كلُّ أُمورِ الخَلْقِ مُقدَّرةٌ بقَدَرِ اللهِ تعالَى، وقدْ يسَّرَ اللهُ لعِبادِه الأسْبابَ الَّتي تُوصِلُهم إلى دَفْعِ المَضرَّاتِ، والوُصولِ إلى ما فيه مَنفعَتُهم، ولم يَجعَلْ مِن تلك الأسْبابِ ما حرَّمَ على العِبادِ.
وفي هذا الأثَرِ يَرْوي التَّابِعيُّ أبو الأحْوَصِ عَوفُ بنُ مالكٍ الكوفيُّ أنَّ رجُلًا أتَى عبْدَ اللهِ بنَ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، فأخبَرَه أنَّ أخاهُ -قيلَ: إنَّه خُثَيمُ بنُ عَدَّاءٍ، كما في رِوايةِ الطَّبَرانيِّ- قدْ أُصِيبَ بوَجَعٍ ومرَضٍ في بَطْنِه، وقد وَصَف له بَعضُ النَّاسِ الخَمرَ والمُسْكِراتِ بقَصْدِ تَخْفيفِ وجَعِ بطْنِه؛ فهلْ يَسْقيه منها؟ وإنَّما أشكَلَ على الرَّجلِ شُربُها، وهو يَعلَمُ حُرمتَها؛ وذلك أنَّ الخَمرَ جاءت في مَعرِضِ التَّداوي بها، وقد يَظُنُّ بَعضُ النَّاسِ مَشروعيَّتَها، فتَعجَّبَ عبدُ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه وقال: «سُبحانَ اللهِ! ما جَعَل اللهُ شِفاءً في رِجسٍ»، وهو أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عِندَما أمَرَ بالشِّفاءِ وطلَبِ التَّداوي، أمَرَ ألَّا يُتَّخَذَ مِن مُحرَّمٍ، كخَمرٍ ونَحوِها؛ لأنَّه ما حرَّمَه إلَّا لخُبْثِه؛ صِيانةً لعِبادِه عنِ التَّلطُّخِ بدَنَسِه، كما في قَولِ اللهِ تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}
[البقرة: 219] ؛ فالتَّداوي إنَّما يكونُ بما أباحَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ لعِبادِه، وهذه قاعِدةٌ عَظيمةٌ تَجْري في أُمورٍ كَثيرةٍ لِمَن تأمَّلَها.
ثمَّ بيَّنَ له أنَّ الشِّفاءَ يكونُ في أمرَيْنِ:
الأوَّلُ: في عَسَلِ النَّحلِ وشُربِه، فهو مُفيدٌ للبَطنِ إذا أُخِذَ بالجُرَعِ المُناسِبةِ، وقدْ قال اللهُ تعالَى عنِ النَّحلِ: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}
[النحل: 69] .
والثَّاني الَّذي فيه شِفاءٌ: القُرآنُ؛ فإنَّه شِفاءٌ لِما في الصُّدورِ؛ لأنَّ فيه الهِدايةَ والرَّحمةَ الَّتي تَشْفي الصُّدورَ ممَّا فيها مِن الأحْقادِ، والشِّركِ، والكُفرِ، وكلِّ سُوءٍ، كما قال تعالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}
[الإسراء: 82] ، وكما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}
[يونس: 57] .
وبذلك يكونُ قد جَمَع هذانِ الأمْرانِ شِفاءَ الأمْراضِ الحِسِّيَّةِ والأمْراضِ المَعنويَّةِ، فيَصِحُّ الجَسدُ، وتَصِحُّ الرُّوحُ، فيكونُ الإنسانُ -بفَضلِ اللهِ ورَحمتِه- كاملَ الصِّحَّةِ في كلِّ جَوانِبِ حياتِه.