موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: للوسائِلِ أحكام المَقاصِدِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "للوسائِلِ أحكامُ المَقاصِدِ" [2380] يُنظر: ((الفوائد في اختصار المقاصد)) (ص: 43)، ((قواعد الأحكام)) (1/53) كلاهما للعز بن عبد السلام. ، وصيغةِ: "وسائِلُ الأُمورِ كالمَقاصِدِ" [2381] يُنظر: ((منظومة القواعد الفقهية)) للسعدي بشرح المشيقح (ص: 156). ، وصيغةِ: "وسيلةُ المَقصودِ تابِعةٌ للمَقصودِ" [2382] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/ 3). ، وصيغةِ: "الوسيلةُ تابِعةٌ للمَقصودِ في الحُكمِ" [2383] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/ 177). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الوسيلةُ هيَ ما يُتَوصَّلُ به إلى الشَّيءِ أو يُتَقَرَّبُ به إليه، وتُفضي الوسيلةُ إلى مَقصَدٍ ما، فهيَ ليسَت مَقصودةً لذاتِها، وإنَّما هيَ طَريقٌ إلى المَقصَدِ الذي هو الغَرَضُ الأهَمُّ، فحينَئِذٍ تَكونُ تابِعةً للمَقصَدِ وتَأخُذُ أحكامَ المَقصَدِ الذي هو الغايةُ والهَدَفُ مِنَ الفِعلِ، فوسائِلُ المُحَرَّماتِ والمَعاصي في كَراهَتِها والمَنعِ مِنها بحَسَبِ إفضائِها إلى غاياتِها وارتِباطاتِها، ووسائِلُ الطَّاعاتِ والقُرُباتِ في مَحَبَّتِها والإذنِ فيها بحَسَبِ إفضائِها إلى غاياتِها؛ فوسيلةُ المَقصودِ تابِعةٌ للمَقصودِ، وكِلاهما مَقصودٌ، لكِنَّه مَقصودٌ قَصدَ الغاياتِ، وهيَ مَقصودةٌ قَصدَ الوسائِلِ، فإذا حَرَّمَ الرَّبُّ تَبارَكَ وتعالى شَيئًا ولَه طُرُقٌ ووسائِلُ تُفضي إليه فإنَّه يُحَرِّمُها ويَمنَعُ مِنها؛ تَحقيقًا لتَحريمِه، وتَثبيتًا له، ومَنعًا أن يَقرَبَ حِماه، وإذا أوجَبَ شَيئًا أوجَبَ الوسيلةَ التي تُؤَدِّي إليه، وكَما تَثبُتُ الوسيلةُ بثُبوتِ المَقصَدِ تَسقُطُ بسُقوطِه، ولَو فُرِض عَدَمُ وُجودِ المَقصَدِ لم يَكُنْ حينَئِذٍ للوسائِلِ اعتِبارٌ، ويَختَلِفُ قَدرُ الوسيلةِ بحَسَبِ قَدرِ المَقصَدِ، فالوسيلةُ إلى أفضَلِ المَقاصِدِ أفضَلُ الوسائِلِ، والوسيلةُ إلى أرذَلِ المَفاسِدِ أرذَلُ الوسائِلِ [2384] يُنظر: ((الفوائد في اختصار المقاصد)) (ص: 43)، ((قواعد الأحكام)) (1/123- 125) كلاهما للعز بن عبد السلام، ((الفروق)) (2/33)، ((شرح تنقيح الفصول)) (ص:449) كلاهما للقرافي، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/3)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2128). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ والاستِقراءِ والمَعقولِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:
- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة: 9] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أمرَ بوسيلَتَينِ ليسَتا مَقصودَتَينِ لذاتهما، وهما السَّعيُ وتَركُ البَيعِ، وذلك مِن أجلِ تَحصيلِ مَقصودٍ، وهو أداءُ الجُمُعةِ الواجِبةِ، فثَبَتَ أنَّ الوسائِلَ تَتبَعُ المَقاصِدَ [2385] يُنظر: ((تفسير ابن رجب الحنبلي)) (2/431)، ((القواعد الحسان)) للسعدي (ص:158). .
- وقال اللهُ سُبحانَه: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّهيَ عنِ الزِّنا لم يَكُنْ بصيغةِ "لا تَزنوا" إنَّما بصيغةِ "لا تَقرَبوا"؛ ليَشمَلَ جَميعَ الوسائِلِ المُفضيةِ إليه كالمَسِّ والقُبلةِ ونَحوِهما [2386] يُنظر: ((تفسير النسفي)) (2/255)، ((عمدة القاري)) للعيني (23/ 288)، ((فتح الرحمن)) للعليمي (4/96). .
- وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ [التوبة: 120] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى أثابَهم على المَقصَدِ وهو الجِهادُ، وعلى السَّعيِ وما صاحَبَه مِن ظَمَأٍ ونَصَبٍ، فهو وإن لم يَكُنْ مِن فِعلِهم إلَّا أنَّهم تَسَبَّبوا إليها بسَفَرِهم وسَعيِهم، فأثابَهمُ اللهُ تعالى عليها [2387] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/125،124)، ((الذخيرة)) للقرافي (1/153)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2128). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَدخُلونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنوا حتَّى تَحابُّوا، أو لا أدُلُّكُم على شَيءٍ إذا فعَلتُموه تَحابَبتُم؟ أفشُوا السَّلامَ بَينَكُم )) [2388] أخرجه مسلم (54). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ التَّحابَّ بَينَ المُسلِمينَ مَقصَدٌ شَرعيٌّ عَظيمٌ، ولَمَّا كان السَّلامُ وسيلةً إليه حَثَّ الشَّارِعُ عليه وأمَرَ به [2389] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (9/130)، ((فيض القدير)) للمناوي (2/23). .
- وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن تَطَهَّر في بَيتِه، ثُمَّ مَشى إلى بَيتٍ مِن بُيوتِ اللهِ ليَقضيَ فريضةً مِن فرائِضِ اللهِ، كانت خُطوتاه إحداهما تَحُطُّ خَطيئةً والأُخرى تَرفعُ دَرَجةً)) [2390] أخرجه مسلم (666). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ السَّعيَ لمَّا كان وسيلةً للصَّلاةِ في جَماعةِ المَسجِدِ أثابَ الشَّارِعُ عليه مَثوبةً عَظيمةً [2391] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/125)، ((المجموع)) للنووي (4/194). .
3- مِنَ الاستِقراءِ:
ومِمَّن نَقَلَه: ابنُ القَيِّمِ [2392] قال: (ومَن تَأمَّلَ مَصادِرَها ومَوارِدَها عَلِمَ أنَّ اللَّهَ تعالى ورَسولَه سَدَّ الذَّرائِعَ المُفضيةَ إلى المَحارِمِ بأن حَرَّمَها ونَهى عنها)، ثُمَّ ذَكَرَ وُجوهًا كَثيرةً دالَّةً على استِقرائِه. يُنظَرُ: ((إعلام الموقعين)) (4/3). .
4- مِنَ المَعقولِ:
وهو أنَّ إباحةَ الوسيلةِ مَعَ تَحريمِ المَقصَدِ نَقضٌ للتَّحريمِ، وفيه إغراءٌ للنُّفوسِ بالحَرامِ، وحِكمَتُه تعالى تَأبى ذلك، بَل سياسةُ مُلوكِ الدُّنيا تَأبى ذلك؛ فإنَّ أحَدَهم إذا مَنَعَ جُندَه أو رَعيَّتَه أو أهلَ بَيتِه مِن شَيءٍ ثُمَّ أباحَ لهمُ الطُّرُقَ والأسبابَ والذَّرائِعَ الموصِلةَ إليه لعُدَّ مُتَناقِضًا، ويَحصُلُ مِن جُندِه ورَعيَّتِه ضِدُّ مَقصودِه، وكذلك الأطِبَّاءُ إذا أرادوا حَسْمَ الدَّاءِ مَنَعوا صاحِبَه مِنَ الطُّرُقِ والذَّرائِعِ الموصِلةِ إليه، وإلَّا فسَدَ عليهم ما يَرومونَ إصلاحَه، فما الظَّنُّ بهذه الشَّريعةِ الكامِلةِ التي هيَ في أعلى دَرَجاتِ الحِكمةِ والمَصلَحةِ والكَمالِ [2393] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/3). ؟
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- الأمرُ بالمَعروفِ وسيلةٌ إلى تَحصيلِ ذلك المَعروفِ المَأمورِ به، فرُتبَتُه في الفضلِ والثَّوابِ مَبنيَّةٌ على رُتبةِ مَصلَحةِ الفِعلِ المَأمورِ به في بابِ المَصالِحِ [2394] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/124). .
2- مَن فاتَته الجُمُعاتُ والجَماعاتُ سَقَطَ عنه السَّعيُ إليها؛ لأنَّ الوُجوبَ استُفيدَ مَن وجوبِهنَّ، فإذا سَقَطْنَ سَقَطَتِ الوسيلةُ [2395] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/124). .
3- الاختِلاطُ بَينَ الرِّجالِ والنِّساءِ لغَيرِ ضَرورةٍ أو حاجةٍ، وبدونِ أخذِ التَّدابيرِ الاحتِرازيَّةِ في اللِّباسِ والهَيئةِ، أوِ الكَلامِ والأُسلوبِ، أوِ المَجالِسِ والتَّخاطُبِ: أمرٌ يَمنَعُه الشَّرعُ المُطَهَّرُ؛ لأنَّها وسائِلُ تُفضي إلى الحَرامِ، ولِلوسائِلِ أحكامُ المَقاصِدِ [2396] يُنظر: ((فقه النوازل)) لمحمد يسري (1/135). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
فوائِدُ:
1- مَعَ عِظَمِ أهَمِّيَّةِ الوسيلةِ إلى المَقصَدِ إلَّا أنَّ الوسيلةَ تَبقى أقَلَّ دَرَجةً مِنَ المَقصَدِ؛ فالمَقاصِدُ أفضَلُ مِنَ الوسائِلِ [2397] يُنظر: ((الفوائد في اختصار المقاصد)) للعز بن عبد السلام (ص:60)، ((الفروق)) للقرافي (2/ 218). . وهذا مُفيدٌ عِندَ تَرتيبِ الأدِلَّةِ وقيامِ حالةِ التَّعارُضِ، كَما سَيَأتي في قاعِدةِ: (الوسائِلُ أخفَضُ رُتبةً مِنَ المَقاصِدِ). وما يَندَرِجُ تَحتَها.
2- الوسيلةُ الواحِدةُ قد يَختَلِفُ حُكمُها باختِلافِ استِعمالِ المُكَلَّفينَ لها؛ مِمَّا يُؤَدِّي إلى اختِلافِ حُكمِها الشَّرعيِّ؛ لأنَّ الوسيلةَ تابِعةٌ للمَقصودِ، وحُكمُها حُكمُ ما أفضَت إليه مِن تَحريمٍ أو تَحليلٍ [2398] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (1/ 153). فالقَرضُ مَثَلًا الأصلُ فيه أنَّه قُربةٌ مِنَ القُرَبِ في حَقّ المُقرِضِ؛ لِما فيه مِن إيصالِ النَّفعِ للمُقتَرِضِ وقَضاءِ حاجَتِه وتَفريجِ كُربَتِه، وقد يَعرِضُ للقَرضِ حُكمُ الوُجوبِ أوِ الكَراهيةِ أوِ الحُرمةِ أوِ الإباحةِ، بحَسَبِ المَقصَدِ الذي يُفضي إليه، فإذا كان المُقتَرِضُ مُضطَرًّا إلى المالِ كان إقراضُه واجِبًا؛ لأنَّه قد تَعَيَّنَ القَرضُ وسيلةً لإنقاذِ المُقتَرِضِ. وإن عَلِمَ المُقرِضُ أو غَلَبَ على ظَنِّه أنَّ المُقتَرِضَ يُنفِقُه في مَعصيةٍ أو مَكروهٍ كان حَرامًا أو مَكروهًا على حَسَبِ الحالِ. يُنظر: ((معلمة زايد)) (4/ 302- 303). .
3- قد تَكونُ وسيلةُ المُحَرَّمِ غَيرَ مُحرَّمةٍ إذا أفضَت إلى مَصلَحةٍ راجِحةٍ، كالتَّوسُّلِ إلى فِداءِ الأُسارى بدَفعِ المالِ للكُفَّارِ، الذي هو مُحَرَّمٌ عليهمُ الانتِفاعُ به [2399] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/ 33). .

انظر أيضا: