الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: يَمينُ الشَّاهِدِ


اختَلَفَ الفُقَهاءُ في حُكمِ استِحلافِ الشَّاهِدِ على صِدقِ شَهادَتِه، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يَجوزُ للقاضي تَحليفُ الشَّاهِدِ اليَمينَ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ [1575] ((المبسوط)) للسرخسي (16/ 119)، ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 473). ويُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 198، 199). ، والشَّافِعيَّةِ [1576] ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (13/ 161)، ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 353)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/ 476). ، والحَنابِلةِ [1577] ((الفروع)) لابن مفلح (11/ 277)، ((الإنصاف)) للمرداوي (30/ 109)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (6/ 709). ، وقَولٌ عِندَ المالِكيَّةِ [1578] ((النوادر والزيادات)) لابن أبي زيد القيرواني (8/ 50)، ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (2/ 216). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
قَولُه تعالى: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ [البقرة: 282] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
إلزامُ الشَّاهِدِ بالحَلِفِ ضَرَرٌ عليه، وقد نَفَتِ الآيةُ ذلك [1579] يُنظر ((السيل الجرار)) للشوكاني (4/ 166، 193). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((لَو أُعطيَ النَّاسُ بدَعاويهم لادَّعى ناسٌ دِماءَ ناسٍ وأموالَهم، ولَكِنَّ البَيِّنةَ على المُدَّعي، واليَمينَ على المُدَّعى عليهـ)) [1580] أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711) واللفظ له. .
2- عن ابنِ عَبَّاسٍ t ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: البَيِّنةُ على المُدَّعي، واليَمينُ على مَن أنكَرَ)) [1581] أخرجه ابنُ أبي عاصم في ((الديات)) (ص: 40)، والبيهقي (21243) واللفظ له. حَسَّنه النووي في ((الأربعون النووية)) (33)، وحَسَّنه بطُرُقِه وشواهدِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((زاد المعاد)) (5/330)، وقال محمَّدُ ابنُ عبدِ الهادي في ((حاشية الإلمام)) (648): إسنادُه حَسَنٌ صَحيحٌ، وذَكَر ثبوتَه الشوكاني في ((السيل الجرار)) (2/411). وذهب إلى تصحيحِه ابنُ الملقِّن في ((البدر المنير)) (9/450)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (2685)، وصَحَّح إسنادَه ابنُ حَجَر في ((بلوغ المرام)) (421)، والشوكاني في ((الدراري المضية)) (377)، وقال ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/226): أصلُه في الصَّحيحَينِ. وأصلُه في صحيح البخاري (4552)، ومسلم (1711) دونَ قَولِه: "واليمينُ على من أنكَر"، ولفظُ مُسلمٍ: عن ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَو يُعطى النَّاسُ بدَعواهم لادَّعى ناسٌ دِماءَ رِجالٍ وأموالَهم، ولَكِنَّ اليَمينَ على المُدَّعى عليهـ)). .
3- عَنِ الأشعَثِ بنِ قَيسٍ: أنَّه كانَ بَينَه وبَينَ رَجُلٍ خُصومةٌ، قال: فاختَصَما إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال لي: ((شاهِداكَ، أو يَمينُهـ)) [1582] لفظُه: قال عَبدُ اللهِ: ((مَن حَلَفَ على يَمينٍ يَستَحِقُّ بها مالًا لَقيَ اللهَ وهو عليه غَضبانُ، ثُمَّ أنزَلَ اللهُ تَصديقَ ذلك: إنَّ الذينَ يَشتَرونَ بعَهدِ اللهِ وأيمانِهم [آل عمران: 77] إلى عَذابٌ أليمٌ [آل عمران: 77] ، ثُمَّ إنَّ الأشعَثَ بنَ قَيسٍ خَرَجَ إلَينا، فقال: ما يُحَدِّثُكُم أبو عَبدِ الرَّحمَنِ؟ فحَدَّثناه بما قال، فقال: صَدَقَ، لَفيَّ أُنزِلَت؛ كانَ بَيني وبَينَ رَجُلٍ خُصومةٌ في شَيءٍ، فاختَصَمنا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: شاهِداكَ أو يَمينُه، فقُلتُ لَه: إنَّه إذًا يَحلِفُ ولا يُبالي! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن حَلَفَ على يَمينٍ يَستَحِقُّ بها مالًا، وهو فيها فاجِرٌ، لَقيَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ وهو عليه غَضبانُ، فأنزَلَ اللهُ تَصديقَ ذلك، ثُمَّ اقتَرَأ هذه الآيةَ)). أخرجه البخاري (2669، 2670) واللفظ له، ومسلم (138). ، وفي لَفظٍ ((شُهودُكَ، أو يَمينُهـ)) [1583] لَفظُه: ((مَن حَلَفَ على يَمينٍ يَقتَطِعُ بها مالَ امرِئٍ مُسلِمٍ، هو عليها فاجِرٌ، لَقيَ اللهَ وهو عليه غَضبانُ، فأنزَلَ اللهُ تعالى: إنَّ الذينَ يَشتَرونَ بعَهدِ اللهِ وأيمانِهم ثَمَنًا قَليلًا [آل عمران: 77] الآيةَ، فجاءَ الأشعَثُ، فقال: ما حَدَّثَكُم أبو عَبدِ الرَّحمَنِ؟ فيَّ أُنزِلَت هذه الآيةُ، كانَت لي بئرٌ في أرضِ ابنِ عَمٍّ لي، فقال لي: شُهودَكَ، قُلتُ: ما لي شُهودٌ، قال: فيَمينُه، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إذًا يَحلِفَ، فذَكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا الحَديثَ، فأنزَلَ اللهُ ذلك تَصديقًا لهـ)). أخرجه البخاري (2356، 2357). ، وفي لَفظٍ: ((بَيِّنَتُكَ، أو يَمينُهـ)) [1584] لَفظُه: عَن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن حَلَفَ يَمينَ صَبرٍ ليَقتَطِعَ بها مالَ امرِئٍ مُسلِمٍ، لَقيَ اللهَ وهو عليه غَضبانُ، فأنزَلَ اللهُ تَصديقَ ذلك: إنَّ الذينَ يَشتَرونَ بعَهدِ اللهِ وأيمانِهم ثَمَنًا قَليلًا أولَئِكَ لا خَلاقَ لَهم في الآخِرةِ إلى آخِرِ الآيةِ، قال: فدَخَلَ الأشعَثُ بنُ قَيسٍ، وقال: ما يُحَدِّثُكُم أبو عَبدِ الرَّحمَنِ؟ قُلنا: كَذا وكَذا، قال: فيَّ أُنزِلَت؛ كانَت لي بئرٌ في أرضِ ابنِ عَمٍّ لي، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بَيِّنَتُكَ أو يَمينُه، فقُلتُ: إذًا يَحلِفَ يا رَسولَ اللهِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن حَلَفَ على يَمينِ صَبرٍ، يَقتَطِعُ بها مالَ امرِئٍ مُسلِمٍ، وهو فيها فاجِرٌ، لَقيَ اللهَ وهو عليه غَضبانُ)). أخرجه البخاري (4549، 4550). وأخرجه مسلم (139) مِن حَديثِ وائِلِ بنِ حُجرٍ، ولَفظُه: (( كُنتُ عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأتاه رَجُلانِ يَختَصِمانِ في أرضٍ، فقال أحَدُهما: إنَّ هذا انتَزى على أرضي يا رَسولَ اللهِ، في الجاهِليَّةِ -وهو امرُؤُ القَيسِ بنُ عابِسٍ الكِنديُّ، وخَصمُه رَبيعةُ بنُ عِبدانَ- قال: بَيِّنَتُكَ، قال: ليس لي بَيِّنةٌ، قال: يَمينُه، قال: إذَن يَذهَبَ بها، قال: ليس لَكَ إلَّا ذاكَ، قال: فلَمَّا قامَ ليَحلِفَ، قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَنِ اقتَطَعَ أرضًا ظالِمًا لَقيَ اللهَ وهو عليه غَضبانُ)). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّتِ الأحاديثُ على أنَّ اليَمينَ تُوَجَّهُ على المُدَّعى عليه دونَ غَيرِه؛ لأنَّ (أل) في الأحاديثِ تُفيدُ الاستِغراقَ، ولَيسَ وراءَ الكُلِّ شَيءٌ [1585] يُنظر: ((عقود الزبرجد)) للسيوطي (2/ 446). ، فجَميعُ الأيمانِ في بابِ الخُصوماتِ تُوَجَّهُ على المُدَّعى عليه.
ثالثًا: الشَّاهِدُ إن كانَ عَدلًا فشَهادَتُه مَقبولةٌ مِن غَيرِ حاجةٍ إلى استِحلافِه، وإن كانَ غَيرَ عَدلٍ فيَمينُه لا تُجيزُ شَهادَتَه [1586] يُنظر: ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (1/ 56)، ((السيل الجرار)) للشوكاني (4/ 193). .
رابِعًا: تَوجيهُ اليَمينِ يُبنى على الخُصومةِ، والشَّاهِدُ ليس طَرَفًا في الخُصومةِ، فلا يَمينَ عليه [1587] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (16/ 119). .
القَولُ الثَّاني: يَجوزُ للقاضي تَحليفُ الشَّاهِدِ، وهذا مَذهَبُ المالِكيَّةِ [1588] ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (7/ 305). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل للخرشي)) (7/ 187). ، وقَولٌ عِندَ الحَنَفيَّةِ [1589] ((حاشية ابن عابدين)) (5/ 422). ويُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) لجنة من الفقهاء (ص: 350)، ((قرة عيون الأخيار لتكملة رد المحتار)) لنجل ابن عابدين (7/ 498). ، وروايةٌ عن أحمدَ [1590] يُنظر: ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (1/ 379). اختارها ابنُ القَيِّمِ [1591] قال ابنُ القَيِّمِ: (حُكيَ عَنِ ابنِ وضَّاحٍ وقاضي الجَماعةِ بقُرطُبةَ، وهو مُحَمَّدُ بنُ بشرٍ: أنَّه حَلَّفَ شُهودًا في تَرِكةٍ باللهِ إنَّ ما شَهِدوا بهِ لَحَقٌّ. وعَنِ ابنِ وضَّاحٍ أنَّه قال: أرى لفَسادِ النَّاسِ أن يُحَلِّفَ الحاكِمُ الشُّهودَ. قال ابنُ القَيِّمِ: وهذا ليس ببَعيدٍ). ((الطرق الحكمية)) (1/ 378،379). ، وابنُ عُثَيمين [1592] قال ابنُ عُثَيمينَ -تَعليقًا على آيةِ الشَّهادةِ على الوصيَّةِ في السَّفَرِ-: (فهَل يُؤخَذُ مِن هذا أنَّ للقاضي أن يُحَلِّفَ الشَّاهِدَينِ عِندَ الارتيابِ في شَهادَتِهما؟ نَقولُ: نَعَم، له ذلك، لَكِن لَو قيلَ: إنَّ هذا إنَّما ورَدَ في ارتيابِنا مِن شَهادةِ الكُفَّارِ، فالجَوابُ: أنَّ الحُكمَ يَدورُ مَعَ عِلَّتِه؛ لأنَّنا لَم نُحَلِّفْهما باللهِ إلَّا عِندَ الارتيابِ لا لكَونِهما مِنَ الكُفَّارِ). ((تفسير القرآن الكريم سورة المائدة)) (2/487). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ 
قال اللهُ تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ [المائدة: 106] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الآيةِ دَلالةٌ على جَوازِ تَوجيهِ اليَمينِ إلى الشَّاهِدِ إنِ ارتابَ الحاكِمُ في شَهادَتِه [1593] يُنظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (6/ 355)، ((تفسير القرآن الكريم سورة المائدة)) لابن عثيمين (2/487). .
ثانيًا: من الآثار
عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهُما قال: (شَهادةُ المَرأةِ الواحِدةِ جائِزةٌ في الرَّضاعِ إذا كانَت مَرضيَّةً، وتُستَحلَفُ مَعَ شَهادَتِها) [1594] أخرجه عبد الرزاق (13971). .
ثالثًا: أنَّه يَصعُبُ التَّحَقُّقُ مِن عَدالةِ الشُّهودِ في هذا الزَّمَنِ غالِبًا حَتَّى عَن طَريقِ المُزَكِّي [1595] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (7/ 63). ، فاقتَضى ذلك تَأكيدَ شَهادَتِهم باليَمينِ [1596] يُنظر: ((درر الحكام شرح مجلة الأحكام)) لعلي حيدر (4/ 405). .
رابِعًا: تَحليفُ الشُّهودِ مِن بابِ السِّياسةِ الشَّرعيَّةِ التي تَقتَضيها مَصلَحةُ تَحقيقِ العَدالةِ [1597] ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (2/ 170). ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (10/ 46). .

انظر أيضا: