موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ السَّابِعُ: السَّاقِطُ لا يَعودُ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "السَّاقِطُ لا يَعودُ" [2136] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/30)، ((شرح الوقاية)) لصدر الشريعة الأصغر (4/197)، ((العناية)) للبابرتي (1/493)، ((البناية)) للعيني (5/582)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (4/285)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (6/334)، ((درر الحكام)) لملا خسرو (1/399)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 272)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (9/456)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/455). . وصيغةِ: "السَّاقِطُ لا يَعودُ كَما أنَّ المَعدومَ لا يَعودُ" [2137] يُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 21)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 265)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/521). . وصيغةِ: "السَّاقِطُ لا يَحتَمِلُ العَودَ" [2138] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/289)، ((شرح الزيادات)) لقاضي خان (3/977)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (1/533)، ((الاختيار)) للموصلي (1/64)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/310)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (6/181)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/130). . وصيغةِ: "السَّاقِطُ لا يَحتَمِلُ الرُّجوعَ" [2139] يُنظر: ((شرح أدب القاضي للخصاف)) للصدر الشهيد (ص: 524)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/15). . وصيغةِ: "السَّاقِطُ لا يَحتَمِلُ الرَّدَّ" [2140] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/325). . وصيغةِ: "السَّاقِطُ مُتَلاشٍ لا يُتَصَوَّرُ عَودُه" [2141] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (21/44). . وصيغةِ: "السَّاقِطُ لا يَعودُ إلَّا بسَبَبٍ جَديدٍ" [2142] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/257). . وصيغةِ: "الحَقُّ متى بَطَلَ لا يَعودُ إلَّا بسَبَبٍ جَديدٍ" [2143] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (7/291). . وصيغةِ: "ما سَقَطَ حُكمُه ببُرهانٍ فلا يَرجِعُ إلَّا بنَصٍّ يوجِبُ رُجوعَه" [2144] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/582). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
المُرادُ بالسَّاقِطِ هنا الحُكمُ أوِ التَّصَرُّفُ الذي تَمَّ، والسَّاقِطُ صِفةٌ لمَوصوفٍ مَحذوفٍ هو الحُكمُ أوِ التَّصَرُّفُ، وإسقاطُه يَكونُ بفِعلِ المُكَلَّفِ أو بالإسقاطِ الشَّرعيِّ. ومَعنى لا يَعودُ: أي: يُصبِحُ كالمَعدومِ لا سَبيلَ لإعادَتِه إلَّا بسَبَبٍ جَديدٍ يُعيدُ مِثلَه لا عَينَه.
وقدِ اشتَهَرَ استِعمالُ هذه القاعِدةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ، وهيَ تُفيدُ أنَّ كُلَّ الحُقوقِ والواجِباتِ التي تَقبَلُ السُّقوطَ [2145] لا يَدخُلُ في ذلك الحُقوقُ التي لا تَقبَلُ السُّقوطَ؛ حَيثُ توجَدُ حُقوقٌ غَيرُ قابِلةٍ للسُّقوطِ أصلًا، فتَبقى كَما هيَ، كَحَقِّ الفَسخِ للعَقدِ الفاسِدِ، وحَقِّ الرُّجوعِ في الهبةِ، وحَقِّ الاستِحقاقِ في الوَقفِ، وحَقِّ الوكيلِ في القيامِ بما وُكِّلَ به، وحَقِّ المُستَعيرِ في الانتِفاعِ بالعارَّيةِ، وحَقِّ الإدخالِ والإخراجِ في الوقفِ لمَن شُرِط له مِن واقِفٍ أو غَيرِه، وحَقِّ خيارِ الرُّؤيةِ، وحَقِّ تَحليفِ اليَمينِ المُتَوجِّهةِ على أحَدِ المُتَداعيَينِ. يُنظَرُ: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 265)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/521). وكذلك لا يَجري الإسقاطُ في الأعيانِ؛ لأنَّ الإسقاطَ في الأعيانِ لا يُتَصَوَّرُ، أو إسقاطُ الوارِثِ؛ فإرثُه حَيثُ لا يَسقُطُ، كأن يَقولَ: تَرَكتُ حَقِّي في الميراثِ أو بَرِئتُ مِنه أو مِن حِصَّتي، فلا يَصِحُّ، وهو على حَقِّه؛ لأنَّ الإرثَ جَبريٌّ لا يَصِحُّ تَركُه. يُنظَرُ: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 272)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 370). بسَبَبٍ مُسقِطٍ للحَقِّ، فإنَّه لا يَعودُ بَعدَ سُقوطِه، ويُصبِحُ مَعدومًا، فلا يَعودُ كَما لا يَعودُ المَعدومُ؛ لأنَّ السَّاقِطَ يَنتَهي ويَتَلاشى. والمُرادُ بالحُقوقِ هنا حُقوقُ العِبادِ؛ لأنَّ حُقوقَ اللهِ تعالى لا تَقبَلُ الإسقاطَ مِنَ العَبدِ؛ فلَو عَفا وَليُّ المُزنيِّ بها عنِ الزَّاني فلا يُعتَدُّ بعَفوِه، بَل يُقامُ الحَدُّ على الزَّاني والمُزنيِّ بها إن كانت مُطاوِعةً.
والإسقاطُ يَقَعُ على الكائِنِ المُستَحِقِّ، وهو الذي إذا سَقَطَ لا يَعودُ، أمَّا الحَقُّ الذي يَثبُتُ شَيئًا فشَيئًا، أي: يَتَجَدَّدُ بتَجَدُّدِ سَبَبِه، فلا يَرِدُ عليه الإسقاطُ؛ لأنَّ الإسقاطَ يُؤَثِّرُ في الحالِ دونَ المُستَقبَلِ. ومِثالُ ذلك لو أسقَطَتِ الزَّوجةُ نَوبَتَها لضَرَّتِها فلَها الرُّجوعُ؛ لأنَّها أسقَطَتِ الكائِنَ، وحَقُّها يَثبُتُ شَيئًا فشَيئًا، فلا يَسقُطُ في المُستَقبَلِ [2146] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 272)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/54)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 265)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 369)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/521)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (4/254). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (المَعدومُ شَرعًا كالمَعدومِ حِسًّا)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ السَّاقِطَ في حُكمِ المَعدومِ، فلا يَعودُ؛ إذِ المَعدومُ شَرعًا كالمَعدومِ حِسًّا.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالإجماعِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ الإجماعِ:
ومِمَّن حَكاه: ابنُ نُجَيمٍ [2147] قال: (الساقط لا يعود اتفاقًا). ((البحر الرائق)) (2/94). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (المَعدومُ شَرعًا كالمَعدومِ حِسًّا).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ:
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- الماءُ القَليلُ إذا تَنَجَّسَ فدَخَلَ عليه الماءُ الجاري حتَّى كَثُرَ وسالَ ثُمَّ عادَ إلى القِلَّةِ، فلا يَعودُ نَجِسًا؛ لأنَّ السَّاقِطَ تَلاشى فلا يَحتَمِلُ العَودَ [2148] يُنظر: ((غمز عيون البصائر)) للحموي (3/363). .
2- إذا كان الثَّمَنُ غَيرَ مُؤَجَّلٍ، وسَلَّمَ البائِعُ المَبيعَ للمُشتَري قَبلَ قَبضِ الثَّمَنِ، فإنَّه يُسقِطُ حَقَّه في حَبسِ المَبيعِ لأجلِ استيفاءِ الثَّمَنِ، وليس له استِردادُه بَعدَ ذلك مِنَ المُشتَري وحَبسُه ليَستَوفيَ الثَّمَنَ؛ لأنَّ السَّاقِطَ لا يَعودُ، وإنَّما له مُلاحَقةُ المُشتَري بالثَّمَنِ. وكذلك لو قَبَضَه المُشتَري والحالةُ هذه بمَرأًى مِنَ البائِعِ ولَم يَنهَه، والبَيعُ باتٌّ، فإنَّه يُسقِطُ حَقَّه في الحَبسِ للمَبيعِ، ومَتى سَقَطَ ذلك لا يَعودُ [2149] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/54)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 370)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/521). . وكذلك إذا كان للأجيرِ حَقُّ حَبسِ العَينِ، بأن كان لعَمَلِه أثَرٌ فيها -والأثَرُ ما كان عَينًا قائِمةً، كالخَيَّاطِ والصَّبَّاغِ- إذا سَلَّمَها حَقيقةً أو سَلَّمها حُكمًا بأن عَمِل في بَيتٍ استَأجَرَه، سَقَطَ حَقُّه في الحَبسِ. وكذلك حَقُّ المُرتَهِنِ في حَبسِه الرَّهنَ فإنَّه إذا أسقَطَه يَسقُطُ، ومَتى سَقَطَ ذلك لا يَعودُ [2150] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 266)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/522). .
3- إذا أبرَأ الدَّائِنُ مَديونَه عنِ الدَّينِ، فقَبِل أو سَكَت ولَم يَرُدَّ، سَقَطَ الدَّينُ، ومَتى سَقَطَ لا يَعودُ، فلا يُمكِنُ استِعادَتُه إذا نَدِمَ الدَّائِنُ، ولا تُسمَعُ دَعواه به وإن أقَرَّ به المَديونُ بَعدَ ذلك [2151] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 266)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/521). .
4- إذا أجازَ الورَثةُ القدرَ الزَّائِدَ عنِ الثُّلثِ مِن وصيَّةِ مُوَرِّثِهم سَقَطَ حَقُّهمُ المُتَعَلِّقُ بالزَّائِدِ، فلا يَصِحُّ رُجوعُهم عنِ الإجازةِ؛ لأنَّ السَّاقِطَ لا يَعودُ [2152] يُنظر: ((الوجيز)) للبورنو (ص: 371). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ، مِنها:
1- حَقُّ الشُّفعةِ [2153] الشُّفعةُ هيَ: انتِزاعُ الإنسانِ حِصَّةَ شَريكِه مِن مُشتَريها بمِثلِ ثَمَنِها. يُنظَرُ: ((الكافي)) لابن قدامة (2/232). قَبلَ البَيعِ لا يَسقُطُ بالإسقاطِ، فلَو أسقَطَه الشَّفيعُ قَبلَه لا يَسقُطُ؛ لأنَّه إنَّما يَثبُتُ بَعدَ البَيعِ [2154] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 268). . بخِلافِ مَن ثَبتَ له حَقُّ الشُّفعةِ، إذا أسقَطَ حَقَّه سَقَطَ، ومَتى سَقَطَ ذلك لا يَعودُ [2155] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 267)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/523). .
2- حَقُّ رَبِّ السَّلَمِ [2156] السَّلَمُ هو: بَيعُ مَوصوفٍ في الذِّمَّةِ ببَدَلٍ يُعطى عاجِلًا. يُنظَرُ: ((فقه المعاملات المالية)) إعداد الدرر السنية (1/523). في لُزومِ التَّسليمِ في المَكانِ المُعَيَّنِ في عَقدِ السَّلَمِ، وحَقُّ المُسلَّمِ إليه في قَبضِ الثَّمَنِ في مَجلِسِ السَّلَمِ، فإنَّهما لا يَسقُطانِ؛ لأنَّهما حَقُّ الشَّرعِ؛ إذ بدونِهما يَفسُدُ العَقدُ [2157] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 269). .

انظر أيضا: