موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الرَّابِعُ: المَجهولُ كالمَعدومِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المَجهولُ كالمَعدومِ" [2088] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/81)، ((زاد المعاد)) (5/181)، ((بدائع الفوائد)) (3/953) كلاهما لابن القيم، ((القواعد)) لابن رجب (3/179)، ((الفواكه العديدة)) للمنقور (1/328)، ((مطالب أولي النهي)) للرحيباني (4/67)، ((تيسير اللطيف المنان)) للسعدي ((ص: 166)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/801). . وصيغةِ: "يُنَزَّلُ المَجهولُ المَشكوكُ فيه كالمَعدومِ" [2089] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (1/501). . وصيغةِ: "ما لا يُعلَمُ بحالٍ أو لا يُقدَرُ عليه بحالٍ هو في حَقِّنا بمَنزِلةِ المَعدومِ" [2090] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/594). . وصيغةِ: "يُنَزَّلُ المَجهولُ مَنزِلةَ المَعدومِ، وإن كان الأصلُ بَقاءَه إذا يُئِسَ مِنَ الوُقوفِ عليه أو شَقَّ اعتِبارُه" [2091] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (2/315)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (2/643). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ ما يَكونُ مُتَرَدِّدًا بَينَ الوُجودِ والعَدَمِ، ويَجهَلُ المُكَلَّفُ حالَه ويَعسُرُ أو يَستَحيلُ عليه العِلمُ به، ويَكونُ الحُكمُ الشَّرعيُّ فيه مَبنيًّا على وُجودِه أو عَدَمِه، فإنَّه يُنَزَّلُ في حَقِّ هذا المُكَلَّفِ مَنزِلةَ المَعدومِ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ تَطبيقُ المَجهولِ، وما لا يُعلَمُ بحالٍ أو لا يُقدَرُ عليه بحالٍ هو في حَقِّنا بمَنزِلةِ المَعدومِ، فلا نُكَلَّفُ إلَّا بما نَعلَمُه ونَقدِرُ عليه. فيَكونُ الحُكمُ الشَّرعيُّ في المَجهولِ كَما لو كان غَيرَ مَوجودٍ حَقيقةً، وإن كان الأصلُ بَقاءَه أو وُجودَه، وذلك إذا غَلَبَ على ظَنِّه بَعدَ البَحثِ والتَّحَرِّي عَدَمُ الوُجودِ.
ويَظهَرُ وَجهُ التَّيسيرِ في هذه القاعِدةِ في أنَّ الشَّارِعَ قد راعى حالَ المُكَلَّفِ مِن حَيثُ ضَعفُ قُدرَتِه وعِلمِه، فإذا كان الحُكمُ الشَّرعيُّ مُتَوقِّفًا على العِلمِ بوُجودِ شَيءٍ ما أو عَدَمِه ولَم يَتَمَكَّنِ المُكَلَّفُ مِنَ العِلمِ به والوُقوفِ عليه، فإنَّ جَهلَه بوُجودِ ذلك الشَّيءِ يَجعَلُه في حَقِّه كالمَعدومِ، فيَبني الحُكمَ على ذلك. ولَو لم يحكمْ بعَدَمِ المَجهولِ في مِثلِ هذه الحالِ لأدَّى ذلك إلى تَوقُّفِ كَثيرٍ مِنَ الأحكامِ وتَعَطُّلِ كَثيرٍ مِنَ المَصالِحِ، فإذا يئِسَ مِنَ الوُقوفِ على المَجهولِ أو شَقَّ اعتِبارُه نُزِّلَ مَنزِلةَ المَعدومِ، وإن كان الأصلُ بَقاءَه [2092] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/594)، ((القواعد)) لابن رجب (2/315)، ((شرح تحفة أهل الطلب)) لعبد الكريم اللاحم (ص: 345)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (2/644)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/803). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (المَعدومُ شَرعًا كالمَعدومِ حِسًّا)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ المَجهولَ لا يُمكِنُ تَطبيقُه في حَقِّ المُكَلَّفِ، فيُنَزَّلُ مَنزِلةَ المَعدومِ؛ إذِ المَعدومُ شَرعًا كالمَعدومِ حِسًّا.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن زَيدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَألَه عنِ اللُّقَطةِ، فقال: ((اعرِفْ عِفاصَها [2093] قال النَّوويُّ: (وأمَّا العِفاصُ، فبكَسرِ العَينِ وبِالفاءِ والصَّادِ المُهمَلةِ، وهو الوِعاءُ الذي تَكونُ فيه النَّفقةُ، جِلدًا كان أو غَيرَه، ويُطلَقُ العِفاصُ أيضًا على الجِلدِ الذي يَكونُ على رَأسِ القارورةِ؛ لأنَّه كالوِعاءِ لهـ). ((شرح مسلم)) (12/ 21). ووِكاءَها [2094] قال النَّوويُّ: (أمَّا الوِكاءُ فهو الخَيطُ الذي يُشَدُّ به الوِعاءُ). ((شرح مسلم)) (12/ 21). ، ثُمَّ عَرِّفْها سَنةً، فإن جاءَ صاحِبُها وإلَّا فشَأنُك بها )) [2095] أخرجه البخاري (2372) واللَّفظُ له، ومسلم (1722). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ في إباحةِ الانتِفاعِ باللُّقَطةِ لمُلتَقِطِها بَعدَ تَعريفِها وعَدَمِ مَعرِفةِ صاحِبِها دَليلًا على تَنزيلِ عَدَمِ العِلمِ بالشَّيءِ -بَعدَ بَذلِ الجُهدِ في مَعرِفتِه- مَنزِلةَ المَعدومِ؛ فقد نَزَّلَ اللُّقَطةَ التي يُجهَلُ صاحِبُها مَنزِلةَ المالِ الذي لا مالِكَ له في إباحةِ الانتِفاعِ، وذلك بَعدَ أن يَغلِبَ على ظَنِّه عَدَمُ مَعرِفةِ صاحِبِها [2096] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (2/644). ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/594). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (المَجهولُ كالمَعدومِ في الأُصولِ، بدَليلِ المُلتَقِطِ، لمَّا جَهِلَ حالَ المالِكِ كان المَجهولُ كالمَعدومِ، فصارَ مالِكًا لِما التَقَطَه؛ لعَدَمِ العِلمِ بالمالِكِ) [2097] ((جامع المسائل)) (2/349). .
2- مِنَ الإجماعِ:
حَيثُ حُكيَ الإجماعُ على بَعضِ صُوَرِ القاعِدةِ، مِنها:
1- مَن ماتَ ولا وارِثَ له مَعلومٌ فمالُه يُصرَفُ في مَصالِحِ المُسلِمينَ، ومِمَّن حَكى الاتِّفاقَ على ذلك ابنُ تَيميَّةَ [2098] قال: (اتَّفقَ المُسلِمونَ على أنَّه مَن ماتَ ولا وارِثَ له مَعلومٌ فمالُه يُصرَفُ في مَصالِحِ المُسلِمينَ، مَعَ أنَّه لا بُدَّ في غالِبِ الخَلقِ أن يَكونَ له عَصَبةٌ بَعيدٌ؛ لكِن جُهِلَت عَينُه ولَم تُرجَ مَعرِفتُه. فجُعِلَ كالمَعدومِ، وهذا ظاهِرٌ... فإنَّ ما لا يُعلَمُ بحالٍ أو لا يُقدَرُ عليه بحالٍ هو في حَقِّنا بمَنزِلةِ المَعدِوم، فلا نُكَلَّفُ إلَّا بما نَعلَمُه ونَقدِرُ عليهـ). ((مجموع الفتاوى)) (28/594). .
2- ما يَتَعَلَّقُ بضَربِ الأجَلِ للمَفقودِ، ومِمَّن حَكاه القاضي عَبدُ الوهَّابِ [2099] قال: (يُضرَبُ له الأجَلُ؛ لإجماعِ الصَّحابةِ على ذلك). ((المعونة)) (2/821). ، وابنُ قُدامةَ [2100] قال: (عن عليٍّ في امرَأةِ المَفقودِ: تَعتَدُّ أربَعَ سِنينَ، ثُمَّ يُطَلِّقُها وَليُّ زَوجِها، وتَعتَدُّ بَعدَ ذلك أربَعةَ أشهُرٍ وعَشرًا، فإن جاءَ زَوجُها المَفقودُ بَعدَ ذلك خَيِّرَ بَينَ الصَّداقِ وبَينَ امرَأتِه. وقَضى به عُثمانُ أيضًا، وقَضى به ابنُ الزُّبَيرِ في مَولاةٍ لهم. وهذه قَضايا انتَشَرَت في الصَّحابةِ فلَم تُنكَرْ، فكانت إجماعًا). ((المُغَنِّي)) (11/251). ، والموَّاقُ [2101] قال: (الذي يَغيبُ في بلادِ المُسلِمينَ فيَنقَطِعُ أثَرُه، ولا يُعلَمُ خَبَرُه، فيُضرَبُ لامرَأتِه أجَلٌ أربَعُ سِنينَ، بإجماعٍ مِنَ الصَّحابةِ). ((التاج والإكليل)) (5/496). .
3- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (المَعدومُ شَرعًا كالمَعدومِ حِسًّا).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- الزَّائِدُ على ما تَجلِسُه المُستَحاضةُ مِن أقَلِّ الحَيضِ أو غالِبِه إلى مُنتَهى أكثَرِه حُكمُه حُكمُ المَعدومِ؛ حَيثُ يُحكَمُ فيها للمَرأةِ بأحكامِ الطَّاهراتِ كُلِّها، فإنَّ مُدَّةَ الاستِحاضةِ تَطولُ، ولا غايةَ لها تُنتَظَرُ [2102] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (2/315). .
2- اللُّقَطةُ بَعدَ التَّعريفِ المُعتَبَرِ في الحَولِ تُتَمَلَّكُ؛ لجَهالةِ رَبِّها، وتَنزيلًا لرَبِّها مَنزِلةَ المَعدومِ، وما لا يُتَمَلَّكُ مِنها يُتَصَدَّقُ به عنه على الصَّحيحِ [2103] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (2/315)، ((شرح تحفة أهل الطلب)) لعبد الكريم اللاحم (ص: 345). .
3- مَن غابَ غَيبةً طَويلةً انقَطَعَ فيها خَبَرُه فإنَّه يُجعَلُ كالمَعدومِ، فيَجوزُ للحاكِمِ أن يُفرِّقَ بَينَه وبَينَ زَوجَتِه، وأن تَتَزَوَّجَ، ويُعَدُّ هذا تَصَرُّفًا نافِذًا؛ لأنَّ المَجهولَ كالمَعدومِ، وهذا مَجهولٌ لا يُعلَمُ وُجودُه، فيَصيرُ في حُكمِ المَعدومِ [2104] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/804). .
4- مالُ مَن لا يُعلَمُ له وارِثٌ يوضَعُ في بَيتِ المالِ كالضَّائِعِ، مَعَ أنَّه لا يَخلو مِن بَني عَمٍّ أعلى؛ إذِ النَّاسُ كُلُّهم بَنو آدَمَ، فمَن كان أسبَقَ إلى الاجتِماعِ مَعَ المَيِّتِ في أبٍ مِن آبائِه فهو عَصَبَتُه، ولَكِنَّه مَجهولٌ، فلَم يَثبُتْ له حُكمٌ، وجازَ صَرفُ مالِه في المَصالِحِ [2105] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (2/316). .

انظر أيضا: