موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّالِثُ: الغائِبُ بمَنزِلةِ المَعدومِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الغائِبُ بمَنزِلةِ المَعدومِ" [2076] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (11/287)، ((خزانة المفتين)) للسمناقي (ص: 820). . وصيغةِ: "الغائِبُ كالمَعدومِ" [2077] يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (1/303)، ((التوقيف)) للمناوي (ص: 97). . وصيغةِ: "الغَيبةُ بمَنزِلةِ الهَلاكِ" [2078] يُنظر: ((شرح مشكلات القدوري)) للكردري (2/427). . وصيغةِ: "ذِكرُ الغائِبِ لا يُفيدُ" [2079] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (8/382). . وصيغةِ: "خِطابُ الغائِبِ لا يَصِحُّ" [2080] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (1/647). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الغائِبَ بمَنزِلةِ المَعدومِ مِنَ الجِهةِ التي لم يَكُنْ مَشهودًا فيها، والمُرادُ بالغائِبِ هنا الذي طالَت غَيبَتُه وبَعُدَت، وانقَطَعَت أخبارُه، وانعَدَمَ التَّواصُلُ مَعَه؛ لأنَّ القَريبَ الغَيبةِ بمَنزِلةِ الحاضِرِ، فإن حَضَر الغائِبُ فلَه مِثلُ ما للحاضِرِ، ولَم يَسقُطْ حَقُّه بسَبَبِ الغَيبةِ السَّابِقةِ [2081] يُنظر: ((البيان والتحصيل)) لابن رشد الجد (11/209)، ((البيان)) للعمراني (11/287)، ((خزانة المفتين)) للسمناقي (ص: 820)، ((كشاف اصطلاحات الفنون)) للتهانوي (2/1746). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (المَعدومُ شَرعًا كالمَعدومِ حِسًّا)؛ لأنَّ الغائِبَ مَعدومٌ في حُكمِ الشَّرعِ، فلا تَتَعَلَّقُ به الأحكامُ، فهو كالمَعدومِ حِسًّا.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والقَواعِدُ:
1- القُرآنُ:
قال اللهُ تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [التوبة: 60] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ ابنَ السَّبيلِ هو المُسافِرُ المُنقَطِعُ المُحتاجُ إلى ما يوصِلُه إلى بَلَدِه، فيَأخُذُ مِنَ الصَّدَقةِ وإن كان له مالٌ كَثيرٌ في بَلَدِه، إذا لم يَقدِرْ على بُلوغِ مالِه، فهو بمَنزِلةِ الفقيرِ الذي لا مالَ له؛ لأنَّ المَعنى في وُجوبِ إعطائِه حاجَتَه إليه، فلا فرقَ بَينَ مَن له مالٌ لا يَصِلُ إليه وبَينَ مَن لا مالَ له أصلًا، فجَعَلَ اللهُ تعالى مالَ ابنِ السَّبيلِ الغائِبَ بمَنزِلةِ المَعدومِ؛ حَيثُ أوجَبَ له الزَّكاةَ [2082] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/85)، ((البيان)) للعمراني (3/429)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (2/282). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (المَعدومُ شَرعًا كالمَعدومِ حِسًّا).
رابِعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- تُعطى الزَّكاةُ لابنِ السَّبيلِ وإن كان له مالٌ كَثيرٌ في بَلَدِه؛ لأنَّه لا يَقدِرُ على مالِه، فكان مالُه الغائِبُ بمَنزِلةِ المَعدومِ، فهو مُحتاجٌ بمَنزِلةِ الفقيرِ الذي لا مالَ له؛ إذ لا فرقَ بَينَ مَن له مالٌ لا يَصِلُ إليه وبَينَ مَن لا مالَ له [2083] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/85)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (2/282). .
2- إذا ثَبَتَتِ الحَضانةُ لشَخصٍ وكان غائِبًا كانتِ الحَضانةُ لمَن بَعدَه في الدَّرَجةِ؛ لأنَّ الغائِبَ بمَنزِلةِ المَعدومِ، فالغائِبُ لا يُمكِنُه الحَضانةُ، فإذا حَضَرَ الغائِبُ نُقِلَ الصَّغيرُ إليه؛ لأنَّ الحَضانةَ له، ولَم يَسقُطْ حَقُّه بغَيبَتِه [2084] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (6/394)، ((البيان)) للعمراني (11/287). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ، مِنها:
1- غَيبةُ الغائِبِ لا يُعتَدُّ بها في الشُّفعةِ [2085] هيَ: انتِزاعُ الإنسانِ حِصَّةَ شَريكِه مِن مُشتَريها بمِثلِ ثَمَنِها. يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (2/232). ، فلا تَنقَطِعُ شُفعَتُه لغَيبَتِه، ولَه بَعدَ قُدومِه مِثلُ ما للحاضِرِ مِن سَعةِ ذلك، وسَواءٌ كان عالِمًا في غَيبَتِه بالشُّفعةِ أو جاهلًا؛ لأنَّه مَعذورٌ، ولأنَّ تَركَه المُطالَبةَ لغَيبَتِه، ولا يُمكِنُه غالِبًا المُطالَبةُ مَعَ الغَيبةِ [2086] يُنظر: ((المدونة)) لسحنون (4/261)، ((الأحكام)) لابن حبيب (ص: 127)، ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (2/1275). .
2- مَن شَرَطَ الواقِفُ قَطعَه عن وظيفتِه إن غابَ -أي: لم يُباشِرْ وظيفتَه- فغابَ لعُذرٍ، كَخَوفِ طَريقٍ، فلا يَسقُطُ حَقُّه بغَيبَتِه وإن طالَت ما دامَ العُذرُ قائِمًا، ومَحَلُّ ذلك حَيثُ استَنابَ أو عَجَزَ عنِ الاستِنابةِ [2087] يُنظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/480)، ((حاشية البجيرمي على الخطيب)) (3/226). .

انظر أيضا: