مِنَ الفِرَقِ الضَّالَّةِ التي أخبَرَ عَنها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذَكَرَ بَعضَ صِفاتِهم، وحَذَّرَ مِنهم: فِرقةُ الخَوارِجِ، الذينَ يُكَفِّرونَ أهلَ الإسلامِ بالمَعاصي ويَستَحِلُّونَ دِماءَهم، ويَخرُجونَ على أئِمَّةِ المُسلِمينَ ويُقاتِلونَهم، وقد خَرَجوا في عَهدِ الخَليفةِ الرَّاشِدِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه، وقاتَلَهم عليٌّ رَضيَ اللهُ عنه. وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، فيَقولُ: لمَّا اعتَزَلتِ الخَوارِجُ، أي: اعتَزَلوا عن جَماعةِ المُسلمينَ الذينَ كانوا مَعَ عليٍّ، وكانوا أوَّلًا مَعَهم، وفارَقوه، دَخَلوا رَأيًا، أي: تَجمَّعوا في هذا المَكانِ، وفي رِوايةٍ: اجتَمَعوا في دارٍ، وكان عَدَدُهم سِتَّةَ آلافِ شَخصٍ، وأجمَعوا على أن يَخرُجوا على عليِّ بنِ أبي طالِبٍ، وأصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعَه، أي: أرادوا قِتالَ عليٍّ والصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم. يَقولُ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: وكان لا يَزالُ يَجيءُ إنسانٌ فيَقولُ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، إنَّ القَومَ خارِجونَ عليك، أي: كان النَّاسُ يَأتونَ إلى عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وكان هو الأميرَ، فيَقولونَ له: إنَّ هؤلاء القَومَ سَوف يَأتونَ ويُقاتِلونَك، فيَقولُ عليٌّ: دَعُوهم؛ فإنِّي لا أُقاتِلُهم حتَّى يُقاتِلوني، أي: إنِّي لن أبدَأَهم بالقِتالِ حتَّى يَكونوا همُ الذينَ يبدؤون. وسَوف يَفعَلونَ، أي: سَوف يبدؤون هم بالقِتالِ. يَقولُ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: فلمَّا كان ذاتَ يَومٍ، أي: في أحَدِ الأيَّامِ ذَهَبتُ إلى عليٍّ قَبلَ صَلاةِ الظُّهرِ، فقُلتُ له: يا أميرَ المُؤمِنينَ، أبرِدْنا بصَلاةٍ، أي: أخِّرِ الصَّلاةَ قَليلًا حتَّى يَبرُدَ حَرُّ الشَّمسِ، وصَلاةُ الظُّهرِ يُشرَعُ فيها الإبرادُ؛ لعَلِّي أدخُلُ على هؤلاء القَومِ فأُكَلِّمُهم، أي: لو أخَّرتَ الصَّلاةَ قَليلًا حتَّى لا تَفوتَني إذا ذَهَبتُ إلى هؤلاء القَومِ، يَعني الخَوارِجَ، وتَحَدَّثتُ مَعَهم وحاوَرتُهم ونَظَرتُ ماذا عِندَهم؛ لعَلَّهم يَرجِعونَ عَمَّا هم فيه. فقال عليٌّ: إنِّي أخافُهم عليك، أي: أخافُ عليك يا بنَ عبَّاسٍ مِنَ الخَوارِجِ أن يُؤذوك أو يَقتُلوك. فقال ابنُ عبَّاسٍ: كَلَّا، أي: لا تَخَفْ مِن ذلك. يَقولُ ابنُ عبَّاسٍ: وكُنتُ رَجُلًا حَسَنَ الخُلُقِ لا أوذي أحَدًا، أي: بَيَّن بهذا الكَلامِ أنَّ الخَوارِجَ لن يُؤذوه؛ لأنَّه رَضِيَ اللهُ عنه كان مِن أحسَنِ النَّاسِ خُلُقًا مَعَ النَّاسِ ولا يُؤذي أحَدًا. فأذِنَ لي، أي: أذِنَ عليٌّ لابنِ عبَّاسٍ أن يَذهَبَ إلى الخَوارِجِ ويَتَحَدَّثَ مَعَهم. يَقولُ ابنُ عبَّاسٍ: فلَبِستُ حُلَّةً، وهو الثَّوبُ الذي يَشتَمِلُ على رِداءٍ وإزارٍ. مِن أحسَنِ ما يَكونُ مِنَ اليَمَنِ، أي: حُلَّةٌ جَميلةٌ مِن أحسَنِ الحُلَلِ التي تَأتي مِن بلادِ اليَمَنِ، وتَرَجَّلتُ، أي: مَشَّطتُ شَعري، ودَخَلتُ عليهم، أي: الخَوارِجِ، نِصفَ النَّهارِ، أي: في وقتِ نِصفِ النَّهارِ وقتَ الظُّهرِ، فدَخَلتُ على قَومٍ لم أرَ قَومًا قَطُّ أشَدَّ مِنهمُ اجتِهادًا، أي: أنَّهم كانوا مِن أشَدِّ النَّاسِ اجتِهادًا في العِبادةِ، كَما جاءَ في الحَديثِ: تَحقِرونَ صَلاتَكُم إلى صَلاتِهم، وصيامَكُم إلى صيامِهم، جِباهُهم قرِحَت مِنَ السُّجودِ، أي: تَشَقَّقَت وطَلعَ بها الجُروحُ مِن كَثرةِ السُّجودِ، وأيديهم كَأنَّها بقرُ الإبِلِ. وفي رِوايةٍ: ثَفِنُ الإبِلِ، أي: أصبَحَت أيديهم مِثلَ رُكَبِ الإبِلِ غَليظةً، وعليهم قُمُصٌ مُرحَّضةٌ، أي: لابسينَ ثيابًا مَغسولةً، مُشَمِّرينَ، أي: رافِعينَ ثيابَهم، مُسَهَّمةٌ وُجوهُهم، أي: مُتَغَيِّرةٌ ألوانُها مِنَ السَّهَرِ، أي: مِن شِدَّةِ قيامِهمُ اللَّيلَ وسَهَرِهم. يَقولُ ابنُ عبَّاسٍ: فسَلَّمتُ عليهم، أي: قال لهمُ: السَّلامُ عليكُم. فقالوا له: مَرحَبًا يا ابنَ عبَّاسٍ، أي: حَلَلتَ على الرُّحبِ والسَّعةِ يا بنَ عبَّاسٍ، ما جاءَ بك؟ أي: فماذا تُريدُ مِنَّا؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ: أتَيتُكُم مِن عِندِ المُهاجِرينَ والأنصارِ ومِن عِندِ صِهرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليٍّ، أي: زَوجِ ابنَتِه، وعليهم نَزَل القُرآنُ، وهم أعلمُ بتَأويلِه، أي: أخبَرَهم أنَّه جاءَ مِن عِندِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم ومِن عِندِ عَليٍّ، ومُرادُه بذلك أن يُبَيِّنَ لهم أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم هم أدرى النَّاسِ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبما نَزَل مِنَ القُرآنِ، ومِن أعلمِ النَّاسِ بتَفسيرِ كِتابِ اللهِ، وبَيان أنَّ ما عليه الصَّحابةُ هو الحَقُّ. فقالت طائِفةٌ مِنَ الخَوارِجِ عِندَما سَمِعوا كَلامَ ابنِ عبَّاسٍ: لا تُخاصِموا قُرَيشًا، أي: لا تُجادِلوا أحَدًا مِن قُرَيشٍ، ومِنهمُ ابنُ عبَّاسٍ؛ فهو مِن قُرَيش؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى قال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}
[الزخرف: 58] ، أي: كَثيرو الخُصومةِ، والمَعنى: أنَّ قُرَيشًا أصحابُ خُصومةٍ وجِدالٍ. فقال اثنانِ أو ثَلاثةٌ مِنَ الخَوارِجِ: لو كَلَّمتُهم، أي: قالوا لابنِ عبَّاسٍ: هَلَّا تَحَدَّثتَ مَعَهم، وفي رِوايةٍ أنَّهم قالوا: لنُكَلِّمَنَّه. فقال لهمُ ابنُ عبَّاسٍ: تَرى ما نَقَمتُم على صِهرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُهاجِرينَ والأنصارِ وعليهم نَزَل القُرآنُ، وليسَ فيكُم مِنهم أحَدٌ، وهم أعلمُ بتَأويلِه مِنكُم، أي: أخبِروني ماذا تَنقِمونَ على عليٍّ، وماذا أخَذتُم عليه مِنَ المَآخِذِ حتَّى فارَقتُموه واعتَزَلتُم، وأنتُم تَعلمونَ أنَّه صِهرُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والصَّحابةُ مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ مَعَه، وهم مِن أعلمِ النَّاسِ بكِتابِ اللهِ وبتَفسيرِه، ولا يوجَدُ بَينَكُم أحَدٌ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى يَكونَ لكُم حُجَّةٌ ومُستَنَدٌ تَستَنِدونَ عليه، ومُرادُه أن يُبَيِّنَ لهم أنَّهم فارَقوا جَماعةَ المُسلمينَ عن غَيرِ عِلمٍ ومَعرِفةٍ بكِتابِ اللهِ، وغَيرِ هُدًى. فقال الخَوارِجُ لابنِ عبَّاسٍ: ثَلاثًا، أي: نَنقِمُ ونَأخُذُ عليه ثَلاثَ مَآخِذَ فَعَلها، وبذلك لم يُصبِحْ أميرًا لنا، وخَرَجنا بذلك عليه. فقال لهمُ ابنُ عبَّاسٍ: ماذا؟ أي: فأخبِروني ما هذه الثَّلاثُ. فقالوا: أمَّا إحداهنَّ فإنَّه حَكَّمَ الرِّجالَ في أمرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. ومَقصودُهم بذلك أنَّ عليًّا رَضِيَ اللهُ عنه قَبِلَ التَّحكيمَ بَينَه وبَينَ مُعاويةَ، وذلك بأن بَعَثَ عليٌّ رَجُلًا مِن عِندِه وبَعَثَ مُعاويةُ رَجُلًا مِن عِندِه حتَّى يَتَّفِقا ويُبرِما أمرَ الصُّلحِ بَينَ جَيشِ عليٍّ وجَيشِ مُعاويةَ. فلمَّا رَأى الخَوارِجُ هذا الأمرَ مِن عليٍّ قالوا: إنَّه حَكَّم الرِّجالَ، والأصلُ أن يَكونَ الحُكمُ للَّهِ، فقد قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}
[الأنعام: 57] فما شَأنُ الرِّجالِ والحُكمِ بَعدَ قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ؟ أي: كَيف يَكونُ للرِّجالِ حُكمٌ بَعدَ حُكمِ اللهِ؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ: هذه واحِدةٌ، أي: هذا الأمرُ الأوَّلُ مِمَّا نَقَمتُموه على عليٍّ. وماذا؟ أي: ما الأمرُ الثَّاني. فقالوا: وأمَّا الثَّانيةُ، أي: الأمرُ الثَّاني الذي أخَذناه على عليٍّ، فإنَّه قاتَلَ -أي: قاتَلَ مُعاويةَ وأصحابَه- فلم يَسْبِ، أي: لم يَأسِرِ النِّساءَ ويَجعَلْهنَّ إماءً وجِواريَ، ولم يَغنَمْ، أي: لم يَأخُذْ أموالَ مَن قاتَلهم، فلئِن كانوا مُؤمِنينَ ما حَلَّ لنا قِتالُهم وسَبيُهم، أي: فإذا كان مَن قاتَلَهم عليٌّ مِنَ المُؤمِنينَ فلا يَجوزُ لنا قِتالُهم أصلًا ولا سَبيُ نِسائِهم، فلماذا قاتَلَهم. ومَقصودُهم بذلك أنَّ مَن قاتَلهم عليٌّ كانوا كُفَّارًا؛ فلذلك حَلَّ قِتالُهم وأخذُ أموالِهم وسَبيُ نِسائِهم، وعليٌّ لم يَفعَلْ شَيئًا مِن ذلك. فقال ابنُ عبَّاسٍ: وماذا الثَّالثةُ؟ أي: وما الأمرُ الثَّالثُ الذي أخَذتُموه على عليٍّ. فقالوا: إنَّه مَحا نَفسَه مِن أميرِ المُؤمِنينَ، أي: أزال اسمَه مِن أن يُقالَ له أميرُ المُؤمِنينَ، إن لم يَكُنْ أميرَ المُؤمِنينَ فإنَّه لأميرُ الكافِرينَ، أي: فإذا لم يَكُنْ هو أميرَ المُؤمِنينَ فلم يَبقَ إلَّا أن يَكونَ أميرَ الكافِرينَ، وليسَ هناكَ أمرٌ ثالثٌ. فقال ابنُ عبَّاسٍ للخَوارِجِ: هَل عِندَكُم غَيرُ هذا؟ أي: هَل يوجَدُ أمرٌ غَيرُ هذه الأُمورِ الثَّلاثةِ التي ذَكَرتُموها، ويُريدُ بذلك أن يَستَفرِغَ جَميعَ ما عِندَهم مِنَ الشُّبُهاتِ كامِلةً حتَّى يَرُدَّ عليها ولا يَبقى عِندَهم أيُّ شُبهةٍ أو عُذرٍ بَعدَ ذلك. فقالوا: كَفانا هذا، أي: نَكتَفي بهذه الأُمورِ؛ فهيَ كافيةٌ بالخُروجِ عليه وقِتالِه. ثُمَّ شَرَعَ ابنُ عبَّاسٍ بالإجابةِ على هذه الشُّبُهاتِ، فقال لهم: أمَّا قَولُكُم: حَكَّمَ الرِّجالَ في أمرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، أنا أقرَأُ عليكُم في كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ما يَنقُضُ قَولَكُم، أفترجِعونَ؟ أي: أرَأيتُم لو أتَيتُ لكُم مِن كِتابِ اللهِ ما يَرُدُّ قَولَكُم: إنَّه حَكَّم الرِّجالَ، فهَل تَرجِعونَ عن ذلك؟ فقالوا: نَعَم. فقال ابنُ عبَّاسٍ: فإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قد صَيَّرَ مَن حَكَّمَه إلى الرِّجالِ في رُبعِ دِرهَمٍ ثَمَنِ أرنَبٍ، أي: أنَّ اللَّهَ تعالى قد جَعَل الرِّجالَ يَحكُمونَ في رُبعِ الدِّرهَمِ، وهو قِيمةُ أرنَبٍ، وتَلا عليهمُ ابنُ عبَّاسٍ قَولَه تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}
[المائدة: 95] إلى آخِرِ الآيةِ، وهيَ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}
[المائدة: 95] ، فجَعَل سُبحانَه الحُكمَ فيمَن قَتَل صَيدَ الحَرَمِ إلى الرِّجالِ يَحكُمونَ في قيمَتِه. وفي المَرأةِ وزَوجِها، أي: حَكَّمَ سُبحانَه الرِّجالَ في شِقاقِ المَرأةِ مَعَ زَوجِها، فقال سُبحانَه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}
[النساء: 35] إلى آخِرِ الآيةِ. ثُمَّ قال لهمُ ابنُ عبَّاسٍ: فنَشَدتُكُم باللهِ، أي: أستَحلِفُكُم وأسألُكُم باللهِ هَل حُكمُ الرِّجالِ في إصلاحِ ذاتِ بَينِهم وحَقنِ دِمائِهم أفضَلُ أم حُكمُه في أرنَبٍ وبُضعِ امرَأةٍ؟ أي: أيُّهما أفضَلُ وخَيرٌ: تَحكيمُ الرِّجالِ في إصلاحِ ذاتِ بَينِهم وحَقنِ الدِّماءِ -ومُرادُه بذلك الإصلاحُ بَينَ عليٍّ وأصحابِه ومُعاويةَ وأصحابِه- أم تَحكيمُ الرِّجالِ في قيمةِ أرنَبٍ صادَه مُحرِمٌ، أو تَحكيمُ الرِّجالِ في بُضعِ امرَأةٍ، أي: فَرجِ امرَأةٍ عِندَ اختِلافِها مَعَ زَوجِها. فأيَّهما تَرَونَ أفضَلَ؟ فقالوا: بَل هذه، أي: تَحكيمُ الرِّجالِ في إصلاحِ ذاتِ بَينِهم وحَقنِ الدِّماءِ. فقال لهمُ ابنُ عبَّاسٍ: خَرَجتُ مِن هذه، أي: هَل أجَبتُكُم على أمرِكُمُ الأوَّلِ وانتَهَيتُ مِنه؟ فقالوا له: نَعَم. ثُمَّ قال لهمُ ابنُ عبَّاسٍ: وأمَّا قَولُكُم: قاتَلَ ولم يَسبِ ولم يَغنَمْ، فتَسْبُونَ أُمَّكُم عائِشةَ؟ وذلك أنَّ عائِشةَ كانت مَعَ أصحابِ مُعاويةَ، فهَل إذا قاتَلَهم هَل تَرَونَ أن يَسبيَ عائِشةَ وهيَ أُمُّ المُؤمِنينَ، واللَّهِ لئِن قُلتُم: ليسَت بأُمِّنا، لقد خَرَجتُم مِنَ الإسلامِ، أي: إذا زَعَمتُم أنَّ عائِشةَ ليسَت أمًّا للمُؤمِنينَ فأنتُم كُفَّارٌ؛ لأنَّ اللَّهَ نَصَّ على أنَّ أزواجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمَّهاتُ المُؤمِنينَ، فقال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}
[الأحزاب: 6] . وواللهِ لئِن قُلتُم: نَستَحِلُّ مِنها ما نَستَحِلُّ مِن غَيرِها، لقد خَرَجتُم مِنَ الإسلامِ، أي: إن قُلتُم: نَستَحِلُّ مِن عائِشةَ مِثلَ ما نَستَحِلُّ مِن سائِرِ النِّساءِ فنَسبيها وتَكونُ أمَةً عِندَ أحَدِنا، فأنتُم بذلك خارِجونَ عنِ الإسلامِ. فأنتُم بَينَ الضَّلالتينِ، إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}
[الأحزاب: 6] ، فإن قُلتُم: ليسَت بأُمِّنا، لقد خَرَجتُم مِنَ الإسلامِ. أخرَجتُ مِن هذه؟ أي: هَل أجَبتُكُم على أمرِكُمُ الثَّاني وانتَهَيتُ مِنه؟ قالوا: نَعَم. ثُمَّ قال لهمُ ابنُ عبَّاسٍ: وأمَّا قَولُكُم: محا نَفسَه مِن أميرِ المُؤمِنينَ، فأنا آتيكُم بمَن تَرضَونَ، أي: سَوف أُخبرُكُم بشَخصٍ تَرضَونَه، محا اسمَ نَفسِه وهو على الحَقِّ يَومَ الحُدَيبيَةِ، أي: في وقَعةِ صُلحِ الحُدَيبيَةِ الذي كان بَينَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَينَ مُشرِكي قُرَيشٍ، كاتَبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُشرِكينَ أبا سُفيانَ بنَ حَربٍ وسُهَيلَ بنَ عَمرٍو، أي: وقَعَ الصُّلحُ بَينَه وبَينَ قُرَيشٍ، وكان سُهَيلُ بنُ عَمرٍو وأبو سُفيانَ مِن جِهةِ قُرَيشٍ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا عليُّ، اكتُبْ: هذا ما اصطَلحَ عليه مُحَمَّدٌ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال المُشرِكونَ: واللهِ لو نَعلمُ أنَّك رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما قاتَلناك، أي: لو كُنَّا نُقِرُّ بأنَّك رَسولٌ لم نُقاتِلْك، ومُرادُهم بذلك أن لا يُكتَبَ لفظُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللهُمَّ إنَّك تَعلمُ أنِّي رَسولُك. امحُ يا عليُّ، أي: أزِلْ وامسَحْ يا عليُّ لفظَ رَسولِ اللهِ مِنَ الكِتابِ، واكتُبْ: هذا ما كَتَبَ عليه، أي: ما صالحَ عليه، مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللَّهِ، أي: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَحا اسمَه بأنَّه رَسولٌ، وكَتَب مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللَّهِ. فواللهِ لرَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَيرٌ مِن عليٍّ؛ فقد مَحا نَفسَه، أي: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو خَيرٌ مِن عليٍّ، ومَعَ ذلك مَحا نَفسَه، ومَقصودُ ابنِ عبَّاسٍ أنَّه ليسَ على عليٍّ حَرَجٌ إذا مَحا نَفسَه عن أميرِ المُؤمِنينَ، فقد فعَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك. يَقولُ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: إنَّه بَعدَ ما رَدَّ على الخَوارِجِ الشُّبَهَ التي كانت عِندَهم رَجَعَ مِنهم ألفانِ، أي: استَسلَموا وانقادوا للحَقِّ ورَجَعوا مَعَ عليٍّ، وخَرَجَ سائِرُهم فقُتِلوا، أي: بَقيَّتُهم، وهم أربَعةُ آلافٍ لم يَقتَنِعوا وخَرَجوا فقاتَلوا عَليًّا، فقَتَلهم عليٌّ وقَضى عليهم.
وفي الحَديثِ بَيانُ عَدَدِ الخَوارِجِ الذينَ خَرَجوا على عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه.
وفيه تَحذيرُ الرَّعيَّةِ للأميرِ مِن أهلِ الشَّرِّ والفِتَنِ.
وفيه أنَّه لا يُقاتَلُ أهلُ الفِتَنِ حتَّى يبدؤوا بالقِتالِ.
وفيه مَشروعيَّةُ مُناظَرةِ أهلِ الأهواءِ ورَدِّ ما عِندَهم مِن شُبَهٍ.
وفيه استِئذانُ وَليِّ الأمرِ في مُناظَرةِ أهلِ الأهواءِ.
وفيه بَيانُ ما تَمَيَّزَ به ابنُ عبَّاسٍ مِن حُسنِ الخُلُقِ.
وفيه بَيانُ ما كان عليه الخَوارِجُ مِنَ الاجتِهادِ في العِبادةِ.
وفيه بَيانُ مَكانةِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم وعِلمِهم بتَأويلِ القُرآنِ.
وفيه بَيانُ سَعةِ عِلمِ ابنِ عبَّاسٍ وقوَّتِه في مَحَجَّةِ الخُصومِ وأهلِ الأهواءِ وإقناعِهم.
وفيه استِنفادُ ما عِندَ الخَصمِ مِنَ الحُجَجِ والشُّبُهاتِ ثُمَّ الرَّدُّ عليها.
وفيه عَدَمُ الانتِقالِ مِن جَوابِ شُبهةٍ إلى أُخرى حتَّى يَتَأكَّدَ أنَّ الخَصمَ فَهِمَها واقتَنَعَ بصِحَّةِ الجَوابِ.
وفيه بَيانُ فائِدةِ مُناظَرةِ ابنِ عبَّاسٍ للخَوارِجِ ورُجوعِ ألفينِ مِنهم .