الفَرعُ الثَّالثُ: الإتلافُ بالإذنِ العُرفيِّ مُنَزَّلٌ مَنزِلةَ الإتلافِ بالإذنِ اللَّفظيِّ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الإتلافُ بالإذنِ العُرفيِّ مُنَزَّلٌ مَنزِلةَ الإتلافِ بالإذنِ اللَّفظيِّ"
[3887] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/128). ، وصيغةِ: "الإذنُ العُرفيُّ في الإباحةِ أوِ التَّمليكِ أوِ التَّصَرُّفِ بطَريقِ الوَكالةِ: كالإذنِ اللَّفظيِّ"
[3888] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/ 20). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.الإذنُ كما يُستَفادُ مِن صَريحِ اللَّفظِ يُستَفادُ مِن دَلالةِ العُرفِ، فإذا أتلَف شَخصٌ شَيئًا، وكان هذا الإتلافُ حاصِلًا بناءً على إذنٍ في الاستِعمالِ مَثَلًا، فلا ضَمانَ عليه؛ لأنَّ العُرفَ جارٍ بأنَّ الإذنَ في الاستِعمالِ إذنٌ في الإتلافِ الحاصِلِ به كذلك، والإتلافُ الحاصِلُ بالإذنِ العُرفيِّ يُنزَّلُ في الحُكمِ مَنزِلةَ الإتلافِ الحاصِلِ بالإذنِ اللَّفظيِّ، فكَما لا يَضمَنُ بالإتلافِ الحاصِلِ بالإذنِ اللَّفظيِّ فيما لَو أذِنَ له صَراحةً بإتلافِ مالِه، لا يَضمَنُ أيضًا بالإتلافِ الحاصِلِ بالإذنِ العُرفيِّ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكَمِّلةً لقاعِدةِ (الأصلُ عَدَمُ الضَّمانِ)
[3889] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/128، ((معونة أولي النهى)) لابن النجار (6/263). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ القواعدُ التاليةُ:
1- قاعِدةُ (الثَّابتُ بالدَّلالةِ كالثَّابتِ بالصَّريحِ).
2- قاعِدةُ (الإذنُ دَلالةً بمَنزِلةِ الإذنِ إفصاحًا).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- الاستِئجارُ على الطَّبخِ والخَبزِ يُحمَلُ على إنضاجِ المِثلِ دونَ ما تَجاوَزَه أو قَصَّرَ عنه، فإذا تَرَكَ الخُبزَ في التَّنُّورِ على ما جَرَتِ العادةُ في مِثلِه فاتَّفقَ أنَّه احتَرَقَ، لَم يَلزَمْه الضَّمانُ؛ تَنزيلًا لمُقتَضى العُرفِ مَنزِلةَ صَريحِ اللَّفظِ، كما لَو صرَّحَ له ذلك بلَفظِه فلا يَلزَمُه ضَمانٌ؛ لأنَّه أتلَفه بإذنِه، فالإتلافُ بالإذنِ العُرفيِّ مُنَزَّلٌ مَنزِلةَ الإتلافِ بالإذنِ اللَّفظيِّ
[3890] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/128). .
2- لا تُضمَنُ العاريَّةُ أو جُزؤُها إذا تَلِفَت أو تَلِف جُزؤُها باستِعمالٍ؛ لأنَّ الإذنَ في الاستِعمالِ تَضَمَّنَ الإذنَ في الإتلافِ الحاصِلِ به، وما أُذِنَ في إتلافِه لا يُضمَنُ، كالمَنافِعِ، ومَحَلُّ ذلك: إذا استُعمِلَتِ العاريَّةُ بمَعروفٍ، كما لَو تَلِفَ الثَّوبُ المُستَعارُ بلُبسِه؛ لأنَّ الإذنَ في الاستِعمالِ إذنٌ عُرفيٌّ في الإتلافِ الحاصِلِ به، والإتلافُ بالإذنِ العُرفيِّ مُنَزَّلٌ مَنزِلةَ الإتلافِ بالإذنِ اللَّفظيِّ
[3891] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (7/3273)، ((معونة أولي النهى)) لابن النجار (6/263). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.قُيودٌ:سُقوطُ الضَّمانِ عنِ المَأذونِ له مِنَ المالكِ مُقَيَّدٌ بأُمورٍ
[3892] يُنظر: ((معلمة زايد)) (14/424- 425). :
الأوَّلُ: أن يَكونَ الآذِنُ أهلًا للإذنِ.
أي: مِمَّن يَملِكُ التَّصَرُّفَ في مالِه، فلا يَصِحُّ إذنُ الصَّبيِّ بالإتلافِ؛ لأنَّ الصَّبيَّ ليس مِن أهلِ الإذنِ
[3893] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/126). ، وكَذا المَحجورُ عليه؛ لقاعِدةِ: "مَن أتلَف مالَ غَيرِه بإذنِه -والآذِنُ أهلٌ للإذنِ- لَم يَضمَنْ"
[3894] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) للهيتمي (5/88). .
الثَّاني: أن لا يَتَعَلَّقَ بالمالِ حَقُّ الغَيرِ.
فللإنسانِ أن يَتَصَرَّفَ في مِلكِه كَيفما شاءَ إذا لم يَتَعَلَّقْ به حَقٌّ لغَيرِه، أمَّا إذا تَعَلَّقَ بمالِه حَقُّ الغَيرِ فلا يَصِحُّ إذنُه بالإتلافِ، كالمَرهونِ؛ لقاعِدةِ: "لا يَجِبُ الضَّمانُ بإتلافِ مِلكِه إلَّا إذا تَعَلَّقَ به حَقٌّ لغَيرِه"
[3895] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/360). .
الثَّالثُ: أن يَكونَ الإتلافُ على الوَجهِ المَأذونِ فيه.
فإذا كان الإتلافُ بوجهٍ يُخالفُ الإذنَ فلا يَسقُطُ الضَّمانُ
[3896] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/343- 344). ، فلَو أعارَه ثَوبًا فتَلِفَ بالاستِعمالِ لا يَضمَنُ؛ لأنَّ الإذنَ في الاستِعمالِ تَضمَّنَ الإذنَ في الإتلافِ، وما أُذِنَ في إتلافِه لا يُضمَنُ، كالمَنافِعِ
[3897] يُنظر: ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (6/160)، ((شرح المنتهى)) لابن النجار (6/263)، ((الروض المربع)) للبهوتي (ص: 420). .
أمَّا إن حَمَلَ في الثَّوبِ تُرابًا مَثلًا فتَلِفَ به، ضَمِنَه لتَعَدِّيه به؛ لأنَّه إنَّما أُذِنَ في إتلافِها على وَجهِ الانتِفاعِ، فإذا تَلِفَت على غَيرِ الوَجهِ الذي أُذِنَ فيه ضَمِنَها
[3898] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (7/344). .
قال ابنُ قُدامةَ: (وكذلك لَو تَلِفَت الأجزاءُ باستِعمالٍ غَيرِ مَأذونٍ فيه، مِثلُ أن يُعيرَه ثَوبًا ليَلبَسَه، فحَمَلَ فيه تُرابًا، فإنَّه يَضمَنُ نَقصَه ومَنافِعَه؛ لأنَّه تَلِف بتَعَدِّيه. وإن تَلِفَ بغَيرِ تَعَدٍّ مِنه ولا استِعمالٍ، كتَلَفِها لطولِ الزَّمانِ عليها، ووُقوعِ نارٍ عليها، فيَنبَغي أن يضمَنَ ما تَلِفَ مِنها بالنَّارِ ونَحوِها؛ لأنَّه تَلَفٌ لَم يَتَضَمَّنْه الاستِعمالُ المَأذونُ فيه، فأشبَهَ تَلَفَها بفِعلٍ غَيرِ مَأذونٍ فيه. وما تَلِفَ بمُرورِ الزَّمانِ عليه يَكونُ حُكمُه حُكمَ ما تَلِفَ بالاستِعمالِ؛ لأنَّه تَلِفَ بالإمساكِ المَأذونِ فيه، فأشبَهَ تَلَفَه بالفِعلِ المَأذونِ فيهـ)
[3899] ((المغني)) (7/343- 344). .