موسوعة التفسير

سُورةُ يُوسُفَ
الآيات (36-42)

ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ

غريب الكلمات:

مِلَّةَ: أي: دينَ، وطريقةَ، مشتقَّة من أَمْلَلْتُ (أي: أَمْلَيْتُ)؛ لأنَّها تُبنَى على مسموعٍ ومتلوٍّ؛ فإذا أُريدَ الدِّينُ باعتبارِ الدُّعاءِ إليه؛ قيل: (مِلَّة)، وإذا أُريدَ باعتبارِ الطَّاعةِ والانقيادِ له؛ قيل: (دين) [439] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/275)، ((المفردات)) للراغب (ص: 773، 774)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 91)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 443).
الْقَيِّمُ: أي: المستقيمُ الذي لا عِوجَ فيه، أو: القائمُ الدائمُ الذي لا يزولُ، وأصلُ (قوم): يدلُّ على مراعاةِ الشيءِ وحِفظِه [440] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/43)، ((البسيط)) للواحدي (10/411)،  ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص:292)، ((تفسير الشربيني)) (2/109). .
بِضْعَ: البِضْعُ هو ما بينَ الثَّلاثِ إلى العَشرةِ [441]  قال ابنُ عطية : (و«بِضْع» في كلامِ العربِ اختُلِف فيه، فالأكثرُ على أنَّه مِن الثلاثةِ إلى العشرةِ، قاله ابنُ عباسٍ). ((تفسير ابن عطية)) (3/247). ، وقيل غير ذلك، واشتقاقُه مِن (بَضَعْت) بمعنَى (قَطَعت)، ومعناه القطعةُ مِن العَدَدِ، وأصلُ (بضع): يدلُّ على طائفةٍ مِن الشَّيءِ عُضْوًا أو غيرَه [442] يُنظر: (غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 131)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/254)،  ((البسيط)) للواحدي (12/124)، ((المفردات)) للراغب (ص: 129)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 198). .

المعنى الإجمالي:

يخبرُ الله تعالى أنَّ يوسفَ عليه السلامُ دخَل معه السجنَ فتيانِ، وأنَّ أحدَهما قال: إنِّي رأيتُ في المنامِ أنِّي أعصِرُ عِنبًا ليصيرَ خَمرًا، وقال الآخرُ: إنِّي رأيتُ أنِّي أحمِلُ فوقَ رأسي خُبزًا تأكلُ الطَّيرُ منه، أخبِرْنا- يا يوسُفُ- بتفسيرِ ما رأينا، إنَّا نراك من المحسنين. قال لهما يوسفُ: لا تريانِ في مَنامِكما طَعامٌ تُرزَقانِه إلَّا أخبَرتُكما بتفسيرِه في اليقَظةِ قبل أن يأتيَكما، ذلك التَّعبيرُ الذي سأعبِّرُه لكما ممَّا علَّمَني ربِّي؛ إنِّي آمنتُ به، وأخلصتُ له العبادةَ، وابتعدتُ عن دينِ قَومٍ لا يُؤمِنونَ بالله، وهم بالبَعثِ والحِسابِ جاحِدونَ، واتَّبَعتُ دينَ آبائي إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، فعبدتُ الله وَحدَه، ما كان لنا أن نجعلَ لله شريكًا في عبادتِه، ذلك التَّوحيدُ بإفرادِ اللهِ بالعبادةِ، ممَّا تفضَّلَ الله به علينا وعلى النَّاسِ الذين جعَلَنا دُعاةً لهم إلى توحيدِه، ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يشكُرونَ.
وقال يوسُفُ للفَتَيينِ اللَّذينِ معه في السِّجنِ: يا ساكِنَي السِّجنِ، أعبادةُ آلهةٍ مخلوقةٍ شَتَّى خيرٌ أم عبادةُ اللهِ الواحدِ القَّهارِ؟ ما تعبُدونَ مِن دونِ اللهِ إلَّا أسماءً لا معانيَ وراءَها، جعلتُموها أنتم وآباؤكم أربابًا، جهلًا منكم وضلالًا، ما أنزل اللهُ مِن حُجَّةٍ أو برهانٍ على صِحَّتِها، وما الحُكمُ إلَّا لله تعالى وَحدَه لا شريكَ له، أمَرَ ألَّا تعبُدوا أحدًا غيرَه، وهذا هو الدِّينُ القيِّمُ الذي لا عِوَجَ فيه، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ يجهَلون ذلك، فلا يعلمونَ حقيقتَه.
يا ساكِنَي السِّجنِ، إليكما تفسيرَ رُؤياكما: أمَّا أحدُكما فإنَّه يخرجُ مِن السِّجنِ، ويكونُ ساقيَ الخَمرِ للمَلِك، وأمَّا الآخَرُ فإنَّه يُصلَبُ ويُترَكُ، فتأكُلُ الطَّيرُ مِن رأسِه، قُضيَ الأمرُ الذي فيه تستفتيانِ وفُرِغَ منه، وقال يوسُفُ للذي علِمَ أنَّه ناجٍ من صاحِبَيه: اذكُرني عند سيِّدِك المَلِك، وأخبِرْه بأنِّي مظلومٌ، قد سُجِنْتُ بلا ذَنبٍ، فأنسَى الشَّيطانُ ذلك الرَّجُلَ أن يَذكُرَ للمَلِك حالَ يوسُفَ، فمكثَ يوسُفُ بعد ذلك في السِّجنِ عِدَّةَ سَنواتٍ.

تفسير الآيات:

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا ذكرَ السِّجنَ وكان سببًا ظاهِرًا في الإهانةِ، شَرعَ سُبحانه يقُصُّ مِن أمْرِه فيه ما حاصِلُه أنَّه جعَلَه سببَ الكرامةِ، كلُّ ذلك بيانًا للغَلَبةِ على الأمرِ، والاتِّصافِ بصِفاتِ القَهرِ، مع ما في ذلك مِن بيانِ تحقُّقِ ما تقدَّمَ به الوعدُ الوفيُّ ليوسُفَ عليه السَّلامُ، وغير ذلك مِن الحِكَم [443] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/79). .
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ
أي: فسَجَنوا يوسُفَ، ودخل معه السِّجنَ شابَّانِ [444] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/151)، ((تفسير أبي حيان)) (6/275)، ((تفسير السعدي)) (ص: 397). .
قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا.
أي: قال أحدُ الشَّابَّينِ ليوسُفَ: إنِّي رأيتُ في المنامِ أنِّي أعصِرُ عِنبًا [445] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/154)، ((تفسير البغوي)) (2/491)، ((تفسير ابن كثير)) (4/388). قال الواحدي: (معنى أَعْصِرُ خَمْرًا أعصِرُ عنبَ خَمرٍ، أي: العنبَ الذي يكونُ عصيرُه خمرًا، فحُذِفَ المضافُ، وقال الزجَّاج وابن الأنباري: العربُ تسمِّي الشيء باسمِ ما يؤولُ إليه الشيءُ، إذا انكشف المعنى ولم يلتبِسْ؛ يقولون: فلانٌ يطبُخُ الآجُرَّ ويطبُخُ الدِّبسَ، وإنما يطبخُ اللَّبِنَ والعصيرَ. وقومٌ يقولون: إنَّ بعضَ العرَبِ يسمُّونَ العنبَ خَمرًا). ((الوسيط)) (2/613). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/438، 439). .
وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ.
أي: وقال الشَّابُّ الآخَرُ ليوسُفَ: إنِّي رأيتُ في المنامِ أنِّي أحمِلُ على رأسي خُبزًا تنهَشُ الطَّيرُ منه [446] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/156)، ((تفسير السمعاني)) (3/30)، ((تفسير البيضاوي)) (3/163). .
نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ.
أي: أخبِرْنا بتفسيرِ ما رَأينا في منامِنا [447] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/156)، ((الوسيط)) للواحدي (2/613)، ((تفسير السعدي)) (ص: 397). .
إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
أي: إنَّا نراك من المُحسِنينَ [448] اختُلف في معنى مِنَ الْمُحْسِنِينَ فقيل: أي: إلى أهلِ السِّجنِ، وقيل: مِن الذين يحسنونَ عبارةَ الرُّؤيا، أو مِن المحسنينَ في العلمِ، وقيل: مِن المحسنينَ إلينا إن فسَّرتَ لنا ما رأيناه. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/439)، ((تفسير ابن عطية)) (3/244)، ((تفسير القرطبي)) (9/190). ، فأحسِنْ إلينا بتعبيرِ رُؤيانا [449] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/159)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/251)، ((تفسير السعدي)) (ص: 397). .
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37).
مناسبةُ الآيةِ لما قبلَها:
لمَّا وصَفاه بالإحسانِ، ورأَى منهما ميلًا إليه، ووثاقًا به؛ أخَذ في استدراجِهما في التوحيدِ الذي هو المقصودُ الكليُّ مِن أصلِ التخليقِ، قبلَ الشُّروعِ في عبارةِ الرُّؤْيا [450] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (3/339). .
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا.
أي: قال يوسُفُ للشَّابَّينِ: لا تريانِ في مَنامِكما طعامًا يأتيكما إلَّا أخبرتُكما بتعبيرِه في اليَقَظةِ قبلَ أن يقعَ [451] وممَّن اختار هذا المعنى: ابنُ جريرٍ، والواحديُّ، وابنُ تيميةَ، وابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/159، 160)، ((الوسيط)) للواحدي (2/613)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/365)، ((تفسير ابن كثير)) (4/388). وممن قال بهذا القولِ مِن السَّلف: مجاهدٌ، والسديُّ، وابنُ إسحاقَ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2144)، ((تفسير ابن جرير)) (13/159). قال ابن تيميةَ: (هذا قولُ أكثَرِ المفَسِّرينَ، وهو الصَّوابُ). ((مجموع الفتاوى)) (17/365). ويُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (5/223). وقيل: المعنى: لا يأتيكما طعامٌ تُرزَقانِه في اليقَظةِ إلَّا أخبرتُكما به قبل أن يصِلَ إِليكما؛ لأنَّه كان يخبِرُ بما غابَ، فيقولُ: اليومَ يأتيكما طعامٌ مِن صفتِه كيت وكيت، فيجدانِه كما أخبَرهما. وممن قال بهذا القول: الزجَّاجُ، والزمخشري، والقرطبي، والألوسي، والقاسمي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/110)، ((تفسير الزمخشري)) (2/470)، ((تفسير القرطبي)) (9/191)، ((تفسير الشوكاني)) (3/32)، ((تفسير الألوسي)) (6/431)، ((تفسير القاسمي)) (6/175). وممن قال به مِن السلفِ: الحسنُ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/439). .
ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي.
أي: هذا العِلمُ بتعبيرِ الرُّؤى ممَّا علَّمَني ربِّي [452] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/160)، ((تفسير ابن كثير)) (4/389)، ((تفسير السعدي)) (ص: 398). قال الواحدي: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي أي: لم أُخبِرْكما على جهةِ التكهُّنِ والتنجُّمِ، وإنَّما أُخبِرُكما بوحيٍ مِن الله وعِلمٍ). ((البسيط)) (12/117). .
إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ.
أي: إنِّي تبرَّأتُ مِن مِلَّةِ الكُفَّارِ الذين لا يؤمِنونَ بالله وبوَحدانيَّتِه، ولا يُقِرُّونَ بالبعثِ ولا بالثَّوابِ والعِقابِ يومَ الحِسابِ [453] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/160)، ((تفسير ابن كثير)) (4/389)، ((تفسير السعدي)) (ص: 398). .
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38).
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ.
أي: واتَّبعتُ دينَ آبائي الأنبياءِ؛ إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ- عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- الذين دعَوا إلى توحيدِ اللهِ [454] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/162)، ((تفسير السمعاني)) (3/31)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/252). .
عن أبي هُريرةَ رَضيَ الله عنه، قال: ((قيل يا رسولَ الله: من أكرَمُ النَّاسِ؟ قال: أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألُك، قال: فيوسُفُ نبيُّ اللهِ، ابنُ نبيِّ اللهِ، ابنِ نبيِّ اللهِ، ابنِ خَليلِ اللهِ )) [455] رواه البخاري (3353) ومسلم (2378). .
مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ.
أي: ما ينبغي لنا أن نجعلَ لله شريكًا في عبادتِه وطاعتِه [456] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/162)، ((تفسير البيضاوي)) (3/164)، ((تفسير السعدي)) (ص: 398). .
ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ.
أي: ذلك التَّوحيدُ- الذي أكرَمَنا اللهُ تعالى به- ممَّا تفضَّلَ به علينا، وعلى النَّاسِ الذين جعَلَنا دُعاةً لهم إلى توحيدِه وطاعتِه [457] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/162)، ((تفسير ابن كثير)) (4/389). قال الشوكاني في قولِه: وعلى الناس أي: (ومِنْ فضلِ اللَّهِ على النَّاسِ كافَّةً ببعثةِ الأنبياءِ إليهم، وهدايَتِهم إِلى ربِّهم، وتبيينِ طرائقِ الحقِّ لهم). ((تفسير الشوكاني)) (3/32)، ويُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/253). وقال ابنُ الجوزي: (وَعَلَى النَّاسِ يعني المؤمنين بأن دلَّهم على دينِه). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/440)، ويُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (2/613)، ((تفسير السعدي)) (ص: 398)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/273). .
وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ.
أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَشكُرونَ نِعَمَ اللهِ عليهم، فيُؤْمِنونَ به ويُوحِّدونَه، ويعملونَ بما شرَعه لهم، بل يُشركونَ [458] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/162)، ((تفسير أبي حيان)) (6/277)، ((تفسير الشوكاني)) (3/32)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/253). .
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما ذكَر ما هو عليه مِن الدينِ الحنيفيِّ؛ تلطَّف في حسنِ الاستدلالِ على فسادِ ما عليه قومُ الفتَيَينِ مِن عبادةِ الأصنامِ، فناداهما باسْمِ الصُّحبةِ في المكانِ الشَّاقِّ الَّذي تخلُصُ فِيه الموَدَّةُ، وتتمحَّضُ فيه النَّصيحَةُ، ثُمَّ أورَد الدَّلِيلَ على بُطلانِ مِلَّةِ قومِهِما [459] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/278). ، فقال:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39).
أي: قال يوسُفُ للشَّابَّينِ: يا ساكِنَيِ السِّجنِ [460] المراد بقولِه: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أي: يا ساكِنَي السِّجنِ، فجَعَلهما مُصاحبَيْنِ للسِّجنِ؛ لطولِ مُقامِهما فيه، وممن اختار هذا القولَ: ابنُ جريرٍ، والواحديُّ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/163)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 547)، ((تفسير القرطبي)) (9/192). وقيلَ: المرادُ: يا صاحِبَيَّ في السِّجنِ؛ لأنَّ السِّجنَ ليس بمصحوبٍ، بل مصحوبٍ فِيهِ، وممن اختار هذا القولَ: الخازنُ، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير الخازن)) (2/529)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/274)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (3/245)، ((تفسير الشوكاني)) (3/33). ، أآلهةٌ شتَّى لا تنفَعُ ولا تضُرُّ خيرٌ، أم المعبودُ الواحِدُ الذي لا ثانيَ له في ذاته وصفاتِه وكمالِه، الذي قهرَ كلَّ شَيءٍ مِن خَلْقِه، المستحِقُّ للعبادةِ وَحدَه [461] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/163، 164)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/440)، ((تفسير الخازن)) (2/529)، ((تفسير ابن كثير)) (4/389، 390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 398). ؟!
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40).
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم.
أي: ما تعبُدونَ [462] قال ابن جرير: (وقال: مَا تَعْبُدُونَ وقد ابتدأ الخِطاب بخطابِ اثنين، فقال: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ؛ لأنَّه قصدَ المخاطَبَ به ومن هو على الشِّركِ باللهِ مُقيمٌ من أهلِ مِصرَ، فقال للمُخاطَب بذلك: ما تعبدُ أنت ومَن هو على مثلِ ما أنت عليه مِن عبَدةِ الأوثانِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكْمُ). ((تفسير ابن جرير)) (13/165). وقال البغوي: (وإنَّما ذُكِرَ بلَفظِ الجَمعِ وقد ابتدأ الخطاب للاثنينِ؛ لأنَّه أراد جميعَ أهلِ السِّجنِ وكلَّ مَن هو على مِثلِ حالِهما مِن أهلِ الشِّركِ). ((تفسير البغوي)) (2/493). مِن دونِ اللهِ إلَّا أسماءً سمَّيتُموها آلهةً أنتم وآباؤُكم، واعتقَدتُم ألوهيَّتَها، وليست في الحقيقةِ بآلهةٍ تستَحِقُّ العبادةَ [463] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/165)، ((تفسير القرطبي)) (9/192)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/194)، ((تفسير السعدي)) (ص: 398). قال ابن القيم: (هي مُجرَّدُ أسماءٍ كاذبةٍ باطلةٍ، لا مُسمَّى لها في الحقيقةِ؛ فإنَّهم سَمَّوها آلهةً وعَبَدوها؛ لاعتقادِهم حقيقةَ الإلهيَّةِ لها، وليس لها من الألوهيَّةِ إلَّا مجردُ الأسماءِ، لا حقيقةُ المُسمَّى، فما عبدوا إلا أسماءً لا حقائقَ لمُسمَّياتها، وهذا كمَن سمَّى قشورَ البصَلِ لحمًا وأكَلَها، فيقال: ما أكلتَ مِن اللَّحمِ إلَّا اسمَه لا مُسمَّاه! وكمَن سمَّى الترابَ خُبزًا وأكلَه، يقالُ: ما أكلتَ إلَّا اسم الخبزِ! بل هذا النفيُ أبلغُ في آلهتِهم؛ فإنَّه لا حقيقةَ لإلهيَّتِها بوجهٍ). ((بدائع الفوائد)) (1/19، 20). .
مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ.
أي: لم يُنزِل اللهُ أيَّ حُجَّةٍ تدُلُّ على ثبوتِ أسماءِ تلك الآلهةِ الباطلةِ، ولا على استحقاقِها للعبادةِ [464] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/165)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/440)، ((تفسير ابن كثير)) (4/389، 390). .
كما قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى النجم: 23.
إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ.
أي: ما الحُكمُ إلَّا للهِ المُستحِقِّ للعبادةِ دونَ ما سواه؛ فهو وحدَه الحاكِمُ بين عبادِه، المشَرِّعُ لهم [465] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/165)، ((تفسير ابن كثير)) (4/389، 390)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/254)، ((تفسير السعدي)) (ص: 398).
كما قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ الأنعام: 57.
وقال سُبحانه: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا الكهف: 26.
أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ.
أي: أمَرَكم الله- أيُّها النَّاسُ جميعًا- ألَّا تعبُدُوا إلَّا اللهَ وحدَه، ولا تُشرِكوا به شيئًا [466] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/165)، ((تفسير ابن كثير)) (4/390)، ((تفسير الشوكاني)) (3/33). .
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.
أي: ذلك التَّوحيدُ وإخلاصُ العبادةِ لله وحدَه، هو الدِّينُ المُستقيمُ الذي أمرَ الله به عبادَه [467] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/166)، ((تفسير ابن كثير)) (4/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 398). .
كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ البينة: 5.
وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ.
أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يعلمونَ أنَّ توحيدَ اللهِ هو الدِّينُ المُستقيمُ الذي أمَرَ اللهُ به عبادَه؛ فهم لجهلِهم يُشرِكونَ بالله [468] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/166)، ((تفسير ابن كثير)) (4/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 398). قال السعدي: (يوسفُ عليه السَّلامُ دعا صاحبَيِ السِّجنِ لعبادةِ الله وحدَه، وإخلاصِ الدِّينِ له، فيحتملُ أنَّهما استجابا وانقادا، فتَمَّت عليهما النِّعمةُ، ويحتملُ أنَّهما لم يزالا على شِركِهما، فقامت عليهما- بذلك- الحُجَّةُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 398). .
كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ الروم: 30.
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41).
مناسبةُ الآيةِ لما قبلَها:
لَمَّا فرغَ يوسفُ عليه السلامُ مِن دَعوتِهما؛ شرعَ في تعبيرِ رُؤياهما [469] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/390). ، فقال:
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا.
أي: قال يوسفُ عليه السلامُ للشَّابين اللذينِ سألاه تعبيرَ رُؤْياهما: يا ساكِنَيِ السِّجنِ، أمَّا أحَدُكما [470] قال الشوكاني: (المرادُ بقوله: أَمَّا أَحَدُكُمَا هو السَّاقي، وإنَّما أبهَمَه؛ لكونِه مفهومًا، أو لكراهةِ التَّصريحِ للخبَّازِ بأنَّه الذي سيُصلَبُ). ((تفسير الشوكاني)) (3/35). فإنَّه يخرجُ مِن السِّجنِ، ويَسقي سيِّدَه المَلِكَ خَمرًا [471] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/166)، ((تفسير ابن كثير)) (4/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 398). .
وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ.
أي: وأمَّا الآخَرُ فإنَّه يُقتَلُ، ويُعلَّقُ على خشَبةٍ، فتأكلُ الطَّيرُ مِن لحمِ رأسِه وشَحمِه [472] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/166)، ((تفسير ابن كثير)) (4/390)، ((تفسير القاسمي)) (6/178)، ((تفسير السعدي)) (ص: 398). .
قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ.
أي: فُرِغَ من الأمرِ الذي تسألانِ عن تَعبيرِه، وهو واقعٌ لا محالةَ [473] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/167)، ((تفسير ابن كثير)) (4/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 398). .
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42).
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ.
أي: وقال يوسُفُ لصاحِبِه الذي تيقَّنَ أنَّه سينجو من القتلِ، ويخرُجُ مِن السِّجنِ: اذكُرني عند سيِّدِك الملِك، وأخبِرْه بأنِّي مسجونٌ بلا ذنبٍ [474] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/169)، ((تفسير القرطبي)) (9/194)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/113 - 115)، ((تفسير ابن كثير)) (4/391)، ((تفسير السعدي)) (ص: 399)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/278). .
فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ.
أي: فأنسَى الشَّيطانُ الفَتى الذي خرجَ مِن السِّجنِ أن يَذكُرَ يوسُفَ عند المَلِك، كما أوصاه بذلك [475] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/112)، ((تفسير أبي حيان)) (6/280)، ((تفسير ابن كثير)) (4/391)، ((تفسير القاسمي)) (6/179)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/258 - 260)، ((تفسير السعدي)) (ص: 399). وممَّن اختار هذا المعنى المذكور: ابنُ تيميةَ، وأبو حيانَ، وابنُ كثيرٍ، والقاسميُّ، ومحمد رشيد رضا، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وممن قال بهذا القولِ من السلفِ: ابنُ عباسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه، وابنُ إسحاقَ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/441)، ((تفسير ابن كثير)) (4/391). وقيل المراد: فأنسى الشيطانُ يوسفَ ذكر الله تعالى، فلم يَدْعُ الله أن يُخرجَه مِن السجنِ. وممن قال بهذا المعنى: مقاتلُ بن سليمان، وابنُ جرير، والزجَّاجُ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/335)، ((تفسير ابن جرير)) (13/172)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/112). وممن قال بنحو ذلك مِن السلفِ: أنسٌ، وابنُ عباس في روايةٍ عنه، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه، وعكرمة، والثوري. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2149)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/441)، ((تفسير ابن كثير)) (4/391). .
فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.
أي: فمكث يوسُفُ في الحبسِ مَظلومًا مَنسيًّا بضعَ سنينَ [476] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/175)، ((تفسير البغوي)) (2/493)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/258). قال أبو حيان: (الظاهرُ أنَّ قوله: فَلَبِثَ في السِّجْنِ إخبارٌ عن مدَّةِ مُقامِه في السِّجنِ منذ سُجِنَ إلى أن أُخرِج. وقيل: هذا اللُّبثُ هو ما بعد خروجِ الفَتَيين). ((تفسير أبي حيان)) (6/280). وقال الثعلبي: (أكثرُ المفسِّرين على أنَّ البِضعَ في هذه الآيةِ سبعُ سنينَ). ((تفسير الثعلبي)) (5/225). وقال محمد رشيد رضا بعد أن ذكَر أنَّ البِضعَ أكثرُ مَا يُطلَقُ على السَّبْعِ، قال: (وعليه الأكثرونَ في مدَّةِ سَجنِ يوسُفَ من أوَّلِها إلى آخِرِها). ((تفسير المنار)) (12/260). .

الفوائد التربوية:

1- قولُ الله تعالى: قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي فيه أنَّ العالمَ إذا جُهِلَت منزِلتُه في العِلمِ، فوصفَ نفسَه بما هو بصَددِه- وغرَضُه أن يُقتبَسَ منه، ويُنتفَعَ به في الدِّينِ- لم يكُن من بابِ التَّزكيةِ [477] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/470). .
2- عنْ قتادةَ في قوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ قال: (إنَّ المؤمنَ ليَشْكُرُ ما بِه مِن نِعمةِ اللَّهِ، ويَشْكُرُ ما في النَّاسِ مِن نِعمةِ اللَّهِ) [478] يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (4/539). .
3- قولُه تعالى: ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا فيه وُجوبُ الاعترافِ بنِعَمِ الله الدِّينيةِ والدُّنيوية؛ فهو الذي مَنَّ بالعافيةِ والرِّزقِ وتَوابِعِ ذلك، وهو الذي مَنَّ بنِعمةِ الإسلامِ والإيمانِ والطَّاعةِ وتوابِعِ ذلك، فعلى العبدِ أن يعترفَ بها بقَلبِه ويتحدَّثَ بها، ويستعينَ بها على طاعةِ المُنعِم [479] يُنظر: ((فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام)) للسعدي (ص: 51). .
4- قال الله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ من العجَبِ أنَّ هذه الحقيقةَ التي بيَّنَها القرآنُ في مئاتٍ مِن الآياتِ البيِّناتِ تُتلى في السُّوَر الكثيرةِ بالأساليبِ البليغة؛ صار يجهَلُها كثيرٌ مِن الذين يدَّعونَ اتِّباعَ القرآنِ؛ فمنهم من يجهَلُ حقيقةَ التوحيدِ نفسِه، فيتوجَّهونَ إلى غيرِ الله إذا مسَّهم الضرُّ أو عجزوا عن بعضِ ما يحبُّونَ مِن النَّفعِ، فيدعونَهم خاشعينَ راغبينَ مِن دونِ الله، ويُسمُّونَهم شُفَعاءَ ووسائلَ عند الله، كما كان يفعلُ من كان قبلَهم من المُشركين [480] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/255). .
5- أنَّ الدِّينَ المُستقيمَ- الذي عليه جميعُ الرُّسُلِ وأتباعهم- هو عبادةُ اللهِ وَحدَه لا شريكَ له؛ لِقَولِه: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يوسف: 40، فهو الدِّينُ المستقيمُ، المقيمُ للعقائدِ والأخلاقِ والأعمالِ، الذي لا تستقيمُ أمورُ الدِّينِ والدُّنيا إلَّا به [481] يُنظر: ((فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام)) للسعدي (ص: 51). .
6- قولُ الله تعالى حكايةً عن يوسفَ عليه السلام: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فيه أنَّه كما على العبدِ عبوديَّةٌ لله في الرَّخاءِ، فعليه عبوديَّةٌ له في الشِّدَّةِ؛ فيوسفُ عليه السلامُ لم يزَلْ يدعو إلى اللهِ، فلمَّا دخلَ السِّجنَ استمَرَّ على ذلك، ودعا الفتَيَين إلى التَّوحيدِ، ونهاهما عن الشِّركِ، ومِن فِطنتِه عليه السَّلامُ أنَّه لَمَّا رأى فيهما قابليَّةً لدَعوتِه؛ حيث ظنَّا فيه الظَّنَّ الحسَنَ وقالا له: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وأتَياه ليُعبِّرَ لهما رُؤياهما، فرآهما متشَوِّفَينِ لتَعبيرِها عنده- رأى ذلك فرصةً فانتهَزَها، فدعاهما إلى اللهِ تعالى قبل أن يعبِّرَ رُؤياهما؛ ليكونَ أنجحَ لمقصودِه، وأقربَ لحُصولِ مَطلوبِه، وبيَّنَ لهما أوَّلًا أنَّ الذي أوصَلَه إلى الحالِ- التي رأيَاه فيها من الكَمالِ والعِلمِ- إيمانُه وتوحيدُه، وتركُه ملَّةَ مَن لا يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ، وهذا دعاءٌ لهما بالحالِ، ثمَّ دعاهما بالمقالِ، وبيَّنَ فسادَ الشِّركِ وبرهنَ عليه، وحقيقةَ التَّوحيدِ وبرهَنَ عليه [482] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:407). .
7- قولُ الله تعالى حكايةً عن يوسفَ عليه السلام: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فأوردَ يوسفُ عليه السلامُ الدَّليلَ على بُطلانِ مِلَّةِ قَومِهما في صورةِ الاستفهامِ؛ حتى لا تنفِرَ طباعُهما من المفاجأةِ بالدَّليلِ مِن غير استفهامٍ، وهكذا الوجهُ في محاجَّةِ الجاهلِ؛ أن يُؤخَذَ بدرجةٍ يسيرةٍ مِن الاحتجاجِ يقبَلُها، فإذا قَبِلَها لَزِمته عنها درجةٌ أخرى فوقَها، ثمَّ كذلك إلى أن يصِلَ إلى الإذعانِ بالحَقِّ [483] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/278). .
8- قولُه تعالى في دَعوةِ يُوسُفَ للتَّوحيدِ: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فيه الإرشادُ إلى طَريقٍ نافِعٍ مِن طُرُقِ الجِدالِ، والمقابلةِ بينَ الحَقِّ والباطِلِ، وهو بيانُ ما في الحَقِّ مِن الخيرِ والمنافِعِ العاجِلةِ والآجِلةِ، وما في الباطِلِ مِن ضِدِّ ذلك؛ قال تعالى في دعوةِ يوسُفَ للتوحيد: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فذكَرَ ما في الشِّركِ مِن القُبحِ وسُوءِ الحالِ، واتِّباعِ الظُّنونِ الباطِلةِ، وأنَّ كُلَّ طائفةٍ مِن طوائِفِ الشِّركِ لهم مَعبودٌ؛ إمَّا نارٌ أو صَنمٌ، أو قبرٌ أو مَيِّتٌ، أو غيرُ ذلك من المعبوداتِ المتفَرِّقةِ التي لا تَملِكُ لنَفسِها ولا لأهلِها نَفعًا ولا ضَرًّا، ولا مَوتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، وكلُّ طائفةٍ تُضَلِّلُ الأخرى، وكُلُّهم ضالُّونَ هالِكونَ، فهل هذه الأربابُ والمعبوداتُ خيرٌ أم اللهُ الواحِدُ القهَّارُ؟ فذكَرَ له ثلاثةَ أوصافٍ عامَّةٍ عَظيمةٍ:
الأوَّل: أنَّه اللهُ الذي له الأسماءُ والصِّفاتُ العُليا، ومنه النِّعَمُ كُلُّها، وبذلك استحَقَّ أن يكونَ اللهَ المألوهَ، إلهَ أهلِ الأرضِ وأهلِ السَّماءِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ الزخرف: 84.
الثَّاني: أنَّه الواحِدُ المتفَرِّدُ بكُلِّ صِفةِ كَمالٍ، المتوحِّدُ بنُعوتِ الجلالِ والجَمالِ، الذي لا شريكَ له في شَيءٍ مِن الأفعالِ.
الثَّالث: أنَّه القهَّارُ لكُلِّ شَيءٍ؛ فجميعُ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ كُلُّهم مقهورونَ بقُدرتِه، خاضِعونَ لعَظَمتِه، مُتذَلِّلونَ لعِزَّتِه وجَبَروتِه، فمَن هذه صِفاتُه العظيمةُ هو الذي لا تنبغي العبادةُ إلَّا له وحدَه، لا شريكَ له [484] يُنظر: ((فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام)) للسعدي (ص: 50). .
9- قال الله تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ... مِن فوائدِ هذه الآياتِ: أنَّه يُبدأُ بالأهَمِّ فالأهمِّ، وأنَّه إذا سُئِلَ المفتي- وكان السَّائِلُ حاجتُه في غيرِ سؤالِه أشَدُّ- أنَّه ينبغي له أن يُعلِّمَه ما يحتاجُ إليه قبل أن يجيبَ سؤالَه؛ فإنَّ هذا علامةٌ على نُصحِ المعَلِّم وفطنتِه، وحُسنِ إرشادِه وتَعليمِه؛ فإنَّ يوسُفَ لَمَّا سأله الفَتَيانِ عن الرُّؤيا قدَّمَ لهما قبل تعبيرِها دعوتَهما إلى اللهِ وحدَه لا شريكَ له، فقال: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ... [485] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 410). ، وهذه طريقةٌ على كُلِّ ذي عِلمٍ أن يسلُكَها، خاصةً مع الجُهَّال والفَسَقة إذا استفتاه واحدٌ منهم؛ أن يقَدِّمَ الهدايةَ والإرشادَ والمَوعِظةَ والنَّصيحةَ أوَّلًا، ويَدعوَه إلى ما هو أولى به وأوجَبُ عليه ممَّا استفتى فيه، ثمَّ يُفتيَه بعد ذلك [486] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/470). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُ الله تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ أصلٌ في عبارةِ الرُّؤيا [487] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:154). .
2- في قَولِه تعالى: ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إيذانٌ بأنَّ الله تعالى علَّمَه عُلومًا أُخرَى، وهي علومُ الشَّريعةِ والحِكمةِ، والاقتصادِ والأمانةِ [488] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/271). .
3- إذا قيل: إنَّ قَولَ يوسفَ عليه السلامُ: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ظاهِرُه أنَّ يوسفَ عليه السَّلامُ كان داخلًا في هذه الملَّةِ ثمَّ ترَكَها.
فالجوابُ عن ذلك من وجهينِ:
الأوَّل: أنَّ المُرادَ بِالتَّركِ هو عدمُ التَّلَبُّسِ بذلك مِن الأصلِ، لا أنَّه قد كان تَلَبَّس به، ثُمَّ تَرَكه، كما يَدُلُّ عليه قولُه: مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ، فالتركُ كما يكونُ للداخلِ في شيءٍ، ثمَّ ينتقلُ عنه، يكونُ لمن لم يدخُلْ فيه أصلًا، وليس مِن شَرطِه أن يكونَ قد كان داخلًا فيه ثمَّ ترَكَه ورجَع عنه [489] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/456)، ((تفسير الخازن)) (2/528)، ((تفسير الشوكاني)) (3/32)، (( تفسير السعدي)) (ص: 398). ، ويوسفُ عليه السلام لما كان على التَّوحيدِ والإيمانِ الصَّحيحِ؛ صحَّ قَولُه: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فترَكَ ملَّتَهم وأعرض عنهم، ولم يوافِقْهم على ما كانوا عليه [490] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (2/528). .
الثاني: أنَّ يوسفَ عليه السَّلامُ كان عبدًا لهم بِحَسَبِ زعمِهم، واعتقادِهم الفاسدِ، ولعلَّه قبلَ ذلك كان لا يُظهِرُ التَّوحيدَ والإيمانَ؛ خوفًا منهم على سبيلِ التَّقِيَّةِ، ثُمَّ إنَّه أظهرَه في هذا الوقتِ، فكان هذا جاريًا مجرَى تركِ مِلَّةِ أولئكَ الكفرةِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ [491] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/456). .
4- قولُه: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إنَّما قال يوسفُ عليه السَّلامُ ذلك؛ تَرغيبًا لِصاحِبَيه في الإيمانِ والتَّوحيدِ، وتَنفيرًا لهما عمَّا كانا عليه مِن الشِّركِ والضَّلالِ [492] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/277). ، فذَكَر آباءَه؛ لِيُرِيَهما أنَّه مِن بيتِ النُّبوَّةِ؛ لِيُقوِّي رغبَتَهما في الاستماعِ إليه، واتِّباعِ قولِه [493] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/470). .
5- لم يذكُرِ اللهُ تعالى جُحودَ الصَّانعِ إلَّا عن فرعونِ موسى، وأمَّا الذين كانوا في زمَنِ يوسُفَ، فالقرآنُ يدُلُّ على أنَّهم كانوا مقرِّينَ بالله وهم مُشرِكونَ به؛ ولهذا كان خِطابُ يوسُفَ للمَلِك وللعزيزِ ولهم يتضَمَّنُ الإقرارَ بوجودِ الصَّانعِ، كقوله: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [494] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/630). .
6- الحُكمُ لله وحدَه، ورسُلُه يبلِّغونَ عنه؛ فحُكمُهم حُكمُه، وأمرُهم أمرُه، وطاعتُهم طاعتُه، فما حكمَ به الرَّسولُ وأمَرَهم به وشرَعَه مِن الدِّينِ، وجبَ على جميعِ الخلائقِ اتِّباعُه وطاعتُه؛ فإنَّ ذلك هو حكمُ اللهِ على خَلقِه؛ قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وهذه القاعدةُ هي أساسُ دينِ الله تعالى على ألسنةِ جميعِ رسُلِه، لا تختلفُ باختلافِ الأزمِنةِ والأمكِنةِ [495] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/363)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/254). .
7- لم يَكتَفِ يوسفُ عليه السَّلامُ بمجرَّدِ تأويلِ رُؤياهما مع أنَّ فيه دَلالةً على فَضلِه؛ لأنَّهما لَمَّا نعَتاه عليه السَّلامُ بالانتظامِ في سِمْطِ [496]  السِّمطُ: الخيطُ ما دام فيه الخَرَزُ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 154). المحسِنين، وأنَّهما قد عَلِما ذلك حيث قالا: إنَّا نَراك مِن المحسِنين، تَوسَّم عليه السَّلامُ فيهما خيرًا، وتَوجُّهًا إلى قَبولِ الحقِّ، فأراد أن يَخرُجَ آثِرَ ذي أثيرٍ [497] آثِرَ ذي أثيرٍ: أي: أوَّلَ كلِّ شيء. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/575)، ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 341). عمَّا في عُهدتِه مِن دعوةِ الخلقِ إلى الحقِّ، فمَهَّد قبلَ الخوضِ في ذلك مُقدِّمةً تَزيدُهما عِلمًا بعِظَمِ شأنِه، وثقةً بأمرِه، ووُقوفًا على عُلوِّ طبَقتِه في بَدائعِ العُلومِ؛ تَوسُّلًا بذلك إلى تحقيقِ ما يتَوخَّاه، وقد تَخلَّص إليها مِن كلامِهما [498]  يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/275).
8- قولُ الله تعالى: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ فيه أنَّ عِلمَ التَّعبيرِ مِن العُلومِ الشَّرعيَّة، وأنَّه يُثابُ الإنسانُ على تعلُّمِه وتعليمِه، وأنَّ تعبيرَ المَرائي داخِلٌ في الفتوَى؛ فلا يجوزُ الإقدامُ على تعبيرِ الرُّؤيا من غيرِ عِلمٍ [500] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:407). .
9- قولُ الله تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فيه أنَّ من وقع في مكروهٍ وشِدَّةٍ، لا بأس أن يستعينَ بمن له قدرةٌ على تخليصِه، أو الإخبارِ بحالِه، وأنَّ هذا لا يكونُ شكوى للمخلوقِ؛ فإنَّ هذا من الأمورِ العاديَّةِ التي جرى العُرفُ باستعانةِ النَّاسِ بعضِهم ببعضٍ [501] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:407). .
10- في قَولِه تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ دليلٌ على جوازِ إطلاقِ اسمِ (الربِّ)- مع الإضافةِ- على غيرِ الله تعالى، وكذا قولُه تعالى: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، أمَّا بلا إضافةٍ فلا يجوزُ إطلاقُه إلَّا على اللهِ فقط [502] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/179). .
11- في قَولِه تعالى: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ إشارةٌ إلى أنَّ نسيانَ الخيرِ يكونُ مِن الشَّيطانِ [503] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (5/183). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
- قولُه: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ فيه تأخيرُ الفاعلِ عن المفعولِ؛ للاهتمامِ بالمقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ؛ ليَتمكَّنَ عند النَّفسِ حينَ وُرودِه عليها فضلَ تمكُّنٍ [504] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/275). .
- قولُه: قَالَ أَحَدُهُمَا استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالِ مَن يقولُ: ما صَنَعا بعدَما دخَلا معه السِّجنَ؟ فأُجيبَ بأنَّه: قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي [505] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/275). .
- قولُه: إِنِّي أَرَانِي فيه التَّعبيرُ بالمضارِعِ أَرَانِي دون الماضي (رَأيتُني)؛ لاستِحْضارِ الصُّورةِ الماضيَةِ [506] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/275). .
- قولُه: أَعْصِرُ خَمْرًا يَعني عِنَبًا؛ ففيه تَسْميةُ الشَّيءِ بما يَؤُولُ إليه؛ لِكَونِه المقصودَ مِن العَصْرِ [507] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/468)، ((تفسير أبي حيان)) (6/275)، ((تفسير أبي السعود)) (4/275). .
- قولُه: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ فيه إجراءُ الضَّميرِ مَجرى اسمِ الإشارةِ (ذلك)؛ فإنَّ اسمَ الإشارةِ يُشارُ به إلى مُتعدِّدٍ، والسِّرُّ في المصيرِ إلى إجراءِ الضَّميرِ مَجرى اسمِ الإشارةِ مع أنَّه لا حاجةَ إليه بعدَ تأويلِ المرجِعِ بما ذُكِر أو بما رُئي: أنَّ الضَّميرَ إنَّما يتَعرَّضُ لنفسِ المرجعِ مِن حيثُ هو مِن غيرِ تعرُّضٍ لحالٍ مِن أحوالِه؛ فلا يتَسنَّى تأويلُه بأحَدِ الاعتبارَينِ إلَّا بإجرائِه مَجرى اسمِ الإشارةِ الَّذي يدُلُّ على المشارِ إليه بالاعتبارِ الَّذي جَرى عليه في الكلامِ [508] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/275). .
- قولُه: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ تعليلٌ للمُستفادِ مِن نَبِّئْنَا وهو عَرْضُ رُؤْياهما عليه، واستِفْسارُها منه عليه السَّلامُ [509] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/276)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/270). .
2- قولُه تعالى: قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
- قولُه: قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا... هذه الجملةُ جوابٌ عن كلامِهما؛ ففُصِلتْ- أي: لم تُعطَفْ على التي قبلَها- على أسلوبِ حِكايةِ جُمَلِ التَّحاوُرِ [510] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/270). .
- وقولُه: لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ... فيه تَخصيصُ الطَّعامِ بالذِّكرِ؛ لكونِه عَريقًا في ذلك بحسَبِ الحالِ، مع ما فيه مِن مُراعاةِ حُسنِ التَّخلُّصِ إليه ممَّا استَعبَراه مِن الرُّؤيَيَيْنِ المتعلِّقتَين بالشَّرابِ والطَّعامِ [511] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/276). .
- قولُه: ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ما في اسْمِ الإشارةِ ذَلِكُمَا مِن مَعنى البُعدِ؛ للإشارةِ إلى عُلوِّ درَجتِه، وبُعدِ مَنزلتِه [512] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/277). .
- وجُملةُ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ تعليلٌ لِمَا قبْلَها، أي: علَّمَني ذلك؛ لأنِّي ترَكتُ مِلَّةَ أولئك [513] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/470)، ((تفسير البيضاوي)) (3/164)، ((تفسير أبي حيان)) (6/277)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/271). ، فأخْبَر بأنَّ سَببَ عِنايةِ اللهِ به أنَّه انفرَدَ في ذلك المكانِ بتَوحيدِ اللهِ، وترْكِ مِلَّةِ أهلِ المدينةِ، فأرادَ الله اختيارَه لدَيهم [514] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/271). .
- قولُه: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فيه التَّعبيرُ عن كُفرِهم باللهِ تعالى بسَلبِ الإيمانِ به؛ للتَّنصيصِ على أنَّ عِبادتَهم له تعالى مع عِبادةِ الأوثانِ ليسَت بإيمانٍ به تعالى، كما هو زَعمُهم الباطلُ [515] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/277). .
- قولُه: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ فيه تَكْرارُ هُمْ على سَبيلِ التَّوكيدِ، وحَسَّن ذلك الفَصْلُ [516] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/277). ؛ وقيل: للدَّلالةِ على أنَّهم خُصوصًا كافِرون بالآخرةِ، وأنَّ غيرَهم كانوا قومًا مؤمِنين بها، وهم الَّذين على مِلَّةِ إبراهيمَ [517] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/470). وذكَر أبو حيان كلامَ الزمخشري، ثم قال: (وليسَت عندنا «هم» تدلُّ على الخصوصِ). ((تفسير أبي حيان)) (6/277) قال السمين الحلبي: (قلتُ: لم يَقُل الزمخشري: إن «هم» تدلُّ على الخصوصِ، وإنَّما قال: تكرير «هم» للدلالة، فالتكريرُ هو الذي أفاد الخصوصَ، وهو معنًى حَسَنٌ فهِمه أهلُ البيانِ). ((الدر المصون)) (6/497). .
3- قولُه تعالى: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ
- قُدِّم ذِكرُ تَركِه لمِلَّتِهم على ذِكرِ اتِّباعِه لملَّةِ آبائِه؛ لأنَّ التَّخلِيَةَ متقدِّمةٌ على التَّحليةِ [518] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/277). .
- وجملةُ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ في قوَّةِ البيانِ لِمَا اقتَضَتْه جُملَةُ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي مِن كَونِ التَّوحيدِ صار كالسَّجيَّةِ لهم؛ عُرِف بها أسلافُه بينَ الأممِ، وعَرَّفهم بها لِنَفْسِه في هذه الفرصةِ [519] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/273). .
- وصيغةُ الجُحودِ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ تَدُلُّ على المبالَغةِ في انتفاءِ الوصفِ عن الموصوفِ [520] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/273). .
- و(مِن) في قولِه: مِنْ شَيْءٍ لتأكيدِ النَّفيِ، وأُدخِلتْ على المقصودِ بالنَّفيِ [521] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/273). .
- وجملةُ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا زيادةٌ في الاستئنافِ والبيانِ؛ لقصدِ الترغيبِ في اتِّباعِ دِينِ التَّوحيدِ بأنَّه فضلٌ [522] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/273). .
- قولُه: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ فيه وضْعُ الظَّاهِرِ مَوضِعَ الضَّميرِ الرَّاجِعِ إلى النَّاسِ- حيث لم يَقُلْ: (أَكْثرَهم)-؛ لزيادةِ توضيحٍ وبَيانٍ، ولِقَطعِ تَوهُّمِ رُجوعِه إلى المجموعِ الموهِمِ لعدَمِ اختِصاصِ غيرِ الشَّاكرِ بالنَّاسِ [523] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/278). .
4- قولُه تعالى: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
- قولُه: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ناداهُما بعُنوانِ الصُّحبَةِ؛ ليُقْبِلا عليه ويَقْبَلا مَقالَتَه [524] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/278). - وذلك على أحدِ وَجْهي التفسيرِ- والجملةُ استئنافٌ ابتدائيٌّ، مصدَّرةٌ بتوجيهِ الخطابِ إلى الفَتَيَيْنِ بطَريقِ النِّداءِ المستَرعِي سَمْعَهما إلى ما يَقولُه؛ للاهتمامِ به [525] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/274). .
- قولُه: أَأَرْبابٌ فيه استفهامٌ تقريريٌّ؛ أراد به تَقْريرَهما بإبطالِ دينِهِما [526] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/274). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، فإنَّه لما قال: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ، قابَل تَفرُّقَ أربابِهم بقولِه: الْوَاحِدُ، وجاء بصِفةِ القهَّارُ؛ تَنبيهًا على أنَّه تعالى له هذا الوصفُ الَّذي مَعناه الغَلَبةُ والقُدرةُ التَّامَّةُ، وإعلامًا بعُرُوِّ أصنامِهم عن هذا الوصفِ الَّذي لا يَنبَغي أن يُعبَدَ إلَّا المتَّصِفُ به [527] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/278). .
5- قولُه تعالى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
- قولُه: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا فيه قَصْرٌ إضافيٌّ، ومعنى قَصْرِها على أنَّها أسماءٌ، أنَّها أسماءٌ لا مُسمَّياتِ لها؛ فليس لها في الوجودِ إلَّا أسماؤُها [528] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/276). .
- وفي قولِه: سَمَّيْتُمُوهَا لم يَذكُرِ المسمَّياتِ؛ تربيةً لِمَا يقتَضيه المقامُ من إسقاطِها عن مَرتَبةِ الوُجودِ، وإيذانًا بأنَّ تَسميَتَهم في البُطلانِ حيث كانت بلا مُسمًّى، كعِبادتِهم حيث كان بلا مَعبودٍ [529] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/278). .
- قولُه: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فيه كنايةٌ عن بُطْلانِها؛ إذ إنزالُ السُّلطانِ كنايةٌ عن إيجادِ دَليلِ إلهيَّتِها في شَواهِدِ العالَمِ، وليس ثَمَّةَ سُلطانٌ مُنزَّلٌ مِن اللهِ تعالى [530] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/276). .
- وجملةُ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ انتقالٌ مِن أدلَّةِ إثباتِ انْفِرادِ اللهِ تعالى بالإلهيَّةِ إلى التَّعليمِ بامْتِثالِ أمْرِه ونَهْيِه؛ لأنَّ ذلك نتيجةُ إثباتِ الإلهيَّةِ والوَحْدانيَّةِ له؛ فهي بيانٌ لجُملَةِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ مِن حيث ما فيها مِن مَعْنى الحُكمِ [531] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/277). .
- وجملةُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ خُلاصةٌ لِما تَقدَّم مِن الاستدلالِ، أي: ذلك الدِّينُ لا غَيرُه ممَّا أنتُم عليه وغيرُكم، وهو بمنزلةِ رَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ؛ لقولِه: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [532] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/277). .
6- قولُه تعالى: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
- قوله: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ فيه افتتاحُ خِطابِهما بالنِّداءِ؛ اهتمامًا بما يُلقِيه إليهما مِن التعبيرِ، وخاطبَهما بوصْفِ صاحبي السِّجنِ أيضًا [533] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/277). .
- قولُه: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ، إنَّما أخبَرَهما عليه السَّلامُ بذلك تَحقيقًا لِتَعبيرِه وتأكيدًا له. وفيه التَّعبيرُ عمَّا رَأَيَاه مِن الرُّؤيَيَيْنِ بالأمرِ، وعن طلَبِ تَأويلِه بالاستفتاءِ؛ تَهويلًا لأمرِه، وتفخيمًا لشأنِه؛ إذِ الاستفتاءُ إنَّما يَكونُ في النَّوازِلِ المشْكِلَةِ الحُكمِ، المبهَمَةِ الجوابِ، ووحَّد الأمرَ مع تَعدُّدِ رُؤياهما؛ لأنَّه وارِدٌ على حسَبِ ما وحَّدَه في قولِهما: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [534] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/279). .
- وفيه أيضًا إيثارُ صيغةِ الاستِقْبالِ تَسْتَفْتِيَانِ مع سَبْقِ استفتائِهما في ذلك؛ لأنَّهما بصَددِه إلى أن يَقضيَ عليه السَّلامُ مِن الجوابِ وَطَرَه [535] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/279). .
7- قولُه تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
- قولُه: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ، فيه إيثارُ التَّعبيرِ بهذا عن صيغةِ المضارعِ (أنَّه سيَنجو)؛ مبالَغةً في الدَّلالةِ على تحقُّقِ النَّجاةِ حسَبما يُفيدُه قولُه تعالى: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ، وهو السِّرُّ في إيثارِ ما عليهِ النَّظمُ الكريمُ، على أن يُقالَ: (للَّذي ظنَّه ناجيًا)، وإنَّما ذُكِر بوَصْفِ النَّجاةِ؛ تمهيدًا لِمَناطِ التَّوصيَةِ بالذِّكرِ عند الملِكِ [536] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/280). .