موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّالِثُ: السَّبَبُ إن ثَبَتَ فلا احتياطَ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "السَّبَبُ إن ثَبَتَ فلا احتياطَ" [2372] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (9/313). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
إذا ثَبَتَ الحُكمُ بنَصٍّ صَحيحٍ صَريحٍ فلا مَجالَ للِاحتياطِ؛ لأنَّ الاحتياطَ إنَّما يَكونُ عِندَ حُصولِ الشَّكِّ، وأمَّا عِندَ وُجودِ النَّصِّ فإنَّ الشَّكَّ يَنعَدِمُ، وكَذا الأسبابُ التي رَبَطَ الشَّارِعُ بها بَعضَ الأحكامِ إذا ثَبَتَت يَثبُتُ الحُكمُ ولا يُحتاطُ حينَئِذٍ عِندَ ثُبوتِ السَّبَبِ، سَواءٌ كان السَّبَبُ قَطعيًّا أو كان أمارةً ظَنِّيَّةً اعتَبَرَها الشَّارِعُ، وجَعَلَ ما تُفيدُه مِنَ الأحكامِ في حُكمِ اليَقينِ في مَقامِ العَمَلِ والامتِثالِ؛ لأنَّ الشَّارِعَ حينَما اعتَبَرَها ألغى احتِمالَ المُعارِضِ فلَم يَلتَفِتْ إليه، فلا يَصِحُّ الاحتياطُ حينَئِذٍ مِن أجلِ أنَّها أمارةٌ ظَنِّيَّةٌ، بَل يَثبُتُ الحُكمُ بها ولا يُلجَأُ إلى الاحتياطِ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكملةً لقاعِدةِ (الاحتياطُ إنَّما يَكونُ بَعدَ ظُهورِ السَّبَبِ) [2373] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (9/313)، ((نظرية الاحتياط الفقهي)) لمحمد عمر سماعي (ص:239،238). . والفرقُ بَينَهما أنَّ القاعِدةَ الأُمَّ تَتَعَلَّقُ بمُجَرَّدِ ظُهورِ السَّبَبِ دونَ ثُبوتِه، وهذه القاعِدةُ تَتَعَلَّقُ بثُبوتِه.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والمَعقولُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((صَنَع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَيئًا فرَخَّصَ فيه، فتَنَزَّهَ عنه قَومٌ، فبَلَغَ ذلك النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فخَطَبَ فحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قال: ما بالُ أقوامٍ يَتَنَزَّهونَ عنِ الشَّيءِ أصنَعُه؟! فواللهِ إنِّي لأعلَمُهم باللهِ وأشَدُّهم له خَشيةً )) [2374] أخرجه البخاري (6101) واللفظ له، ومسلم (2356). .
- وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها ((أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَستَفتيه وهيَ تَسمَعُ مِن وراءِ البابِ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، تُدرِكُني الصَّلاةُ وأنا جُنُبٌ، أفأصومُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وأنا تُدرِكُني الصَّلاةُ وأنا جُنُبٌ فأصومُ، فقال: لستَ مِثلَنا يا رَسولَ اللهِ، قد غَفرَ اللهُ لك ما تَقدَّمَ مِن ذَنبِك وما تَأخَّرَ. فقال: واللهِ إنِّي لأرجو أن أكونَ أخشاكُم للهِ وأعلَمَكُم بما أتَّقي )) [2375] أخرجه مسلم (1110). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثَينِ:
دَلَّ الحَديثانِ على أنَّ الشَّيءَ إذا ثَبَتَ فلا يُحتاطُ فيه حينَئِذٍ؛ لأنَّهم إنَّما فعَلوا ذلك احتياطًا، وعابَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليهم [2376] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (1/247،246)، ((الكواكب الدراري)) للكرماني (21/224). .
2- مِنَ المَعقولِ:
وهو أنَّ السَّبَبَ إذا ثَبَتَ فقد ثَبَتَ الحَقُّ. واحتِمالُ سُقوطِه بعارِضٍ أمرٌ مُتَوهَّمٌ، والأصلُ عَدَمُه حتَّى يَقومَ الدَّليلُ على العارِضِ [2377] يُنظر: ((رد المحتار)) لابن عابدين (5/558،557). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا حَكَمَ القاضي بمَوتِ المَفقودِ فإنَّ زَوجَتَه تَعتَدُّ، وبَعدَ مُضيِّ العِدَّةِ تَحِلُّ للأزواجِ، وكَذا تُوَزَّعُ تَرِكةُ المَفقودِ، ولا عِبرةَ باحتِمالِ كَونِ المَفقودِ حَيًّا؛ لأنَّ الحُكمَ ثَبَتَ بسَبَبٍ، وهو حُكمُ القاضي، وهذا السَّبَبُ وإن كان يُفيدُ الظَّنَّ لكِنَّ الحُكمَ يَثبُتُ به كَما يَثبُتُ بالبَيِّنةِ وإن أفادَتِ الظَّنَّ، وكَما يَثبُتُ مَوتُه بالبَيِّنةِ يَثبُتُ بحُكمِ القاضي، ويُنَزَّلُ قَضاءُ القاضي بمَوتِه مَنزِلةَ مَوتِه [2378] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (8/434)، ((شرح الفصول المهمة)) لسبط المارديني (2/654). .
2- إن رَمى صَيدًا ولَم يُقَصِّرْ في طَلَبِه فوجَدَه مَيِّتًا وفيه أثَرُ الرَّميةِ، فهو حَلالٌ مُطلَقًا؛ لأنَّ هذا ظاهِرٌ في استِنادِ مَوتِه إلى الجِراحةِ، وإنِ احتَمَلَ أن يَموتَ بسَقطةٍ أو رَميةٍ، فلا يُحتاطُ حينَئِذٍ؛ لوُجودِ السَّبَبِ وهو الرَّميةُ، وثُبوتِ أثَرِها فيه [2379] يُنظر: ((الإرشاد إلى سبيل الرشاد)) لابن أبي موسى الهاشمي (ص: 382)، ((التجريد)) للقدوري (12/6298)، ((المحلى)) لابن حزم (6/156)، ((نظرية الاحتياط الفقهي)) لمحمد عمر سماعي (ص: 239،238). .

انظر أيضا: