موسوعة الفرق

الفَصْلُ الأوَّلُ: المَسائِلُ المُتَعلِّقةُ بالأسْماءِ الحُسْنى عنْدَ الأشاعِرةِ


يُثبِتُ الأشاعِرةُ أسْماءَ اللهِ الحُسْنى، ويَشرَحونَ مَعانيَها، لكنَّهم لا يُثبِتونَ غالِبَ الصِّفاتِ الإلَهيَّةِ الَّتي تَضَمَّنَتْها الأسْماءُ الحُسْنى، ويُؤَوِّلونَها ما عَدا الصِّفاتِ السَّبْعَ المَعْروفةَ عنْدَهم بما يُوافِقُ مَذهَبَهم [405] قال الغزالي: (جملة الأسماء الحُسْنى ترجع إلى ذات وسبع صفات) ((مجموعة رسائل الإمام الغزالي)) (ص: 126). وقال ابنُ العَرَبيِّ: (الأسماءُ الَّتي دلَّت عليها دلائِلُ التوحيدِ سَبعةٌ: الموجودُ، القادِرُ، العالِمُ، السَّميعُ، البَصيرُ، المُريدُ، الحَيُّ، المتكَلِّمُ) ((الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحُسْنى وصفاته العلى)) (ص: 175). وقال أيضا: (جهات الجلال والشرف انحصرت في سبع صفات) ((الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحُسْنى وصفاته العلى)) (ص: 1042). ؛ فمَثَلًا اسمُ اللهِ العَلِّيُّ والأَعْلى والمُتَعالِ يَذكُرونَ أنَّها تَدُلُّ على مَعْنى عُلُوِّ القَدْرِ والقَهْرِ، ويَنْفونَ دَلالتَها على عُلُوِّ اللهِ على خَلْقِه بذاتِه، وأنَّه فَوْقَهم حَقيقةً كما يَليقُ بجَلالِه [406] يُنظر: ((المقصد الأسنى)) للغزالي (ص: 106 - 109)، ((الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحُسْنى وصفاته العلى)) (ص: 380 - 385). .
وممَّن كَتَبَ في مَعاني أسْماءِ اللهِ مِن الأشاعِرةِ:
1- الحَليميُّ، في كِتابِه (المِنْهاج في شُعَبِ الإيمانِ) [407] يُنظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 188 - 210). .
2- البَيْهَقيُّ، في كِتابِه (الأسْماء والصِّفات)، وقدِ اعْتَمَدَ في شَرْحِه على كِتابِ (شأن الدُّعاءِ) للخَطَّابيِّ، وكِتابِ (المِنْهاج في شُعَبِ الإيمانِ) للحَليميِّ [408] يُنظر: ((الأسماء والصِّفات)) (1/ 36 - 228). .
3- القُشَيْريُّ، في كِتابِه (شَرْح أسْماءِ اللهِ الحُسْنى).
4- الغَزَاليُّ، في كِتابِه (المَقْصَدُ الأَسْنى في شَرْحِ مَعاني أسْماءِ اللهِ الحُسْنى).
5- أبو بَكْرِ بنُ العَرَبيِّ، في كِتابِه (الأَمَد الأَقْصى في شَرْحِ أسْماءِ اللهِ الحُسْنى وصِفاتِه العُلى).
6- الفَخْرُ الرَّازيُّ، في كِتابِه (لوامِع البَيِّناتِ شَرْح أسْماءِ اللهِ تَعالى والصِّفاتِ).
وقدْ وافَقَ الأشاعِرةُ السَّلَفَ الصَّالِحَ في عِدَّةِ مَسائِلَ تَتَعلَّقُ بالأسْماءِ الحُسْنى؛ مِنها:
1- القَوْلُ بأنَّ أسْماءَ اللهِ تَعالى تَوْقيفيَّةٌ، وقدْ خالَفَ في هذا الباقِلَّانيُّ فذَهَبَ إلى أنَّها غَيْرُ تَوْقيفيَّةٍ، وأنَّ كلَّ لَفْظٍ دلَّ على مَعنًى ثابِتٍ للهِ تَعالى جازَ إطْلاقُه عليه بلا تَوْقيفٍ إذا لم يكُنْ إطْلاقُه موهِمًا لِما لا يَليقُ بكَبْريائِه [409] يُنظر: ((شرح المواقف)) للجرجاني (3/ 306، 312)، ((تقريب البعيد إلى جوهرة التوحيد)) للصفاقسي (ص: 82)، ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 2). ، وهذا قَوْلٌ باطِلٌ بلا شَكٍّ.
2- القَوْلُ بأنَّ أسْماءَ اللهِ الحُسْنى مُشْتَقَّةٌ، وليسَتْ جامِدةً؛ ولِذلك شَرَحَها العُلَماءُ، وبَيَّنوا مَعانيَها [410] يُنظر: ((تلخيص الأدِلَّة لقواعد التوحيد)) للصفار (ص: 340، 379). .
3- القَوْلُ بأنَّ أسْماءَ اللهِ الحُسْنى لا يُحصيها أحَدٌ مِن الخَلْقِ، وأنَّها تَزيدُ على تِسْعةٍ وتِسْعينَ اسْمًا [411] يُنظر: ((المقصد الأسنى)) للغزالي (ص: 167)، ((الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحُسْنى وصفاته العلى)) لابن العربي (ص: 195). .
وخالَفَ الأشاعِرةُ السَّلَفَ الصَّالِحَ في مَسْألةِ: هلِ الاسْمُ هو المُسمَّى أو غَيْرُه؟ فالجَهْميَّةُ قَرَّروا أنَّ الاسْمَ غَيْرُ المُسمَّى؛ ليَسلَمَ لهم قَوْلُهم بخَلْقِ القُرْآنِ، فقابَلَهم بعضُ المُنْتَسِبينَ إلى السُّنَّةِ فقالوا: بلِ الاسْمُ هو المُسمَّى، حتَّى لا يقالَ: إنَّ أسْماءَ اللهِ غَيْرُ اللهِ.
قالَ الباقِلَّانيُّ: (يَجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ الاسْمَ هو المُسمَّى بعَيْنِه وذاتِه، والتَّسْميةُ الدَّالَّةُ عليه تُسمَّى اسْمًا على سَبيلِ المَجازِ. والدَّليلُ عليه قَوْلُه تَعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرحمن: 78] ومَعْناه: تَبارَكَ رَبُّك، وأيضًا قَوْلُه تَعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] ولا يَشُكُّ عاقِلٌ أنَّ المُسبَّحَ هو اللهُ تَعالى، لا قَوْلُ مَن يَقولُ التَّسْبيحَ، ويَدُلُّ عليه قَوْلُه تَعالى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 40] ، وقدْ عَلِمْنا أنَّهم ما كانوا يَعبُدونَ الأقْوالَ والتَّسْمياتِ، وإنَّما كانوا يَعبُدونَ الأصْنامَ؛ فأمَّا قَوْلُه تَعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف: 180] ، وقَوْلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ للهِ تِسْعةً وتِسْعينَ اسْمًا مَن أَحْصاها دَخَلَ الجَنَّةَ )) [412] أخرجه البخاريُّ (2736)، ومُسلِم (2677) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه بلَفظِ: ((إنَّ للهِ تِسعةً وتِسعينَ اسمًا، مِائةً إلَّا واحِدًا، من أحصاها دَخَل الجنَّةَ)). ، فالعَدَدُ في ذلك راجِعٌ إلى التَّسْمياتِ الَّتي هي عِباراتُ الاسْمِ، فالتَّسْميةُ تَدُلُّ على الذَّاتِ حَسَبَ دَلالةِ الكِتابةِ على المَكْتوبِ، فمَن لا يُمَيِّزُ بَيْنَ الاسْمِ والتَّسْميةِ وبَيْنَ الكِتابةِ والمَكْتوبِ وما جَرى هذا المَجْرى، فلا يُحِلُّ اللهُ له أن يُفْتيَ في دينِ اللهِ تَعالى، نَعوذُ باللهِ مِن الجَهْلِ باللهِ تَعالى وصِفاتِه) [413] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 57). ويُنظر: ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل)) للباقلاني (ص: 258 - 264)، ((الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحُسْنى وصفاته العلى)) لابن العربي (ص: 174)، ((الإشارة في علم الكَلام)) للرازي (ص: 282 - 285). .
ولابنِ تَيْمِيَّةَ بَحْثٌ مُحَرَّرٌ وتَحْقيقٌ نَفيسٌ في مَسْألةِ الاسْمِ والمُسمَّى، ومِن ذلك قَوْلُه: (فَصْلٌ: في الاسْمِ والمُسمَّى، هل هو هو أو غَيْرُه؟ أو لا يُقالُ: هو هو، ولا يُقالُ: هو غَيْرُه؟ أو هو له؟ أو يُفصَّلُ في ذلك؟ فإنَّ النَّاسَ قد تَنازَعوا في ذلك، والَّذي كانَ مَعْروفًا عنْدَ أئِمَّةِ السُّنَّةِ أَحْمَدَ وغَيْرِه: الإنْكارُ على الجَهْميَّةِ الَّذين يَقولونَ: أسْماءُ اللهِ مَخْلوقةٌ، فيَقولونَ: الاسْمُ غَيْرُ المُسمَّى، وأسْماءُ اللهِ غَيْرُه، وما كانَ غَيْرُه فهو مَخْلوقٌ؛ وهؤلاء هُمُ الَّذين ذَمَّهم السَّلَفُ وغَلَّظوا فيهم القَوْلَ؛ لأنَّ أسْماءَ اللهَ مِن كَلامِه، وكَلامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلوقٍ، بلْ هو المُتكلِّمُ به، وهو المُسمِّي لنَفْسِه بما فيه مِن الأسْماءِ، والجَهْميَّةُ يَقولونَ: كَلامُه مَخْلوقٌ، وأسْماؤُه مَخْلوقةٌ، وهو نَفْسُه لم يَتَكلَّمْ بكَلامٍ يَقومُ بذاتِه، ولا سَمَّى نَفْسَه باسْمٍ هو المُتَكلِّمُ به...، وكانَ الَّذين يُطلِقونَ القَوْلَ بأنَّ الاسْمَ غَيْرُ المُسمَّى هذا مُرادُهم؛ فلِهذا يُرْوى عن الشَّافِعيِّ والأصْمَعيِّ وغَيْرِهما أنَّه قالَ: إذا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقولُ: الاسْمُ غَيْرُ المُسمَّى فاشْهَدْ عليه بالزَّنْدقةِ. ولم يُعرَفْ أيضًا عن أحَدٍ مِن السَّلَفِ أنَّه قالَ: الاسْمُ هو المُسمَّى، بلْ هذا قالَه كَثيرٌ مِن المُنْتَسِبينَ إلى السُّنَّةِ بَعْدَ الأئِمَّةِ، وأَنكَرَه أَكثَرُ أهْلِ السُّنَّةِ عليهم، ثُمَّ مِنهم مَن أَمسَكَ عن القَوْلِ في هذه المَسْألةِ نَفْيًا وإثْباتًا؛ إذْ كانَ كلٌّ مِن الإطْلاقَينِ بِدْعةً...، وذَكَرَ أنَّ القَوْلَ في الاسْمِ والمُسمَّى مِن الحَماقاتِ المُبْتَدَعةِ الَّتي لا يُعرَفُ فيها قَوْلٌ لأحَدٍ مِن الأئِمَّةِ، وأنَّ حَسْبَ الإنْسانِ أن يَنْتَهيَ إلى قَوْلِه تَعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف: 180] ، وهذا هو القَوْلُ بأنَّ الاسْمَ للمُسمَّى، وهذا الإطْلاقُ اخْتِيارُ أَكثَرِ المُنْتَسِبينَ إلى السُّنَّةِ مِن أصْحابِ الإمامِ أَحْمَدَ وغَيْرِه...، وهؤلاء الَّذين قالوا: إنَّ الاسْمَ هو المُسمَّى لم يُريدوا بِذلك أنَّ اللَّفْظَ المُؤَلَّفَ مِن الحُروفِ هو نَفْسُ الشَّخْصِ المُسمَّى به؛ فإنَّ هذا لا يَقولُه عاقِلٌ؛ ولِهذا يُقالُ: لو كانَ الاسْمُ هو المُسمَّى لكانَ مَن قالَ: نارٌ، احْتَرَقَ لِسانُه! ومِن النَّاسِ مَن يَظُنُّ أنَّ هذا مُرادُهم ويُشَنِّعُ عليهم، وهذا غَلَطٌ عليهم؛ بل هؤلاء يَقولونَ: اللَّفْظُ هو التَّسْميةُ، والاسْمُ ليس هو اللَّفْظَ، بلْ هو المُرادُ باللَّفْظِ؛ فإنَّك إذا قُلْتَ: يا زَيدُ يا عُمَرُ، فليس مُرادُك دُعاءَ اللَّفْظِ، بل مُرادُكَ دُعاءُ المُسمَّى باللَّفْظِ، وذَكَرْتَ الاسْمَ، فصارَ المُرادُ بالاسْمِ هو المُسمَّى، وهذا لا رَيْبَ فيه...، فلمَّا كانَتْ أسْماءُ الأشْياءِ إذا ذُكِرَتْ في الكَلامِ المُؤَلَّفِ فإنَّما المَقْصودُ هو المُسَمَّياتُ، قالَ هؤلاء: الاسْمُ هو المُسمَّى، وجَعَلوا اللَّفْظَ الَّذي هو الاسْمُ عنْدَ النَّاسِ هو التَّسْميةَ...، لو اقْتَصَروا على أنَّ أسْماءَ الشَّيءِ إذا ذُكِرَتْ في الكَلامِ فالمُرادُ بِها المُسَمَّياتُ لكانَ ذلك مَعنًى واضِحًا لا يُنازِعُ فيه مَن فَهِمَه، لكنْ لم يَقْتَصِروا على ذلك؛ ولِهذا أَنكَرَ قَوْلَهم جُمْهورُ النَّاسِ مِن أهْلِ السُّنَّةِ وغَيْرِهم؛ لِما في قَوْلِهم مِن الأمورِ الباطِلةِ مِثلِ دَعْواهم أنَّ لَفْظَ اسْمٍ الَّذي هو: (ا س م) مَعْناه ذاتُ الشَّيءِ ونَفْسُه، وأنَّ الأسْماءَ مِثلَ زَيدٍ وعَمْرٍو هي التَّسْمياتُ؛ ليست هي أسْماءَ المُسَمَّياتِ، وكِلاهُما باطِلٌ مُخالِفٌ لِما يَعلَمُه جَميعُ النَّاسِ مِن جَميعِ الأُمَمِ ولِما يَقولونَه؛، فإنَّهم يَقولونَ: إنَّ زَيدًا وعَمْرًا ونَحْوَ ذلك هي أسْماءُ النَّاسِ، والتَّسْميةُ جَعْلُ الشَّيءِ اسْمًا لغَيْرِه هي مَصدَرُ سَمَّيْتُه تَسْميةً إذا جَعَلْتَ له اسْمًا، والاسمُ هو القَوْلُ الدَّالُّ على المُسمَّى، ليس الاسْمَ الَّذي هو لَفْظُ اسْمٍ هو المُسمَّى؛ بلْ قد يُرادُ به المُسمَّى؛ لأنَّه حُكْمٌ عليه ودَليلٌ عليه، فهُمْ تَكَلَّفوا هذا التَّكَلُّفَ ليَقولوا: إنَّ اسْمَ اللهِ غَيْرُ مَخْلوقٍ، ومُرادُهم أنَّ اللهَ غَيْرُ مَخْلوقٍ، وهذا ممَّا لا تُنازِعُ فيه الجَهْميَّةُ والمُعْتَزِلةُ؛ فإنَّ أولئك ما قالوا: الأسْماءُ مَخْلوقةٌ إلَّا لمَّا قالَ هؤلاء: هي التَّسْمياتُ، فوافَقوا الجَهْميَّةَ والمُعْتَزِلةَ في المَعْنى، ووافَقوا أهْلَ السُّنَّةِ في اللَّفْظِ، ولكن أرادوا به ما لم يَسبِقْهم أحَدٌ إلى القَوْلِ به مِن أنَّ لَفْظَ اسْمٍ وهو (ألف سين ميم) مَعْناه إذا أُطلِقَ هو الذَّاتُ المُسمَّاةُ...، وأمَّا قَوْلُهم: إنَّ الاسْمَ يُرادُ به التَّسْميةُ، وهو القَوْلُ، فهذا الَّذي جَعَلوه هُمْ تَسْميةً هو الاسْمُ عنْدَ النَّاسِ جَميعِهم، والتَّسْميةُ جَعْلُه اسْمًا، والإخْبارُ بأنَّه اسْمٌ، وقدْ سَلَّموا أنَّ لَفْظَ الاسْمِ أَكثَرُ ما يُرادُ به ذلك...، فأسْماؤُه الحُسْنى، مِثلُ: الرَّحْمنِ الرَّحيمِ والغَفورِ الرَّحيمِ فهذه الأقْوالُ هي أسْماؤُه الحُسْنى، وهي إذا ذُكِرَتْ في الدُّعاءِ والخَبَرِ يُرادُ بها المُسمَّى...، القائِلُ إذا قالَ: ما اسْمُ مَعْبودِكم؟ فقُلْنا: اللهُ، فالمُرادُ أنَّ اسْمَه هو هذا القَوْلُ، ليس المُرادُ أنَّ اسْمَه هو ذاتُه وعَيْنُه الَّذي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ، فإنَّه إنَّما سَألَ عن اسْمِه لم يَسأَلْ عن نَفْسِه؛ فكانَ الجَوابُ بذِكْرِ اسْمِه، وإذا قالَ: ما مَعْبودُكم؟ فقُلْنا: اللهُ، فالمُرادُ هناك المُسمَّى؛ ليسَ المُرادُ أنَّ المَعْبودَ هو القَوْلُ، فلمَّا اخْتَلَفَ السُّؤالُ في المَوْضِعَينِ اخْتَلَفَ المَقْصودُ بالجَوابِ، وإن كانَ في المَوْضِعَينِ قالَ: الله... قالَ تَعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف: 180] المُرادُ أنَّه نَفْسَه له الأسْماءُ الحُسْنى، ومِنها اسْمُه اللهُ، كما قالَ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] ، فالَّذي له الأسْماءُ الحُسْنى هو المُسمَّى بِها...، وأمَّا احْتِجاجُهم بقَوْلِه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] ، وأنَّ المُرادَ سَبِّحْ رَبَّك الأَعْلى، وكذلك قَوْلُه: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 78]، وما أَشبَهَ ذلك، فهذا لِلنَّاسِ فيه قَوْلانِ مَعْروفانِ، وكِلاهُما حُجَّةٌ عليهم، مِنهم مَن قالَ: الاسْمُ هنا صِلةٌ، والمُرادُ: سَبِّحْ رَبَّك، وتَبارَكَ رَبُّك. وإذا قيلَ: هو صِلةٌ فهو زائِدٌ لا مَعْنى له؛ فيَبطُلُ قَوْلُهم: إنَّ مَدْلولَ لَفْظِ اسْمٍ (ألف سين ميم) هو المُسمَّى، فإنَّه لو كانَ له مَدْلولٌ مُرادٌ لم يكُنْ صِلةً...، والتَّحْقيقُ أنَّه ليس بصِلةٍ، بل أمَرَ اللهُ بتَسْبيحِ اسْمِه كما أمَرَ بذِكْرِ اسْمِه، والمَقْصودُ بتَسْبيحِه وذِكْرِه هو تَسْبيحُ المُسمَّى وذِكْرُه، فإنَّ المُسبِّحَ والذَّاكِرَ إنَّما يُسبِّحُ اسْمَه ويَذكُرُ اسْمَه، فيَقولُ: سُبْحانَ رَبِّي الأَعْلى، فهو نَطَقَ بلَفْظِ رَبِّي الأَعْلى، والمُرادُ هو المُسمَّى بهذا اللَّفْظِ، فتَسْبيحُ الاسْمِ هو تَسْبيحُ المُسمَّى، ومَن جَعَلَه تَسْبيحًا للاسْمِ يَقولُ: المَعْنى أنَّك لا تُسَمِّي به غَيْرَ اللهِ، ولا تُلحِدُ في أسْمائِه، فهذا ممَّا يَسْتحِقُّه اسْمُ اللهِ، لكنَّ هذا تابِعٌ للمُرادِ بالآيةِ، ليس هو المَقْصودَ بها القَصْدَ الأوَّلَ...، فتَبَيَّنَ أنَّ الَّذين قالوا: الاسْمُ هو المُسمَّى، إنَّما يُسلَّمُ لهم أنَّ أسْماءَ الأشْياءِ إذا ذُكِرَتْ في الكَلامِ أُريدَ به المُسمَّى، وهذا ممَّا لا يُنازِعُ فيه أحَدٌ مِن العُقَلاءِ...، وأمَّا الَّذين قالوا: إنَّ الاسْمَ غَيْرُ المُسمَّى فهُمْ إذا أرادوا أنَّ الأسْماءَ الَّتي هي أقْوالٌ ليسَتْ نَفْسُها هي المُسَمَّياتُ، فهذا أيضًا لا يُنازِعُ فيه أحَدٌ مِن العُقَلاءِ...، ولكنَّ هؤلاء الَّذين أَطلَقوا مِن الجَهْميَّةِ والمُعْتَزِلةِ أنَّ الاسْمَ غَيْرُ المُسمَّى مَقْصودُهم أنَّ أسْماءَ اللهِ غَيْرُه، وما كانَ غَيْرَه فهو مَخْلوقٌ...، وأمَّا الَّذين يَقولونَ: إنَّ الاسْمَ للمُسمَّى كما يَقولُه أَكثَرُ أهْلِ السُّنَّةِ فهؤلاء وافَقوا الكِتابَ والسُّنَّةَ والمَعْقولَ، قالَ اللهُ تَعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف: 180] وقالَ: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] ، وقالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ للهِ تِسْعةً وتِسْعينَ اسْمًا)) [414] أخرجه البخاري (2736)، ومُسلِم (2677) مطوَّلًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. [415] ((مجموع الفَتاوى)) (6/ 185 - 207). .
وقالَ ابنُ أبي العِزِّ: (قَوْلُهم: الاسْمُ عَيْنُ المُسمَّى أو غَيْرُه؟ طالَما غَلَطَ كَثيرٌ مِن النَّاسِ في ذلك، وجَهِلوا الصَّوابَ فيه، فالاسْمُ يُرادُ به المُسمَّى تارةً، ويُرادُ به اللَّفْظُ الدَّالُّ عليه أخرى، فإذا قُلْتَ: قالَ اللهُ كَذا، أو سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه، ونَحْوَ ذلك، فهذا المُرادُ به المُسمَّى نَفْسُه، وإذا قُلْتَ: اللهُ اسْمٌ عَرَبيٌّ، والرَّحْمنُ اسْمٌ عَرَبيٌّ، والرَّحْمنُ مِن أسْماءِ اللهِ تَعالى، ونَحْوَ ذلك، فالاسْمُ هاهنا للمُسمَّى، ولا يُقالُ: غَيْرُه؛ لِما في لَفْظِ الغَيْرِ مِن الإجْمالِ، فإن أُريدَ بالمُغايَرةِ أنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ المَعْنى فحَقٌّ، وإن أُريدَ أنَّ اللهَ سُبْحانَه كانَ ولا اسْمَ له، حتَّى خَلَقَ لنَفْسِه أسْماءً، أو حتَّى سَمَّاه خَلْقُه بأسْماءٍ مِن صُنْعِهم- فهذا مِن أَعظَمِ الضَّلالِ والإلْحادِ في أسْماءِ اللهِ تَعالى) [416] ((شرح الطحاوية)) (1/ 102). .
وما أحسَنَ قَولَ ابنِ جَريرٍ الطَّبَريِّ في هذه المسألةِ؛ حيثُ قال: (أمَّا القولُ في الاسمِ: أهو المُسمَّى أم غيرُ المُسمَّى؟ فإنَّه من الحماقاتِ الحادثةِ التي لا أثرَ فيها فيُتَّبعَ، ولا قَولَ مِن إمامٍ فيُستمَعَ؛ فالخَوضُ فيه شَينٌ، والصَّمتُ عنه زَينٌ. وحَسْبُ امرئٍ من العِلمِ به والقولِ فيه أن ينتهيَ إلى قولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ ثناؤُه الصَّادِقُ، وهو قَولُه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] ، وقَولُه تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] ، ويعلَمَ أنَّ رَبَّه هو الذي على العَرشِ استوى، لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [طه: 6] ، فمَن تجاوَز ذلك فقد خاب وخَسِر، وضلَّ وهلَك) [417] ((صريح السنة)) (ص: 26، 27). .

انظر أيضا: