موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: عِندَ تَحَقُّقِ المُعارَضةِ وانعِدامِ التَّرجيحِ يَجِبُ الأخذُ بالاحتياطِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "عِندَ تَحَقُّقِ المُعارَضةِ وانعِدامِ التَّرجيحِ يَجِبُ الأخذُ بالاحتياطِ" [2359] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص:294). ، وصيغةِ: "إذا تَعارَضَ نَصَّانِ أو ظاهرانِ وأحَدُهما أقرَبُ إلى الاحتياطِ أُخِذَ بالأحوَطِ" [2360] يُنظر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص:200). ، وصيغةِ: "يُرَجَّحُ ما كان أقرَبَ إلى الاحتياطِ على غَيرِه" [2361] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (8/4219). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
إذا تَعارَضَ دَليلانِ ولَم يُمكِنْ تَرجيحُ أحَدِهما على الآخَرِ بمُرَجِّحٍ مِنَ المُرَجِّحاتِ فإنَّه يُعمَلُ ما كان مِنهما أقرَبَ إلى الاحتياطِ، فالأقرَبُ إلى الاحتياطِ يَكونُ مُقدَّمًا؛ لكَونِه أقرَبَ إلى تَحصيلِ المَصلَحةِ ودَفعِ المَضَرَّةِ وبَراءةِ الذِّمَّةِ، فإذا تَعارَضَ المُبيحُ والمُحرِّمُ، أوِ المُبيحُ والموجِبُ، ففي المَصيرِ إلى الأخذِ بالمُبيحِ تَسويغُ الإقدامِ والإحجامِ، وعلى تَقديرِ أن يُعارِضَه المُحرِّمُ فإنَّه إذا تُرِكَ فلا حَرَجَ في التَّركِ، نَظَرًا إلى المُبيحِ، وإن فُعِل أمكَنَ أن يُصادِفَ المُحَرِّمَ، فكان التَّركُ أقرَبَ إلى السَّلامةِ، وكَذا عَكسُ ذلك إذا تَعارَضَ الموجِبُ والمُبيحُ، فعلى تَقديرِ الإقدامِ فلا حَرَجَ في المُبيحِ، وعلى تَقديرِ الانكِفافِ يُمكِنُ أن يَكونَ الشَّيءُ واجِبًا، فتَفوتَ المُكَلَّفَ مَصلَحةُ الفِعلِ، فيَكونُ الاحتياطُ على هذا أَولى [2362] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (4/320)، ((الإحكام)) للآمدي (4/267)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/195، 204). .
وثَمَّةَ ضَوابِطُ تَتَعَلَّقُ بالأخذِ بالاحتياطِ [2363] يُنظر: ((الترجيح بالاحتياط للحكم التكليفي)) لأحمد الغامدي (ص: 24- 26). ، وهيَ تَلتَقي مَعَ بَعضِ الشُّروطِ التي يَجِبُ مُراعاتُها في قاعِدةِ (الخُروجُ مِنَ الخِلافِ مُستَحَبٌّ)، وقد ذُكِرَت عِندَ تلك القاعِدةِ [2364] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 137). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقواعدِ والمعقولِ:
1- مِنَ القواعدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقواعدِ التَّاليةِ:
- قاعِدةُ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ).
- وقاعِدةُ: (الشَّريعةُ مَبنيَّةٌ على الاحتياطِ).
2- مِنَ المعقولِ:
وهو أنَّ الأخذَ بالحُكمِ الأحوطِ هو الأسلَمُ للمُكَلَّفِ على مُقتَضى كُلٍّ مِنَ الدَّليلَينِ المُتَعارِضَينِ؛ فمَثَلًا في حالةِ تَعارُضِ دَليلَينِ أحَدُهما يُفيدُ الحُرمةَ والآخَرُ يُفيدُ الإباحةَ، فإنَّ مُقتَضى الحُكمِ بالحُرمةِ سَلامةُ المُكَلَّفِ وإبراءُ ذِمَّتِه؛ لأنَّه سَيَبتَعِدُ عن ذلك الفِعلِ، فيَكونُ في مَحَلِّ السَّلامةِ على مُقتَضى كُلٍّ مِنَ الدَّليلَينِ. بَينَما لو حَكَمَ المُجتَهِدُ بالإباحةِ، فإنَّ في ذلك تَعريضًا للمُكَلَّفِ للإثمِ بالنَّظَرِ إلى مُقتَضى الدَّليلِ المُحَرِّمِ [2365] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/ 408)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/ 682)، ((معلمة زايد)) (33/244). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- اختِلافُ العُلَماءِ في الفَخِذِ هَل هيَ عَورةٌ أم لا، وسَبَبُه اختِلافُ الأحاديثِ في ذلك؛ فعن جَرهَدٍ الأسلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: جَلَسَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَنا وفَخِذي مُنكَشِفةٌ، فقال: ((أمَا عَلِمتَ أنَّ الفَخِذَ عَورةٌ؟)) [2366] أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغةِ التَّمريضِ قَبلَ حَديثِ (371)، وأخرجه موصولًا أبو داود (4014) واللَّفظُ له، والترمذي (2795). ضَعَّفه ابنُ القَطَّانِ في ((الوهم والإيهام)) (3/338)، وضَعَّف إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (1703)، وقال العراقي في ((التقييد والإيضاح)) (40): لا نُسَلِّمُ صِحَّتَه لِما فيه مِنَ الاضطِرابِ في إسنادِه، وقال ابنُ حَجَرٍ في ((تغليق التعليق)) (2/209): مُضطَرِبٌ جِدًّا، وقال ابنُ عبد البر في ((الاستيعاب)) (1/335): مُضطَرِبٌ، وقال ابنُ رجب في ((فتح الباري)) (2/190): إسنادُه مُنقَطِعٌ. ، وعن أنَسٍ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَزا خَيبَرَ، فصَلَّينا عِندَها صَلاةَ الغَداةِ بغَلَسٍ، فرَكِبَ نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَكِبَ أبو طَلحةَ، وأنا رَديفُ أبي طَلحةَ، فأجرى نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في زُقاقِ خَيبَرَ، وإنَّ رُكبَتي لتَمَسُّ فَخِذَ نَبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ حَسَرَ الإزارَ عن فَخِذِه حتَّى إنِّي أنظُرُ إلى بَياضِ فَخِذِ نَبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. [2367] أخرجه البخاري (371) واللَّفظُ له، ومسلم (1365). ، فمِنَ العُلَماءِ مَن ذَهَبَ إلى الأخذِ بحَديثِ جَرهَدٍ فرَجَّحَ أنَّ الفَخِذَ عَورةٌ؛ للِاحتياطِ [2368] يُنظر: ((مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد اللهـ)) (ص: 62)، ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (1/229)، ((المبسوط)) للسرخسي (10/146)، ((المغني)) لابن قدامة (2/284)، ((فتح الباري)) لابن حجر (2/405)، ((اللامع الصبيح)) للبرماوي (3/95). .
2- اتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّه يَحرُمُ وطءُ الحائِضِ، واختَلَفوا في الاستِمتاعِ بما بَينَ السُّرَّةِ والرُّكبةِ فيما عَدا الوطءَ، وسَبَبُه اختِلافُ الآثارِ؛ حَيثُ رويَ عن عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: ((سَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما يَحِلُّ للرَّجُلِ مِنِ امرَأتِه وهيَ حائِض؟ قال: ما فوقَ الإزارِ)) [2369] أخرجه مِن طُرُقٍ: أحمَدُ (86) مُطوَّلًا، وابنُ أبي شَيبةَ (17103)، وأبو يعلى كما في ((مجمع الزَّوائِد)) للهيثمي (1/286) واللَّفظُ له. ضَعَّفه الألبانيُّ في ((ضعيف الجامع)) (1243)، وقال ابن حزم في ((المحلى)) (2/178): لا يَصِحُّ، وقال عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الوسطى)) (1/209): ليسَ بقَويٍّ، وضَعَّف إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (1/58)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (86). ، ورويَ أيضًا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اصنَعوا كُلَّ شَيءٍ إلَّا النِّكاحَ )) [2370] أخرجه مسلم (302) مِن حَديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فذَهَبَ أبو حَنيفةَ والشَّافِعيَّةُ إلى تَحريمِ الاستِمتاعِ بما بَينَ السُّرَّةِ والرُّكبةِ تَقديمًا للحَديثِ المانِعِ؛ أخذًا بالأحوَطِ [2371] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (1/77)، ((إكمال المعلم)) لعياض (2/124)، ((العدة شرح العمدة)) للعطار (1/270)، ((البناية)) للعيني (1/646). .

انظر أيضا: