موسوعة القواعد الفقهية

تمهيدٌ حولَ أسبابِ الاستِثناءِ


تَعودُ أسبابُ الاستِثناءِ مِنَ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ في مُجمَلِها إلى رِعايةِ مَصالِحِ العِبادِ، ورَفعِ الحَرَجِ عَنهُم، والتَّيسيرِ عليهم؛ فإنَّ اللهَ تَعالى لا يَأمُرُ إلَّا بما مَصلَحَتُه خالِصةٌ أو راجِحةٌ، ولا يَنهى إلَّا عَمَّا مَفسَدَتُه خالِصةٌ أو راجِحةٌ. والشَّريعةُ مَبنيَّةٌ في مَوارِدِها ومَدارِكِها على المَصلَحةِ والرَّحمةِ والعَدلِ، فهيَ رَحمةٌ كُلُّها، ومَصلَحةٌ كُلُّها، وعَدلٌ كُلُّها، وكُلُّ مَسألةٍ خَرَجَت عَن ذلك فهيَ ليست مِنها وإن أُدخِلَت فيها بالتَّأويلِ، وهذا الأصلُ الذي يَنبَني عليه أحكامُ هذه المِلَّةِ، فإذا كانَتِ المَصلَحةُ في استِثناءِ الفَرعِ مِنَ القاعِدةِ أعظَمَ مِنَ المَصلَحةِ التي تَحتَها لم يُلحَقْ بها، وأُلحِقَ بغَيرِها. وكانَ إلحاقُه بغَيرِها أعلى مَصلَحةً، وأرفَقَ بالمُكَلَّفِ [421] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/ 429)، ((الاستثناء من القواعد)) لنور الدين بوحمزة (ص: 17). .
قال القَرافيُّ: (لصاحِبِ الشَّرعِ أن يَضَعَ في شَرعِه ما شاءَ، ويَستَثنيَ مِن قَواعِدِه ما شاءَ، هو أعلَمُ بمَصالِحِ عِبادِهـ) [422] ((الفروق)) (4/ 107). .
وقال العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (والشَّرعُ يَستَثني مِنَ القَواعِدِ ما لا تُداني مَصلَحَتُه هذه المَصلَحةَ العامَّةَ) [423] ((قواعد الأحكام)) (2/ 30). .
وقال أيضًا عَنِ الوقفِ والوصايا: (وإنَّما خولِفَتِ القَواعِدُ؛ لأنَّ المَقصودَ مِنه المَنافِعُ والغَلَّاتُ، وهيَ باقيةٌ إلى يَومِ الدِّينِ، فلَمَّا عَظُمَت مَصلَحَتُه خولِفَتِ القَواعِدُ في أمرِه تَحصيلًا لمَصلَحَتِه، ومِن ذلك الوصايا خولِفَت فيها القَواعِدُ تَحصيلًا لمَصالِحِها) [424] ((قواعد الأحكام)) (2/ 147). .
وقال الطُّوفيُّ: (اعلَمْ أنَّ قَولَ الفُقَهاءِ: هذا الحُكمُ مُستَثنًى عَن قاعِدةِ القياسِ، أو خارِجٌ عَنِ القياسِ، أو ثَبَتَ على خِلافِ القياسِ؛ ليس المُرادُ به أنَّه تَجَرَّدَ عَن مُراعاةِ المَصلَحةِ حَتَّى خالَفَ القياسَ، وإنَّما المُرادُ به أنَّه عُدِلَ به عَن نَظائِرِه لمَصلَحةٍ أكمَلَ وأخَصَّ مِن مَصالِحِ نَظائِرِه على جِهةِ الاستِحسانِ الشَّرعيِّ. فمِن ذلك أنَّ القياسَ عَدَمُ بَيعِ المَعدومِ، وجازَ ذلك في السَّلَمِ والإجارةِ تَوسِعةً وتَيسيرًا على المُكَلَّفينَ. ومِنه: أنَّ القياسَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ يَضمَنُ جِنايةَ نَفسِه، وخولِفَ في ديةِ الخَطَأِ رِفقًا بالجاني، وتَخفيفًا عَنه؛ لكَثرةِ وُقوعِ الخَطَأِ مِنَ الجُناةِ، وكَذلك الكَلامُ في المُصَرَّاةِ؛ لمَّا كانَ اللَّبَنُ المُحتَلَبُ مِنها مَجهولًا، فلَو وجَبَ ضَمانُه بمِثلِه لأفضى إلى النِّزاعِ لجَهالةِ القدرِ المَضمونِ، فقَطَعَ الشَّارِعُ النِّزاعَ بَينَهُم بإيجابِ صاعِ تَمرٍ باجتِهادِه؛ لأنَّه مَضبوطٌ مَعلومٌ... والغَرَضُ أنَّ كُلَّ خارِجٍ عَنِ القياسِ في الشَّرعِ في غَيرِ التَّعَبُّداتِ، فهو لمَصلَحةٍ أكمَلَ وأخَصَّ، وهو استِحسانٌ شَرعيٌّ) [425] ((شرح مختصر الروضة)) (3/ 330). .
فيُلاحَظُ أنَّ هذه القَواعِدَ الفِقهيَّةَ شاهِدُ كَمالٍ ودَليلٌ على حِكمةِ اللهِ تَعالى ورِعايَتِه مَصالِحَ الخَلقِ في تَشريعِ الأحكامِ، وليست شُذوذًا أو دَليلًا على تَناقُضٍ، بَلِ العَكسُ هو الحاصِلُ، وشَواهِدُه لا تَنحَصِرُ في أكثَرِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ.
وعِندَ تَفصيلِ الأسبابِ التي أوجَبَتِ الاستِثناءَ وخُروجَ فرعٍ أو أكثَرَ عَنِ القاعِدةِ يُلاحَظُ أنَّها تَندَرِجُ تَحتَ أربَعةِ أسبابٍ، وهيَ: الضَّرورةُ، والحاجةُ، والعُرفُ، والمَشَقَّةُ [426] هذه أبرَزُ الأسبابِ، ويُنظر للتوسُّعِ: ((الاستثناء من القواعد الفقهية وتطبيقاته في مقدمات عقد النكاح)) لمحمود مشعل، بحث بمجلة الشريعة والقانون- الأزهر، (ص: 2549- 2568). .

انظر أيضا: