موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: الجَوازُ الشَّرعيُّ يُنافي الضَّمانَ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الجَوازُ الشَّرعيُّ يُنافي الضَّمانَ" [3853] يُنظر: ((درر الحكام)) لملا خسرو (2/289)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 27). ، وصيغةِ: "لا ضَمانَ على مَن فَعَل ما أُبيحَ له فِعلُه، إلَّا أن يوجِبَ ذلك نَصٌّ أو إجماعٌ" [3854] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (11/205). ، وصيغةِ: "الفِعلُ المُباحُ لا تُضمَنُ سِرايَتُه [3855] السِّرايةُ: هيَ حُدوثُ مُضاعَفاتٍ أو آثارٍ تَتَرَتَّبُ على تَطبيقِ العُقوبةِ الشَّرعيَّةِ، تُؤَدِّي إلى إتلافِ عُضوٍ آخَرَ أو مَوتِ النَّفسِ البَشَريَّةِ. فإذا سَرى الجُرحُ الحاصِلُ بالقِصاصِ مِنَ العُضوِ إلى النَّفسِ، فأدَّى للمَوتِ، سُمِّيَ الفِعلُ سِرايةَ النَّفسِ أوِ الإفضاء للمَوتِ، وإذا سَرى إلى عُضوٍ آخَرَ سُمِّيَ الفِعلُ سِرايةَ العُضوِ. يُنظر: ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (7/5746). " [3856] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (12/270). ، وصيغةِ: "ما تَرَتَّب على المَأذونِ غَيرُ مَضمونٍ" [3857] يُنظر: ((فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم)) (11/ 301)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (14/106). ، وصيغةِ: "لا ضَمانَ لِما تَلِفَ بسَبَبِ فِعلٍ مُباحٍ" [3858] يُنظر: ((مجلة الأحكام الشرعية)) لأحمد القاري (ص: 449). ، وصيغةِ: "ما تولَّد مِن مَأذونٍ فيه لم يُضمَنْ كَنَظائِرِه" [3859] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/325). ، وصيغةِ: "المُتَولِّدُ مِن مَأذونٍ فيه لا أثَرَ له" [3860] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/163). ، وصيغةِ: "الرِّضا بالشَّيءِ رِضًا بما يَتَولَّدُ مِنه" [3861] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 141). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّه لَو فعَلَ شَخصٌ ما أُجيز له فِعلُه شَرعًا ونَشَأ عن فِعلِه هذا ضَرَرٌ ما، فلا يَكونُ ضامِنًا للخَسارةِ النَّاشِئةِ عن ذلك الضَّرَرِ؛ لأنَّه فعَلَ ما أُبيحَ له فِعلُه، ما دامَ أنَّ فِعلَه الجائِزَ غَيرُ مُقَيَّدٍ بشَرطِ السَّلامةِ، وشَرطِ عَدَمِ إتلافِ مالِ الغَيرِ لأجلِ نَفسِه؛ وذلك لأنَّ اعتِبارَ الضَّمانِ يَتَطَلَّبُ تَقدُّمَ حُصولِ التَّعَدِّي، والجَوازُ الشَّرعيُّ يَأبى وجودَه، فتَنافيا. وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكَمِّلةً لقاعِدةِ (الأصلُ عَدَمُ الضَّمانِ) [3862] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/92)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 449). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ:
1- عن يَعلى بن أُمَيَّةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَجُلٌ وقد عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فانتَزَعَ يَدَه فسَقَطَت ثَنيَّتاه -يَعني الذي عَضَّه- فأبطَلَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقال: أرَدتَ أن تَقضِمَه كما يَقضِمُ الفَحلُ! )) [3863] أخرجه مسلم (1674). .
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيتَ إن جاءَ رَجُلٌ يُريدُ أخذَ مالي؟ قال: فلا تُعطِه مالَك، قال: أرَأيتَ إن قاتَلَني؟ قال: قاتِلْه، قال: أرَأيتَ إن قَتَلَني؟ قال: فأنتَ شَهيدٌ، قال: أرَأيتَ إن قَتَلتُه؟ قال: هو في النَّارِ )) [3864] أخرجه مسلم (140). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثَينِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أهدَر ضَمانَ المُعتَدي؛ لأنَّ الشَّرعَ لمَّا أباحَ له الدِّفاعَ عن نَفسِه لَم يُؤاخِذْه في الضَّرَرِ النَّاشِئِ عن فِعلِه [3865] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (11/211)، ((إكمال المعلم)) لعياض (1/444) و (5/470). .
3- عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَو أنَّ امرَأً اطَّلَعَ عليك بغَيرِ إذنٍ فخَذَفتَه بعَصاةٍ ففقَأتَ عَينَه، لَم يَكُنْ عليك جُناحٌ )) [3866] أخرجه البخاري (6902) واللفظ له، ومسلم (2158). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الشَّرعَ جَعَلَ الإذنَ مِن أجلِ البَصَرِ، أي: شَرعَه وأمَر به لئَلَّا يَقَعَ البَصَرُ على الحَرامِ، فلا يَحِلُّ لأحَدٍ أن يَنظُرَ في جُحرِ بابٍ ولا غَيرِه مِمَّا هو مُتَعَرِّضٌ فيه لوُقوعِ بَصَرِه على عَوراتِ أهلِ البَيتِ، فإن فَعَل ففقَأ صاحِبُ الدَّارِ عَينَه، سَقَطَ عنه القَوَدُ والضَّمانُ، وهو مَعنى هذه القاعِدةِ [3867] يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (5/481)، ((شرح النووي على مسلم)) (14/138)، ((فتح القريب المجيب)) للفيومي (11/170،169). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- لَو حَفرَ إنسانٌ في مِلكِه بئرًا فوقَعَ فيه حَيَوانٌ وهَلَكَ، لا يَضمَنُ حافِرُ البئرِ شَيئًا لصاحِبِ الحَيَوانِ؛ لأنَّ تَصَرُّفَ المَرءِ في مِلكِه غَيرُ مُقَيَّدٍ بشَرطِ السَّلامةِ، أمَّا لَو تَلِف الحَيَوانُ في بئرٍ حَفَرَه شَخصٌ في الطَّريقِ العامِّ بدونِ إذنِ وَليِّ الأمرِ أو في مِلكِ الغَيرِ أو في المِلكِ المُشتَرَكِ، فيَلزَمُ حينَئِذٍ ضَمانُه؛ لأنَّه لا يَحِقُّ لأحَدٍ أن يَحفِرَ بئرًا في أرضٍ بدونِ مُسَوِّغٍ شَرعيٍّ [3868] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/92). .
2- لا يَضمَنُ المُستَودَعُ إذا كان صاحِبُ الوديعةِ غائِبًا، وفرَضَ الحاكِمُ مِنَ الدَّراهمِ المودَعةِ نَفقةً لمَن يَلزَمُ صاحِبَ الوديعةِ الإنفاقُ عليه، والمُستَودَعُ أدَّى تلك النَّفقةَ المَفروضةَ مِنَ المالِ المودَعِ [3869] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/93). .
3- إذا صالَ الجَمَلُ على رَجُلٍ فدافعَ عن نَفسِه فقَتَلَه، فلا يَضمَنُ؛ لأنَّه مَأمورٌ بالدَّفعِ عن نَفسِه، ومَن فَعَل ما أُمِرَ به لَم يَكُنْ مُتَعَدِّيًا، فلا يَضمَنُ في مِثلِ هذا [3870] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (5/471). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
مُستَثنَياتٌ:
خَرَجَ عنِ القاعِدةِ مَسائِلُ، مِنها:
1- أنَّ الوكيلَ بالشِّراءِ له حَبسُ المَبيعِ عن موكِّلِه حَتَّى يَقبضَ مِنه الثَّمَنَ، ولَكِن لَو هَلَكَ المَبيعُ في يَدِه، والحالةُ هذه، يَلزَمُ الوكيلَ الثَّمَنُ [3871] يُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 290)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 452). .
2- لَوِ استَغَلَّ أحَدُ الشَّريكَينِ في شَجَرِ الكَرْمِ أثمارِها وباعَها حينَ غَيبةِ شَريكِه، فإنَّ عَمَلَه هذا جائِزٌ، ولَكِن إذا حَضَرَ شَريكُه فهو مُخَيَّرٌ بَينَ أن يُجيزَ البَيعَ ويَأخُذَ الثَّمَنَ، وبَينَ أن يُضَمِّنَه حِصَّتَه [3872] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 452). ويُنظر أيضًا: ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 209)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (3/ 46). .
فائِدةٌ:
دَلَّ مَفهومُ القاعِدةِ على أنَّ عَدَمَ الجَوازِ الشَّرعيِّ لا يُنافي الضَّمانَ، ولَكِن لا يَلزَمُ مِن ذلك أنَّ الإثمَ يَستَلزِمُ الضَّمانَ [3873] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (4/ 277)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 451). ، ومِن أمثِلةِ ذلك:
1- لَو مُنِعَ المالِكُ عن أموالِه حَتَّى هَلَكَتِ الأموالُ فإنَّه يَأثَمُ، ولا يَضمَنُ الأموالَ التي تَلِفَت؛ لأنَّه لا يَلزَمُ مِنَ الإثمِ الضَّمانُ، فهذا العَمَلُ غَيرُ جائِزٍ شَرعًا، ولَم يوجِبوا به ضَمانًا [3874] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/ 162)، ((مجمع الضمانات)) لغانم البغدادي (ص: 117)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/ 277)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 451). .
2- لَو وجَدَ اللُّقَطةَ وقد أمِنَ مِن نَفسِه تَعريفَها، وكانت بمَعرِضِ الضَّياعِ، فلَم يُعَرِّفْها، فإنَّه يَأثَمُ، ولَكِن لا يَضمَنُ لَو ضاعَت [3875] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 451- 452). .
3- أنَّه لا يَضمَنُ مَن دَلَّ سارِقًا على مالِ إنسانٍ، فسَرَقَه [3876] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 135). .

انظر أيضا: