موسوعة الفرق

المَبحثُ الثَّالِثُ: رَدُّ العُلَماءِ على الجَهْميَّةِ في مَذهَبِهم في الأسماءِ والصِّفاتِ الإلهيَّةِ


قال ابنُ تيميَّةَ: (لَمَّا ظهر هؤلاء ‌الجَهْميَّةُ أنكر السَّلَفُ والأئمَّةُ مقالتَهم، وردُّوها وقابلوها بما تستحقُّ من الإنكارِ الشَّرعيِّ، وكانت خفيَّةً إلى أن ظهرت وقَوِيت شوكةُ ‌الجَهْميَّةِ في أواخِرِ المائةِ الأُولى وأوائِلِ الثَّانيةِ في دولةِ أولادِ الرَّشيدِ، فامتَحنوا النَّاسَ المحنةَ المشهورةَ التي دَعَوا النَّاسَ فيها إلى القَولِ بخَلقِ القُرآنِ، ولوازِمِ ذلك: مِثلُ إنكارِ الرُّؤيةِ والصِّفاتِ، بناءً على أنَّ القرآنَ هو من جملةِ الأعراضِ، فلو قام بذاتِ اللهِ لقامت به الأعراضُ، فيلزَمُ التشبيهُ والتَّجسيمُ) [145] ((مجموع الفتاوى)) (6/ 35). .
وممَّا ردَّ به السَّلَفُ مَذهَبَ الجَهْميَّةِ في الأسماءِ والصِّفاتِ:
1- نَفيُ الأسماءِ والصِّفاتِ الإلهيَّةِ يستلزِمُ نَفيَ وُجودِ اللهِ سُبحانَه وتعالى
قال ابنُ تيميَّةَ: (حقيقةُ قولِهم جُحودُ الصَّانعِ وجُحودُ ما أخبر به عن نفسِه على لسانِ رسولِه، بل وجميعِ الرُّسُلِ، ولهذا قال عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ: إنَّا لنحكي كلامَ اليهودِ والنَّصارى، ولا نستطيعُ أن نحكيَ كلامَ الجَهْميَّةِ. وقال غيرُ واحِدٍ من الأئمَّةِ: أنَّهم أكفَرُ من اليهودِ والنَّصارى، وبهذا كفَّروا من يقولُ: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ، وإنَّ اللهَ لا يُرى في الآخرةِ، وإنَّ اللهَ ليس على العَرشِ، وإنَّه ليس له عِلمٌ ولا قدرةٌ ولا رحمةٌ ولا غضبٌ، ونحوُ ذلك من صفاتِه) [146] ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/344). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (كلامُ اللهِ وعِلمُه وقُدرتُه وغيرُ ذلك من صفاتِه لا يُطلَقُ عليه عِندَ السَّلَفِ والأئمَّةِ القَولُ بأنَّه اللهُ، ولا يُطلَقُ عليه بأنَّه غيرُ اللهِ؛ لأنَّ لفظَ الغيرِ قد يرادُ به ما يُبايِنُ غيرَه، وصفةُ اللهِ لا تباينُه، ويرادُ به ما لم يكُنْ إيَّاه، وصفةُ اللهِ ليست إيَّاه، ففي أحَدِ الاصطلاحَينِ يقالُ: إنَّه غيرٌ، وفي الاصطلاحِ الآخَرِ لا يقالُ: إنَّه غيرٌ؛ فلهذا لا يُطلَقُ أحدُهما إلَّا مقرونًا ببيانِ المرادِ؛ لئلَّا يقولَ المبتَدِعُ: إذا كانت صِفةُ اللهِ غيرَه، فكُلُّ ما كان غيرَ اللهِ فهو مخلوقٌ، فيتوسَّلُ بذلك إلى أن يجعلَ عِلمَ اللهِ وقُدرتَه وكلامَه ليس هو صفةً قائمةً به، بل مخلوقةٌ في غيرِه؛ فإنَّ هذا فيه من تعطيلِ صفاتِ الخالِقِ وجَحدِ كمالِه ما هو من أعظَمِ الإلحادِ، وهو قولُ الجَهْميَّةِ الذي كفَّرهم السَّلَفُ والأئمَّةُ تكفيرًا مُطلقًا، وإن كان الواحِدُ المُعيَّنُ لا يَكفُرُ إلَّا بَعدَ قيامِ الحُجَّةِ التي يَكفُرُ تاركُها) [147] ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/111). .
وقال أيضًا: (الأئمَّةُ كانوا يَرُدُّون ‌ما ‌أظهَرَته الجَهْميَّةُ من نفيِ الرُّؤيةِ وخَلقِ القرآنِ، ويذكُرونَ ما تُبطِنُه الجَهْميَّةُ ممَّا هو أعظَمُ من ذلك؛ أنَّ اللهَ ليس على العَرشِ، ويجعَلون هذا منتهى قولِهم، وأنَّ ذلك تعطيلٌ للصَّانعِ وجُحودٌ للخالِقِ؛ إذ كانوا لا يتظاهَرونَ بذلك بَينَ المُؤمِنينَ كما كانوا يُظهِرون مسألةَ الكلامِ والرُّؤيةِ؛ لأنَّه قد استقرَّ في قُلوبِ المُسلِمينَ بالفِطرةِ الضَّروريَّةِ التي خُلِقوا عليها وبما جاءتهم به الرُّسُلُ من البيِّناتِ والهُدى، وبما اتَّفق عليه أهلُ الإيمانِ من ذلك ممَّا لا يمكِنُ الجَهْميَّةَ إظهارُ خِلافِه وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 115] ) [148] ((بيان تلبيس الجهمية)) (3/530). .
2- نفيُ أسماءِ اللهِ وصفاتِه مُخالَفةٌ لِما جاء به الوَحيُ
قال ابنُ تيميَّةَ: (المشهورُ من مَذهَبِ أحمدَ وعامَّةِ أئمَّةِ السُّنَّةِ تكفيرُ الجَهْميَّةِ، وهم المُعطِّلةُ لصفاتِ الرَّحمنِ؛ فإنَّ قولهم صريحٌ في مُناقَضةِ ما جاءت به الرُّسُلُ من الكِتابِ) [149] ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/344). .
وقال أيضًا: (تفسيرُ التوحيدِ بما يستلزِمُ نَفيَ الصِّفاتِ أو نَفيَ عُلُوِّه على العَرشِ، بل بما يستلزِمُ نَفيَ ما هو أعمُّ من ذلك، فهو شيءٌ ابتدعته الجَهْميَّةُ لم ينطِقْ به كِتابٌ ولا سُنَّةٌ ولا إمامٌ) [150] ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/133). .
ولهذه المقولةِ الشَّنيعةِ والمُخالَفةِ الصَّريحةِ لِما عُلمَ بالتَّواتُرِ من نصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، كَفَّر العُلَماءُ من قال بهذا القَولِ.
قال أبو الحَسَنِ الأشعَريُّ: (زعَمَت الجَهْميَّةُ أنَّ اللهَ تعالى لا عِلمَ له ولا قُدرةَ، ولا حياةَ، ولا سَمْعَ ولا بَصَرَ له، وأرادوا أن يَنفوا أنَّ اللهَ تعالى عالمٌ قادرٌ حيٌّ سميعٌ بصيرٌ، فمنعَهم خوفُ السَّيفِ من إظهارِهم نَفيَ ذلك، فأتوا بمعناه) [151] ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 143). .
وقال أيضًا: (نفى الجَهْميَّةُ أن يكونَ للهِ تعالى وَجهٌ كما قال، وأبطَلوا أن يكونَ له سمعٌ وبصَرٌ وعَينٌ، ‌ووافقوا ‌النَّصارى؛ لأنَّ النَّصارى لم تُثبِتِ اللهَ سميعًا بصيرًا إلَّا على معنى أنَّه عالمٌ، وكذلك قالت الجَهْميَّةُ، ففي حقيقةِ قولهم أنَّهم قالوا: نقولُ: إنَّ اللهَ عالمٌ، ولا نقولُ: سميعٌ بصيرٌ، على غيرِ معنى عالمٍ، وذلك قولُ النَّصارى) [152] ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 122). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (التجَهُّمُ المحْضُ، وهو ‌نفيُ ‌الأسماءِ والصِّفاتِ، كما يُحكى عن جَهْمٍ، والغاليةِ من الملاحدةِ، ونحوِهم ممَّن ‌نفى أسماءَ اللهِ الحُسنى: كُفرٌ بيِّنٌ مُخالِفٌ لِما عُلِم بالاضطرارِ من دينِ الرَّسولِ) [153] ((النبوات)) (1/ 578). .
3- الزَّعمُ بأنَّ إثباتَ الأسماءِ والصِّفاتِ يقتضي تشبيهَ اللهِ بخَلقِه لاشتراكِهما في الاسمِ حُجَّةٌ باطلةٌ
فهم يقولونَ: إنَّنا إذا أثبَتْنا هذه الأسماءَ الحُسنى فإنَّنا نكونُ قد شبَّهناه بالموجوداتِ، وقال غُلاةُ الغلاةِ منهم: لا يوصَفُ اللهُ بالنَّفيِ ولا الإثباتِ؛ لأنَّ في كُلٍّ منهما تشبيهًا له؛ فرارًا -بزعمِهم- من تشبيهِه بالموجوداتِ إذا أثبَتوا، أو تشبيهِه بالمعدوماتِ إذا نفَوا؛ فكِلا المسلكينِ قائمٌ على زَعمِ نَفيِ التَّشبيهِ [154] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/ 35). .
وهذه حُجَّةٌ مُتهافتةٌ؛ فإنَّ تسميَّةَ الخَلقِ ببَعضِ أسامي اللهِ عزَّ وجلَّ لا يقتضي تشبيهًا أو تمثيلًا؛ لأنَّ معناها في حقِّ اللهِ عزَّ وجلَّ على ما يليقُ به، وفي حقِّ خَلقِه على ما يليقُ بهم.
قال ابنُ خُزَيمةَ: (ليس في تسميتِنا بعضَ الخَلقِ ببَعضِ أسامي اللهِ بموجِبٍ عِندَ العُقَلاءِ الذين يعقلونَ عن اللهِ خِطابَه أن يقالَ: إنَّكم شبَّهتُم اللهَ بخَلقِه؛ إذ أوقعتُم أساميَ اللهِ على خلقِه، وهل يمكِنُ عِندَ هؤلاء الجُهَّالِ حلُّ هذه الأسامي من المصاحِفِ أو محوُها من صُدورِ أهلِ القُرآنِ؟... أليس قد أعلَمَنا مُنزِلُ القرآنِ على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه المَلِكُ، وسمَّى بعضَ عَبيدِه مَلِكًا؟ وخبَّرَنا أنَّه السَّلامُ ‌وسمَّى ‌تحيةَ ‌المُؤمِنينَ ‌بينهم ‌سلامًا في الدُّنيا وفي الجنَّةِ، فقال: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [الأحزاب: 44] ؟ ونبيُّنا المصطفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد كان يقولُ يومَ فراغِه مِن تسليمِ الصَّلاةِ: ((اللَّهُمَّ أنت السَّلامُ، ومنك السَّلامُ )) [155] أخرجه مسلم (591) من حديث ثوبان رضي الله عنه. وأخرجه مسلم (592) من حديث عائشة رضي الله عنها ، وقال عزَّ وجلَّ: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [النساء: 94] ، فثبَت بخبرِ اللهِ أنَّ اللهَ هو السَّلامُ، كما في قَولِه: السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر: 23] ، وأوقع هذا الاسمَ على غيرِ الخالِقِ البارئِ) [156] ((كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب)) (1/51). .
4- أنَّ الجِسميَّةَ التي يزعُمونَها حينما يُثبِتون الصِّفاتِ للهِ تعالى إنَّما هي من بابِ تغطيةِ إلحادِهم ومُروقِهم عن الدِّينِ.
ولن يجِدوا كلامًا لعُلَماءِ المُسلِمينَ فضلًا عن صحابةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فضلًا عن الكِتابِ والسُّنَّةِ، يشيرُ إلى هذا المفهومِ الذي تنبَّهوا له بزَعمِهم، ونفَوا بموجِبِه صفاتِ اللهِ وأسماءَه.
إنَّ كَلِمةَ الجِسميَّة للهِ تعالى نفيًا أو إثباتًا هي من الألفاظِ المختَرَعةِ التي لم تَرِدْ في الكِتابِ ولا في السُّنَّةِ، فهي لفظٌ عامٌّ يحتاجُ إلى بيانٍ وتوضيحٍ ممَّن يقولُ به؛ ففي إطلاقِه حقٌّ وباطِلٌ، ويجِبُ على القائِلِ به تفصيلُ ما يريدُ [157] يُنظر: ((فرق معاصرة)) لغالب عواجي (3/1137-1145). .
قال ابنُ القيِّمِ: (إن أردتُم بالجسمِ ما يُوصَفُ بالصِّفاتِ، ويُرى بالأبصارِ، ويتكلَّمُ ويُكلِّمُ، ويسمَعُ ويُبصِرُ، ويرضى ويغضَبُ، فهذه المعاني ثابتةٌ للهِ تعالى، وهو موصوفٌ بها، فلا نَنفيها عنه بتسميتِكم للموصوفِ بها جِسمًا، كما أنَّا لا نَسُبُّ الصَّحابةَ لأجلِ تسميَّةِ الرَّوافِضِ لِمن يحبُّهم ويواليهم نواصِبَ، ولا نَنفي قَدَرَ الرَّبِّ ونُكذِّبُ به لأجلِ تسميةِ القَدَريَّةِ لمَن أثبتَه جَبريًّا، ولا برَدِّ ما أخبَرَ به الصَّادِقُ عن اللهِ وأسمائِه وصفاتِه لتسميةِ أعداءِ الحديثِ لنا حَشَويَّةً، ولا نجحَدُ صفاتِ خالِقِنا وعُلُوَّه على خَلقِه واستواءَه على عَرشِه لتسميةِ الفِرعَونيَّةِ المُعطِّلةِ لمن أثبت ذلك مجسِّمًا مُشَبِّهًا.
فإن كان تجسيمًا ثبوتُ استوائِه
على عَرشِه إنِّي إذًا لمُجَسِّمُ
وإن كان تشبيهًا ثبوتُ صفاتِه
فمِن ذلك التَّشبيهِ لا أتكَتَّمُ
وإن كان تنزيهًا جُحودُ استوائِه
وأوصافِه أو كونِه يتكَلَّمُ
فعن ذلك التَّنزيهِ نزَّهتُ ربَّنا
بتوفيقِه واللهُ أعلى وأعظَمُ) [158] ((مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم)) اختصره الموصلي (ص: 140). .

انظر أيضا: