موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الأوَّلُ: نَسخُ الخَبَرِ الذي بمَعنى الأمرِ والنَّهيِ


تَعريفُ الخَبَرِ:
الخَبَرُ لُغةً: النَّبَأُ، والجَمعُ أخبارٌ .
والخَبَرُ اصطِلاحًا: هو قَولٌ يَحتَمِلُ الصِّدقَ والكَذِبَ لذاتِه.
وقَولُ: "لذاتِه": قَيدٌ في التَّعريفِ قُصِدَ به إدخالُ الخَبَرِ الذي لا يَحتَمِلُ إلَّا الصِّدقَ، كَخَبَرِ اللَّهِ تعالى، والذي لا يَحتَمِلُ إلَّا الكَذِبَ، كخَبَرِ مُسَيلِمةَ الكَذَّابِ؛ فإنَّ عَدَمَ احتِمالِ الأوَّلِ للكَذِبِ، والثَّاني للصِّدقِ، ليس لذاتِ الخَبَرِ مِن حَيثُ إنَّه نِسبةُ شَيءٍ إلى شَيءٍ آخَرَ، بَل مَنشَأُ ذلك النَّظَرُ إلى المُتَكَلِّمِ بالخَبَرِ، واحتِمالُ القَرائِنِ المُعَيِّنةِ لأحَدِ الِاحتِمالَينِ لا يُخرِجُ الخَبَرَ عن كَونِه مُحتَمِلًا للصِّدقِ والكَذِبِ باعتِبارِ ذاتِه .
والنَّسخُ في الأخبارِ يَأتي على صورَتَينِ:
الأولى: نَسخُ لَفظِ الخَبَرِ.
والثَّانيةُ: نَسخُ مَدلولِ الخَبَرِ، والخَبَرُ: إمَّا أن يَكونَ بمَعنى الأمرِ والنَّهيِ، وإمَّا أن يَكونَ خَبَرًا عَمَّا لا يَجوزُ تَغييرُه، وإمَّا أن يَكونَ خَبَرًا عَمَّا يَجوزُ تَغييرُه.
أوَّلًا: نَسخُ لَفظِ الخَبَرِ بالنَّهيِ عن إيقاعِ لَفظِه بَعدَ الأمرِ بإيقاعِه، أو بَعدَ إباحةِ إيقاعِه، أوِ العَكسُ -وهو الأمرُ بإيقاعِه أو إباحَتِه بَعدَ النَّهيِ عن ذلك- جائِزٌ مُطلَقًا، أي: سَواءٌ أكان مَدلولُه مِمَّا يَتَغَيَّرُ أو لا؛ فإنَّه يَجوزُ تَغَيُّرُ حُكمِ النُّطقِ باللَّفظِ، وإن كان المَدلولُ لا يَتَغَيَّرُ؛ فقد يَكونُ إطلاقُ اللَّفظِ مَفسَدةً، وإن كان صِدقًا، وقد يَكونُ مَصلَحةً، فيَجوزُ النَّهيُ عنه بَعدَ الأمرِ به، والأمرُ به بَعدَ النَّهيِ عنه بحَسَبِ المَصلَحةِ، وهذا لا إشكالَ فيه.
ثانيًا: نَسخُ مَدلولِ الخَبَرِ: فإذا كان الخَبَرُ بمَعنى الأمرِ والنَّهيِ، كقَولِ اللهِ تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة: 233] ، وكقَولِ اللهِ تعالى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79] ؛ فإنَّه يَجوزُ نَسخُه بلا خِلافٍ، إلَّا ما حُكيَ عن أبي بَكرٍ الدَّقَّاقِ أنَّه مَنَعَ نَسخَ الأمرِ بلَفظِ الخَبَرِ؛ اعتِبارًا بلَفظِه.
وإذا كان خَبَرًا عَمَّا لا يَجوزُ تَغييرُه، كالإخبارِ عن كَونِ اللهِ تعالى قادِرًا، وكالإخبارِ بهَلاكِ (عادٍ)؛ فإنَّه لا يَجوزُ نَسخُه.
أمَّا إذا كان خَبَرًا عَمَّا يَجوزُ تَغييرُه:
فإمَّا أن يَكونَ ماضيًا، كالإخبارِ عن عُمرِ شَخصٍ بأنَّ اللَّهَ عَمَّرَه ألفَ سَنةٍ، ثُمَّ يَدُلُّنا في المُستَقبَلِ أنَّه عَمَّرَه ألفًا إلَّا خَمسينَ.
أو يَكونَ مُستَقبَلًا، وهو إمَّا أن يَكونَ وَعدًا، أو وعيدًا، أو خَبَرًا عن حُكمٍ شَرعيٍّ، نَحوُ أن يَقولَ: الحَجُّ واجِبٌ عليكُم في كُلِّ سَنةٍ. فهَل يَجوزُ نَسخُه أم لا؟ اختَلَف فيه الأصوليُّونَ .
والرَّاجِحُ: أنَّ مَدلولَ الخَبَرِ لا يُنسَخُ مُطلَقًا، سَواءٌ كان في الماضي أوِ الحالِ أوِ الِاستِقبالِ.
وهو قَولُ عامَّةِ الحَنَفيَّةِ ، وبَعضِ المالِكيَّةِ، كالباقِلَّانيِّ، وابنِ الحاجِبِ ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ، كالقَفَّالِ الشَّاشيِّ، والسَّمعانيِّ ، وبَعضِ الحَنابِلةِ، كابنِ الأنباريِّ، وابنِ الجَوزيِّ ، وابنِ حَزمٍ ، وحَكاه ابنُ مُفلِحٍ عن جُمهورِ الفُقَهاءِ والأصوليِّينَ ، وصَحَّحه السَّمعانيُّ .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ النَّسخَ تَوقيتٌ، ولا يَستَقيمُ ذلك في الخَبَرِ بحالٍ؛ فإنَّه لا يُقالُ: اعتَقِدوا الصِّدقَ في هذا الخَبَرِ إلى وقتِ كَذا، ثُمَّ اعتَقِدوا خِلافَه بَعدَ ذلك؛ لأنَّ هذا هو البَداءُ الذي يَدَّعيه اليَهودُ في أصلِ النَّسخِ .
2- أنَّ تَجويزَ النَّسخِ في الأخبارِ يُؤَدِّي إلى كَونِ أحَدِ الخَبرَينِ كَذِبًا؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى إذا أخبَرَ عن فِعلٍ ماضٍ قد وقَعَ، ثُمَّ نُسِخَ هذا الخَبَرُ بخِلافِه، مِثلُ أن يَقولَ: (أهلَكتُ عادًا)، ثُمَّ يَنسَخَه بأن يَقولَ: (لم أهلِكْهم) لَكان أحَدُهما كَذِبًا لاستِحالةِ اجتِماعِ النَّفيِ والإثباتِ في الشَّيءِ الواحِدِ، في الحالةِ الواحِدةِ .
قال ابنُ عَقيلٍ: (نَسخُ الخَبَرِ عَمَّا كان هو مَحضُ الكَذِبِ غَيرِ الجائِزِ على حَكيمٍ فَضلًا عنِ الخالِقِ سُبحانَه. ونَسخُ الخَبَرِ عَمَّا يَكونُ في المُستَقبَلِ أيضًا كَذِبٌ؛ فإنَّ حَقيقةَ نَسخِ الخَبَرِ أنَّه إذا قال: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] أن يَقولَ: لم يَكُ لي نَبيٌّ يُعرَفُ بنوحٍ، أو كان نوحٌ، لَكِن لم يُكَذِّبْه قَومُه.
والمُستَقبَلُ، مِثلُ قَولِه: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم: 3] ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] ، فنَسخُ ذلك أن يَقولَ: لَن يَغلِبوا، ولَن تَدخُلوا. وهذا عَينُ الكَذِبِ الذي لا يَجوزُ على اللهِ سُبحانَه، ولا على رُسُلِه، ولا يَحسُنُ بعُقَلاءِ خَلقِهـ) .
وقيلَ: يَجوزُ النَّسخُ في الأخبارِ مُطلَقًا، وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ، كابنِ بَرهانَ ، والرَّازيِّ ، وابنِ التِّلِمسانيِّ ، وبَعضِ الحَنابِلةِ، كأبي يَعلى .
وقيلَ: بالتَّفريقِ بَينَ الماضي والمُستَقبَلِ؛ فيَجوزُ إن كان مَدلولُه مُستَقبَلًا وإلَّا فلا. وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ، كَأبي الحُسَينِ بنِ القَطَّانِ ، والبَيضاويِّ ، ونَسَبَه السَّمعانيُّ لبَعضِ الأشعَريَّةِ ، وصَحَّحه الخَطَّابيُّ .
ومِن أمثِلةِ ذلك:
نَسخُ المُحاسَبةِ بما في النُّفوسِ في قَولِ اللهِ تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] ، وبه قال جَماعةٌ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ.
قال الخَطَّابيُّ: (النَّسخُ يَجري فيما أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه يَفعَلُه؛ لأنَّه يَجوزُ تَعليقُه على شَرطٍ، بخِلافِ إخبارِه عَمَّا لا يَفعَلُه؛ إذ لا يَجوزُ دُخولُ الشَّرطِ فيه. قال: وعلى هذا تَأوَّلَ ابنُ عُمَرَ النَّسخَ في قَولِه تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فإنَّه نَسَخَها بَعدَ ذلك برَفعِ المُؤاخَذةِ على حَديثِ النَّفسِ، وجَرى ذلك مَجرى العَفوِ والتَّخفيفِ عن عِبادِه، وهو كَرَمٌ وفَضلٌ، وليس بخُلفٍ) .
وذَهَبَ بَعضُ الأصوليِّينَ إلى أنَّ النَّسخَ هنا بَعيدٌ؛ لأنَّه خَبَرٌ، والنَّسخُ لا يَدخُلُ الأخبارَ.
ورَدَّه القاضيَ عياضٌ بأنَّه وإن كان خَبَرًا فهو خَبَرٌ عن تَكليفٍ ومُؤاخَذةٍ بما تُكِنُّه النَّفسُ، والتَّعَبُّد بما أمَرَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحَديثِ بذلك، وأن يَقولوا: سَمِعنا وأطَعنا. وهذه أقوالٌ وأعمالٌ للِّسانِ والقَلبِ، ثُمَّ نَسَخَ ذلك عنهم برَفعِ الحَرَجِ والمُؤاخَذةِ .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (4/227)، ((تاج العروس)) للزبيدي (11/125).
  2. (2) يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/323)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 420)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/360)، ((أصول الفقهـ)) لأبي النور زهير (3/101).
  3. (3) يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/825)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/2317)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/1690)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/247). قال المُطيعي: (الحاصِلُ أنَّ مَعنا لَفظَ الخَبَرِ، فهذا يَجوزُ نَسخُه بنَسخِ تِلاوتِه. ومَعنا إيجابُ الإخبارِ بشَيءٍ، وهذا يَجوزُ نَسخُه بإيجابِ الإخبارِ بشَيءٍ آخَرَ ولَو بنَقيضِه، بأن يوجِبَ الإخبارَ بقيامِ زيدٍ، ثُمَّ يوجِبَ الإخبارَ بعَدَمِ قيامِه قَبلَ الإخبارِ بقيامِه؛ لجَوازِ أن يَتَغَيَّرَ حالُه مِنَ القيامِ إلى عَدَمِه باتِّفاقِ الحَنَفيَّةِ والشَّافِعيَّةِ، خِلافًا للمُعتَزِلةِ فيما لا يَتَغَيَّرُ، كحُدوثِ العالَمِ، فمَنَعَتِ المُعتَزِلةُ فيه ما ذُكِرَ؛ لأنَّه تَكليفٌ بالكَذِبِ، فيُنَزَّهُ الباري عنه. قُلنا: قد يَدعو إلى الكَذِبِ غَرَضٌ صحيحٌ، فلا يَكونُ التَّكليفُ فيه نَقصًا، وقد ذَكَرَ الفُقَهاءُ أماكِنَ يَجِبُ فيها الكَذِبُ، مِنها إذا طالَبَه ظالِمٌ بالوديعةِ، وبِمَظلومٍ خَبَّأه، وجَبَ عليه إنكارُه ذلك، وجازَ له الحَلِفُ عليه، وإذا أُكرِهَ على الكَذِبِ وجَبَ. ومَعنا مَدلولُ الخَبَرِ، وهو ما وقَعَ الخَبَرُ حِكايةً عنه، والحَقُّ أنَّه لا يَجوزُ نَسخُه مُطلَقًا). ((سلم الوصول)) (2/577).
  4. (4) يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/59)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 710)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/196).
  5. (5) يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) لابن الحاجب (2/995)، ((السراج الوهاج)) للجاربردي (2/662).
  6. (6) يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/424)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/247).
  7. (7) يُنظر: ((أصول الفقهـ)) لابن مفلح (3/1131)، ((التذكرة)) للمقدسي (ص: 511). ويُنظر أيضًا: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/206) و(4/63).
  8. (8) يُنظر: ((الإحكام)) (4/71).
  9. (9) يُنظر: ((أصول الفقهـ)) (3/1131).
  10. (10) يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/424).
  11. (11) يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/164).
  12. (12) يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/490)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/424)، ((الوصول إلى الأصول)) لابن برهان (2/63).
  13. (13) ((الواضح)) (3/347).
  14. (14) يُنظر: ((الوصول إلى الأصول)) (2/63).
  15. (15) يُنظر: ((المحصول)) (3/325).
  16. (16) يُنظر: ((شرح المعالم)) (2/52).
  17. (17) يُنظر: ((العدة)) (3/825).
  18. (18) يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/245).
  19. (19) يُنظر: ((منهاج الوصول)) (ص: 148).
  20. (20) يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/423).
  21. (21) يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/882)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 375).
  22. (22) يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/882)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/544).
  23. (23) يُنظر: ((إكمال المعلم)) (1/421). ويُنظر أيضًا: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (2/457).