بَيِّنةٍ بأنَّ الحَريقَ قد شَبَّ في البَيتِ، ثُمَّ بَعدَ ذلك يُقبَلُ قَولُه بأنَّه مِن جُملةِ التَّالفاتِ، أمَّا لَو قال بأنَّه تَلِفَ أو سُرِقَ ونَحو ذلك فإنَّه يُقبلُ قَولُه، ولَكِن لا بُدَّ مِن تَحليفِه، فـ"كُلُّ مَن قُلْنا: القَولُ قَولُه، فلا بُدَّ فيه مِن يَمينِه" [3943]  يُنظر: ((شرح قواعد ابن رجب)) لابن عثيمين (1/345-346). .

انظر أيضا: