موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: ما يَكونُ أكثَرَ نَفعًا فهو أفضَلُ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما يَكونُ أكثَرَ نَفعًا فهو أفضَلُ" [2836] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/194). ، وصيغةِ: "الأصلُ في كَثرةِ الثَّوابِ وقِلَّتِه كَثرةُ المَصلَحةِ وقِلَّتُها" [2837] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/126)، ((جواهر الدرر)) للتتائي (1/432). ، وصيغةِ: "مَهما كان أكثَرَ نَفعًا كان أفضَلَ، سَواءٌ قَلَّ أو كَثُرَ" [2838] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 149). ، وصيغةِ: "الاشتِغالُ بما يَكونُ نَفعُه أعَمَّ يَكونُ أفضَلَ" [2839] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (30/ 259). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
هذه القاعِدةُ هيَ إحدى قَواعِدِ التَّرجيحِ، وهيَ تُفيدُ أنَّ الأشياءَ الفاضِلةَ حينَما تَتَعارَضُ -بحَيثُ لو فُعِلَ أحَدُها لَتُرِكَ الآخَرُ- يُقدَّمُ مِنها ما هو أكثَرُ نَفعًا؛ لأنَّ النَّفعَ الكَثيرَ أفضَلُ مِنَ النَّفعِ القَليلِ، والشَّريعةُ داعيةٌ إلى فِعلِ الأحسَنِ والأفضَلِ، وكَثيرُ النَّفعِ هو أحسَنُ مِن قَليلِه وأفضَلُ، فالأفعالُ والتَّصَرُّفاتُ تَتَفاضَلُ فيما بَينَها بحَسَبِ النَّفعِ المُتَرَتِّبِ عليها [2840] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/194)، ((الفروق)) للقرافي (2/126)، ((جواهر الدرر)) للتتائي (1/432). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 53] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الآيةَ تَحُضُّ على اتِّباعِ الأحسَنِ في القَولِ؛ حَيثُ أمَر اللهُ تعالى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يُرشِدَ المُؤمِنينَ إلى أن يَقولَ بَعضُهم لبَعضٍ المَقالةَ التي هيَ أحسَنُ مِنَ المُحاورةِ والمُخاطَبةِ [2841] يُنظر: ((الهداية)) لمكي (6/4224)، ((لطائف الإشارات)) للقشيري (2/352)، ((تفسير السمعاني)) (3/249). .
- وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت: 41] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أخبَرَ أنَّ الحَسَنةَ والسَّيِّئةَ مُتَفاوِتَتانِ في أنفُسِهما، وأمَر بالأخذِ بالحَسَنةِ التي هيَ أحسَنُ مِن أُختِها إذا اعتَرَضَتِ الإنسانَ حَسَنَتانِ؛ ليَدفَعَ بأحَدِهما السَّيِّئةَ التي تَرِدُ عليه مِن خُصومِه، كما لو أساءَ إليك رَجُلٌ إساءةً فالحَسَنةُ: أن تَعفوَ عنه، والتي هيَ أحسَنُ: أن تُحسِنَ إليه مَكانَ إساءَتِه إليك؛ فدَلَّتِ الآيةُ على أنَّ ما هو أحسَنُ هو أفضَلُ في الشَّرعِ [2842] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/52)، ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (12/147)، ((مدارك التنزيل)) للنسفي (3/236). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن زَينَبَ امرَأةِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّها أتَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هيَ وامرَأةٌ مِنَ الأنصارِ فسَألَتاه: أتُجزي الصَّدَقةُ عنهما على أزواجِهما وعلى أيتامٍ في حُجورِهما؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَهما أجرانِ؛ أجرُ القَرابةِ، وأجرُ الصَّدَقةِ )) [2843] أخرجه البخاري (1466)، ومسلم (1000)، ولفظُ البخاريِّ: عن زَينَبَ امرَأةِ عَبدِ اللَّهِ، قالت: ((كُنتُ في المَسجِدِ، فرَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: تَصَدَّقنَ ولَو مِن حُليِّكُنَّ. وكانت زَينَبُ تُنفِقُ على عَبدِ اللهِ وأيتامٍ في حَجرِها، قال: فقالت لعَبدِ اللهِ: سَلْ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيَجزي عنِّي أن أُنفِقَ عليكَ وعلى أيتامٍ في حَجري مِنَ الصَّدَقةِ؟ فقال: سَلي أنتِ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فانطَلَقتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوجَدتُ امرَأةً مِنَ الأنصارِ على البابِ، حاجَتُها مِثلُ حاجَتي، فمَرَّ علينا بلالٌ، فقُلنا: سَلِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيَجزي عنِّي أن أُنفِقَ على زَوجي وأيتامٍ لي في حَجري؟ وقُلنا: لا تُخبِرْ بنا، فدَخَلَ فسَألَه، فقال: مَن هما؟ قال: زَينَبُ، قال: أيُّ الزَّيانِبِ؟ قال: امرَأةُ عَبدِ اللهِ، قال: نَعَم، لَها أجرانِ: أجرُ القَرابةِ، وأجرُ الصَّدَقةِ)). .
- وعن سَلمانَ بنِ عامِرٍ الضَّبِّيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الصَّدَقةُ على المِسكينِ صَدَقةٌ، وهيَ على ذي الرَّحِمِ ثِنْتانِ: صَدَقةٌ وصِلةٌ )) [2844] أخرجه الترمذي (658) واللَّفظُ له، والنسائي (2582)، وابن ماجه (1844). صَحَّحه ابنُ خُزَيمة في ((صحيحهـ)) (4/131)، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (3344)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/411)، وصَحَّحه لغَيرِه الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (1844)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (16227)، وصَحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (1495). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثَينِ:
دَلَّ الحَديثانِ على تَفضيلِ الصَّدَقةِ على القَريبِ وذي الرَّحِمِ؛ لأنَّ الصَّدَقةَ عليهما صَدَقةٌ وصِلةُ رَحِمٍ، بخِلافِ الصَّدَقةِ على المِسكينِ، فهيَ صَدَقةٌ فقَط؛ فكان النَّفعُ الحاصِلُ مِنَ الصَّدَقةِ على ذي الرَّحِمِ أعظَمَ، فكان تَقديمُه أَولى، وهو مَعنى القاعِدةِ [2845] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (3/491-494)، ((المفهم)) للقرطبي (3/46)، ((شرح النووي على مسلم)) (7/88،87). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- النِّكاحُ مُشتَمِلٌ على مَصالِحَ جَمَّةٍ، فالاشتِغالُ به أَولى مِنَ الاشتِغالِ بنَفلِ العِبادةِ مَعَ الانقِطاعِ عنِ الزَّواجِ؛ لأنَّ مَنفعةَ العِبادةِ على العابِدِ مَقصورةٌ، ومَنفعةُ النِّكاحِ لا تَقتَصِرُ على النَّاكِحِ، بَل تَتَعَدَّى إلى غَيرِه، وما يَكونُ أكثَرَ نَفعًا فهو أفضَلُ [2846] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/194). .
2- في نِصابِ عُروضِ التِّجارةِ يُقَوَّمُ بالأنفعِ للفقيرِ عِندَ الحَنَفيَّةِ، فإن كان التَّقويمُ بالدَّراهمِ أنفعَ للفقيرِ قُوِّمَت عُروضُ التِّجارةِ بالدَّراهمِ، وإن كان بالدَّنانيرِ أنفَعَ قُوِّمَت بها [2847] يُنظر: ((شرح الوقاية)) لصدر الشريعة (2/215)، ((درر الحكام)) لملا خسرو (1/181). .
3- لو نَذَرَ أن يَتَصَدَّقَ بعَشَرةِ دَراهمَ خُبزًا فتصَدَّق بغَيرِ الخُبزِ مِمَّا يُساوي عَشَرةَ دَراهمَ، أو تصَدَّق بثَمَنِه، جازَ عِندَ الحَنَفيَّةِ، أمَّا الأوَّلُ فلأنَّ خُصوصَ الخُبزِ لا مَدخَلَ له في دَفعِ الحاجةِ، وأمَّا الثَّاني فلأنَّ الثَّمَنَ أنفَعُ للفقيرِ [2848] يُنظر: ((درر الحكام)) لملا خسرو (2/43). .

انظر أيضا: