موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: المُتَعَدِّي ضامِنٌ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المُتَعَدِّي ضامِنٌ" [3984] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (8/318). ، وصيغةِ: "إنَّما يَضمَنُ مَن تَعَدَّى" [3985] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (3/190). ، وصيغةِ: "الضَّمانُ مَنوطٌ بالتَّعَدِّي" [3986] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (4/588). ، وصيغةِ: "التَّعَدِّي يَتَرَتَّبُ عليه الضَّمانُ" [3987] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/401). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
حَفِظَتِ الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ أنفُسَ النَّاسِ وأموالَهم، فحَرَّمَتِ التَّعَدِّيَ عليها وجَبَرَتِ الخَلَلَ الواقِعَ نَتيجةَ التَّعَدِّي، فألزَمَتِ المُتَعَدِّي ضَمانَ ما أتلفَه، سَواءٌ كان ذلك التَّعَدِّي بتَجاوُزِ الحَقِّ المَأذونِ له في التَّصَرُّفِ فيه أو لتَصَرُّفِه في أمرٍ غَيرِ مَأذونٍ له فيه، فكُلُّ مَن تَجاوَزَ إلى حَقِّ غَيرِه أو مِلكِه المَعصومِ، فتَرَتَّبَ على هذا التَّجاوُزِ إتلافُ حَقِّ الغَيرِ، فإنَّه يَضمَنُ ذلك [3988] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (3/190)، ((الذخيرة)) للقرافي (8/318)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (4/588)، ((الموافقات)) للشاطبي (1/401). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ والقياسُ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] .
- وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآيَتَينِ:
الآيَتانِ أصلٌ في ضَمانِ المُتَعَدِّي [3989]  يُنظر: ((الجامع لمسائل المدونة)) لابن يونس (18/ 263)، ((المحلى)) لابن حزم (7/ 138)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/ 164). ؛ وذلك لأنَّ المُعتَديَ قدِ اعتَدى على غَيرِه بالإتلافِ، فيُعتَدى عليه بالتَّضمينِ [3990] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/ 564). ، وتَسميةُ الفِعلِ الثَّاني -وهو الضَّمانُ- اعتِداءً أو سَيِّئةً، بطريقِ المُقابَلةِ مَجازًا [3991] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/ 50)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/ 168). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عَن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((أهدَت بَعضُ أزواجِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَعامًا في قَصعةٍ، فضَرَبَت عائِشةُ القَصعةَ بيَدِها فألقَت ما فيها، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: طَعامٌ بطَعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ)) [3992] أخرجه الترمذي (1359) واللفظ له، وابن الجارود في ((المنتقى)) (1022)، والطوسي في ((مختصر الأحكام)) (1263). صححه الترمذي والسيوطي في ((الجامع الصغير)) (5244)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1359). وقِصَّةُ كَسرِ القَصعةِ أصلُها في صَحيحِ البُخاريِّ (2481) ولَفظُها: عَن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان عِندَ بَعضِ نِسائِه، فأرسَلَت إحدى أُمَّهاتِ المُؤمِنينَ مَعَ خادِمٍ بقَصعةٍ فيها طَعامٌ، فضَرَبَت بيَدِها، فكَسَرَتِ القَصعةَ، فضَمَّها وجَعَلَ فيها الطَّعامَ، وقال: كُلوا، وحَبَسَ الرَّسولَ والقَصعةَ حَتَّى فرَغوا، فدَفعَ القَصعةَ الصَّحيحةَ، وحَبَسَ المَكسورةَ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوجَبَ عليها ضَمانَ ما أتلَفَت نَتيجةَ تَعَدِّيها، وهو مَعنى القاعِدةِ [3993] يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (13/36)، ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) للمناوي (2/115). .
3- مِنَ القياسِ:
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القياسُ على القِصاصِ في التَّعَدِّي على النُّفوسِ، ووَجهُ هذا القياسِ: أنَّ تَضمينَ المُتَعَدِّي على غَيرِه لأنَّه أتلَف مِلكَ غَيرِه مِن غَيرِ استِحقاقٍ عليه، فلَزِمَه بَدَلُ ما أتلَف؛ قياسًا على القِصاصِ، فالأبدالُ في المُتلَفاتِ كالقِصاصِ في النُّفوسِ، وقد قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ، والقاتِلُ والجارِحُ إذا عَلمَ أنَّه يُقتَصُّ مِنه انزَجَرَ وارتَدَعَ عن فِعلِ ذلك، فكان في ذلك حَياةُ النُّفوسِ، ولَم يَجتَرِئْ أحَدٌ على أحَدٍ؛ فكَذلك الجِنايةُ على المالِ لَو لَم يَجِبْ فيها البَدَلُ لاجتَرَأ النَّاسُ بَعضُهم على بَعضٍ [3994] يُنظر: ((الجامع لمسائل المدونة)) لابن يونس (18/ 264). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
1- إن أتلَف وثيقةً لا يَثبُتُ المالُ إلَّا بها وتَعَذَّرَ ثُبوتُ المالِ ضَمِنَه مُتلِفُ الوثيقةِ؛ لأنَّه تَعَدَّى بإتلافِها، فتَسَبَّبَ في إضاعةِ المالِ، فلَزِمَه ضَمانُه [3995] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (9/307). .
2- لَو خَرَقَ إنسانٌ السَّدَّ الذي يَحبِسُ الماءَ فأفسَدَ ذلك الماءُ الجاري زَرعًا أو بُنيانًا، ضَمِنَ ما تَلِفَ بسَبَبِه؛ لأنَّه تَعَدَّى، فلَزِمَه ضَمانُ ما تَرَتَّب على هذا التَّعَدِّي [3996] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (9/306). .
3- إذا حَفرَ رَجُلٌ حُفرةً في الطَّريقِ العامِّ ثُمَّ سَقَطَ فيها إنسانٌ فماتَ، فإنَّ الضَّمانَ على حافِرِ البئرِ؛ لتَعَدِّيه في الحَفرِ، فيَضمَنُ ما تَلِفَ بسَبَبِ هذا التَّعَدِّي؛ لأنَّ المُتَعَدِّيَ ضامِنٌ [3997] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (8/145)، ((التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب)) لخليل (8/57)، ((الهداية)) للمرغيناني (4/475)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (15/311)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (13/333). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
فائِدةٌ:
التَّعَدِّي يَكونُ بإحدى طَريقَتينِ:
1- يَكونُ بتَجاوُزِ الفاعِلِ على الشَّخصِ المَضرورِ أو على حُقوقِه رَأسًا، كما في حالةِ المُباشَرةِ.
2- يَكونُ التَّعَدِّي بتَجاوُزِ الحُدودِ المَأذونِ بها شَرعًا حَتَّى تُفضيَ إلى ضَرَرِ الغَيرِ، كما في حالةِ التَّسَبُّبِ.
فمَتى وُجِدَ التَّعَدِّي لا يُنظَرُ بَعدَ ذلك إلى التَّعَمُّدِ والقَصدِ؛ لأنَّ حُقوقَ الغَيرِ مَضمونةٌ شَرعًا في حالَتَيِ العَمدِ والخَطَأِ، بَل حَتَّى في حالةِ الاضطِرارِ المُبيحِ للمَحظوراتِ [3998] يُنظر: ((المدخل الفقهي العام)) لمصطفى الزرقا (2/1046- 1047). .

انظر أيضا: