المَطلَبُ الأوَّلُ: المَوجودُ شَرعًا كالمَوجودِ حَقيقةً
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المَوجودُ شَرعًا كالمَوجودِ حَقيقةً"
[2158] يُنظر: ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (1/116)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/871). . وصيغةِ: "المَوجودُ شَرعًا هو المَعقودُ لفظًا وحَقيقةً"
[2159] يُنظر: ((تقويم النظر)) لابن الدهان (3/18). . وصيغةِ: "هَلِ المَوجودُ شَرعًا كالمَوجودِ حَقيقةً وحِسًّا أم لا؟"
[2160] يُنظر: ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (1/110). . وصيغةِ: "المَوجودُ حُكمًا هَل هو كالمَوجودِ حَقيقةً أو لا؟"
[2161] يُنظر: ((القواعد)) للمقري (2/450)، ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (1/141). . وصيغةِ: "الثَّابِتُ حُكمًا كالثَّابِتِ حَقيقةً"
[2162] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/137). . وصيغةِ: "الثَّابِتُ حُكمًا كالثَّابِتِ حِسًّا أو أقوى مِنه"
[2163] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/59). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.مَعنى الوُجودِ الشَّرعيِّ أن يَعتَبِرَ الشَّارِعُ أركانًا وشَرائِطَ يَحصُلُ مِنِ اجتِماعِها مَجموعٌ مُسَمًّى باسمٍ خاصٍّ يوجَدُ بوُجودِ تلك الأركانِ والشَّرائِطِ، ويَنتَفي بانتِفائِها، كالصَّلاةِ والبَيعِ. والوُجودُ في كَلامِ الشَّارِعِ يُحمَلُ على الوُجودِ الشَّرعيِّ دونَ الحِسِّيِّ، وشُروطُ الوُجودِ الشَّرعيِّ شُروطٌ للصِّحَّةِ، وعَدَمُ الوُجودِ الشَّرعيِّ هو عَدَمُ الصِّحَّةِ الشَّرعيَّةِ. وتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الاعتِدادَ في الأُمورِ إنَّما هو بالشَّرعِ لا بالحِسِّ؛ فما كان مَشروعًا فهو مَوجودٌ حَقيقةً، وإن لم يَكُنْ مَوجودًا حِسًّا، فمَن كان ضالًّا فهو أعمى وإن كان يُبصِرُ، ومَنِ اهتَدى فهو بَصيرٌ وإن كان لا يَنظُرُ، وهذا مِن تَنزيلِ المَوجودِ شَرعًا كالمَوجودِ حَقيقةً، والمَعدومُ شَرعًا كالمَعدومِ حَقيقةً، مَعَ الاختِلافِ في ذلك
[2164] يُنظر: ((التلويح)) للتفتازاني (2/299)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/166)، ((حاشية السندي على سنن النسائي)) (2/137)، ((حاشية ابن عابدين)) (1/89)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/871). .
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، ومِن ذلك:
1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((بَينَما نَحنُ جُلوسٌ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ جاءَه رَجُلٌ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، هَلَكتُ. قال: ما لك؟ قال: وقَعتُ على امرَأتي وأنا صائِمٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هل تَجِدُ رَقَبةً تُعتِقُها؟ قال: لا، قال: فهل تَستَطيعُ أن تَصومَ شَهرَينِ مُتَتابِعَينِ؟ قال: لا، فقال: فهل تَجِدُ إطعامَ سِتِّينَ مِسكينًا؟ قال: لا. قال: فمَكَثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبينا نَحنُ على ذلك أُتيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَرَقٍ فيها تَمرٌ -والعَرَقُ المِكتَلُ- قال: أينَ السَّائِلُ؟ فقال: أنا، قال: خُذْها، فتَصَدَّقْ به، فقال الرَّجُلُ: أعلى أفقَرَ مِنِّي يا رَسولَ اللهِ؟ فواللهِ ما بَينَ لابَتَيها -يُريدُ الحَرَّتَينِ- أهلُ بَيتٍ أفقَرُ مِن أهل بَيتي، فضَحِكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى بَدَت أنيابُه! ثُمَّ قال: أطعِمْه أهلَك )) [2165] أخرجه البخاري (1936) واللفظ له، ومسلم (1111). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((هَل تَجِدُ رَقَبة تُعتِقُها؟)) أي: تَقدِرُ، فالمُرادُ به: الوُجودُ الشَّرعيُّ؛ ليَدخُلَ فيه القُدرةُ بالشِّراءِ ونَحوِه، ويَخرُجُ عنه مالِكُ الرَّقَبةِ المُحتاجِ إليها بطريقٍ مُعتَبَرٍ شَرعًا
[2166] يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (8/310)، ((كشف اللثام)) للسفاريني (3/519). .
2- عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا صَلاةَ لمَن لمَ يَقرَأْ بفاتِحةِ الكِتابِ )) [2167] أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ مَعنى الحَديثِ: لا صَلاةَ مَوجودةٌ بالوُجودِ الشَّرعيِّ لمَن لم يَقرَأْ بها، فمُؤَدَّى الحَديثِ نَفيُ الوُجودِ الشَّرعيِّ للصَّلاةِ التي لم يُقرَأْ فيها بفاتِحةِ الكِتابِ، فإذا وُجِدَت صورةُ الصَّلاةِ فهيَ باطِلةٌ، فتَعَيَّن نَفيُ الصِّحَّةِ؛ لأنَّ الوُجودَ في كَلامِ الشَّارِعِ يُحمَلُ على الوُجودِ الشَّرعيِّ دونَ الحِسِّيِّ
[2168] يُنظر: ((حاشية السندي على سنن ابن ماجهـ)) (1/277)، ((بذل المجهود)) للسهارنفوري (4/227)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (3/105). .
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- يُشتَرَطُ في الموصى به أن يَكونَ مَوجودًا، فإن كان مَفقودًا -كالمَنافِعِ- جازَتِ الوصيَّةُ؛ لأنَّها كالمَوجودِ شَرعًا في المُعاوَضةِ
[2169] يُنظر: ((الوسيط)) للغزالي (4/416). .
2- ما تَرَتَّبَ في الذِّمَّةِ مِن نَقدٍ لا يُعرَفُ بعَينِه، وكان حالَ الدَّفعِ كنَقدٍ مَسكوكٍ عِندَ الغاصِبِ، أو سَبائِكِ ذَهَبٍ، يَجوزُ للمَغصوبِ مِنه أن يُصارِفَه مَعَ الغاصِبِ وإن لم يَكُنِ الذَّهَبُ حاضِرًا في مَجلِسِ العَقدِ؛ لأنَّه مَوجودٌ حُكمًا بوُجودِه حاضِرًا في الذِّمَّةِ. وقيلَ: لا يَجوزُ؛ لعَدَمِ وُجودِه حِسًّا
[2170] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/872). .
3- صَرفُ ما في الذِّمَّةِ مِنَ الدَّينِ هَل يَصِحُّ لأنَّه مَوجودٌ حُكمًا، أو لا؛ لعَدَمِ حُضورِ النَّقدَينِ أو أحَدِهما حِسًّا في المَجلِسِ، كَأن يَكونَ لشَخصٍ في ذِمَّةِ آخَرَ ذَهَبٌ أو فِضَّةٌ أو نُقودٌ مِن دَينٍ، فتَصرفها مِنه بنَقدٍ آخَرَ ناجِزٍ؟ فإن كان الدَّينُ الذي في الذِّمَّةِ حالًّا فقيلَ بالجَوازِ؛ لبَراءةِ الذِّمَّةِ وحُلولِ ما فيها مِنَ الدَّينِ، وكَأنَّه مَوجودٌ على الحَقيقةِ، فقد حَصَلَ التَّناجُزُ صورةً ومَعنًى. وقيلَ: لا يَجوزُ؛ لعَدَمِ التَّقابُضِ الحِسِّيِّ. وإن كان ما في الذِّمَّةِ مِنَ الدَّينِ غَيرَ حالٍّ، فقيل: لا يَجوزُ صَرفُه؛ لأنَّ ذِمَّةَ المَدينِ تَبقى عامِرةً به إلى الأجَلِ، وبِصَرفِه إيَّاه قَبلَ الأجَلِ يَكونُ كالمُسلِفِ له نَظيرَ ما في ذِمَّتِه؛ لأنَّ مَن عَجَّلَ ما أُجِّلَ عُدَّ مُسلِفًا، فإذا حَلَّ الأجَلُ يُقدَّرُ كَأنَّه قَبَضَ مِن نَفسِه ما كان عَجَّله، فيَكونُ مِنَ الصَّرفِ المُؤَخَّرِ
[2171] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/872). .