موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (77- 80)

ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ

غريبُ الكَلِماتِ:

خَلَاق: نصيبٌ، وحظٌّ من الخير، والخَلاقُ: ما اكتسَبَه الإنسانُ من الفضيلةِ بخُلُقه .
يَلْوُونَ: أي: يَقلِبون ألْسنتَهم بالتحريف والزِّيادة، وأصل اللَّيِّ: فَتْلُ الحبل، وإمالةُ الشَّيء كذلك .

المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِر اللهُ تبارَك وتعالَى عن عِقاب الَّذين يَستبدلون بعهدِه الَّذي عاهدهم عليه من اتِّباع أمْر الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والإيمان به، ويَأخذون بالأيمانِ الكاذبة عوضًا قليلًا خسيسًا من متاع الدُّنيا الزَّائل، فينكثون العهدَ مع الله، ويَحلفون كذبًا وزورًا؛ من أجْل ذلك- يُخبر تعالى أنَّهم لا نصيبَ لهم من الخير يوم القِيامة، ولا يُكلِّمهم، كما أنَّه لا ينظُر إليهم، ولا يمتنُّ عليهم بتطهيرهم من الذُّنوب والأدناس، بل يُجازيهم بعذابٍ أليم موجِع.
ثمَّ يُخبِر الله تبارَك وتعالَى عبادَه المؤمنين أنَّ هناك جماعةً من أهل الكتاب يَعطفون ألسنتَهم، ويُميلونها بالكتاب، فيُحرِّفون لفظَه، ويَعبثون بمعناه، والغايةُ من ذلك هي إضلالُ عبادِه المؤمنين، والتلبيسُ عليهم؛ ليظنُّوا أنَّ ما يقرؤونه من الكتاب، وهو ليس منه، ويقولون عنه: إنَّه ممَّا أنزلَه اللهُ على أنبيائه، وهو ليس كذلك، وإنَّما هو ممَّا ابتدعوه وأحْدثوه من عند أنفسِهم، فهم بهذا يتقوَّلون على الله الكذبَ عمدًا، ويُلحِقون بكتابِه ما ليس منه، وهم يَعلمون في قَرارةِ أنفسِهم أنَّهم كاذِبون مفترون.
ثم يُبيِّن اللهُ سبحانه وتعالى أنَّ مِن الممتنِع، بل مِن أمحلِ المحال، أنْ يُعطي اللهُ بشرًا الكتاب، ويُعلِّمه الحِكمةَ، ويمتنَّ عليه بالنُّبوَّة، ثمَّ هو يدعو النَّاس إلى عبادة نفْسِه، فيقول لهم: اعبدوني من دون الله. بل إذا امتنَّ الله عليه بذلك، فإنَّه يأمرُهم ويقول لهم: كونوا علماءَ، عاملين بالعِلم، مخلِصين لله، عابِدين له، مُعلِّمين للنَّاس ومُربِّين؛ بسببِ تعليمِكم الكتابَ لغيركم، وبسببِ مداومتِكم على قراءتِه وحِفظِه. كما أنَّه يستحيلُ أنْ يأمرَكم باتخاذ الملائكة والنَّبيِّين أربابًا تعبُدونهم من دون الله؛ إذ كيف يأمرُكم بالكفر بالله بعد انقيادِكم له بالطاعة، واستسلامِكم له بالعبوديَّة؟!

تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
في تعلُّق هذه الآيةِ ومناسبتها لِمَا قبلها وجوهٌ:
الأول: أنَّه تعالى لَمَّا وصَف اليهودَ بالخيانة في أموال النَّاس- ومِن المعلوم أنَّ الخيانةَ في أموال النَّاس لا تَتمشَّى إلَّا بالأَيْمان الكاذبة- لا جَرَمَ ذكَر عقيبَ تلك الآيةِ هذه الآيةَ المشتملةَ على وعيدِ مَن يُقْدِمُ على الأيمانِ الكاذبة.
 الثاني: أنَّه تعالى لَمَّا حكَى عنهم أنَّهم يقولون على الله الكذبَ وهم يعلمون- ولا شكَّ في أنَّ عهدَ الله على كل مُكَلَّفٍ أنْ لا يَكْذِبَ على الله، ولا يخونَ في دِينه- لا جَرَمَ ذكَرَ هذا الوعيد عقيبَ ذلك.
 الثالث: أنَّه تعالى ذكَر في الآيةِ السابقةِ خيانتَهم في أموال النَّاس، ثمَّ ذكَر في هذه الآية خيانتَهم في عهْدِ الله، وخيانتَهم في تعظيمِ أسمائِه حين يَحلِفون بها كذبًا .
الرابع: أنَّ في خيانةِ الأمانة إبطالًا للعهد وللحلِفِ الَّذي بَينهم وبين المسلمين وقُريش .
إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
سببُ النُّزول:
قال عبدُ اللهِ رضي اللهُ عنه: مَن حلَف على يمينٍ يستَحِقُّ بها مالًا، وهو فيها فاجِرٌ، لقِي اللهَ وهو عليه غضبانُ. فأنزَل اللهُ تصديقَ ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا- فقرَأ إلى- عَذَابٌ أَلِيمٌ. ثمَّ إنَّ الأشعَثَ بنَ قيسٍ خرَج إلينا فقال: ما يُحَدِّثُكم أبو عبدِ الرحمنِ؟ قال: فحدَّثْناه، قال: فقال: صدَق، لفِيَّ واللهِ أُنزِلَتْ، كانتْ بيني وبين رجلٍ خُصومةٌ في بئرٍ، فاختصمْنا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((شاهِداك أو يمينُه)). قلتُ: إنَّه إذنْ يحلِفُ ولا يُبالي، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((مَن حلَف على يمينٍ يَستحِقُّ بها مالًا، هو فيها فاجِرٌ، لقِي اللهَ وهو عليه غضبانُ )). فأنزَل اللهُ تصديقَ ذلك، ثمَّ اقتَرأ هذه الآيةَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا  فقرَأ إلى عَذَابٌ أَلِيمٌ .
ووردَ أيضًا عن عبدِ اللهِ بن أَبي أَوْفَى رضِي اللهُ عنهما، أنَّ رجلًا أقامَ سِلْعةً، وهوَ في السُّوقِ، فحلَفَ باللهِ لقدْ أُعْطيَ بهَا ما لم يُعْطَ؛ ليوقِعَ فيها رجلًا من المسلمين، فنزلتْ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا .
ولا تعارُضَ بينهما؛ لاحتمالِ نُزولها في كلٍّ مِن القصَّتين إنْ تقارب الزمانُ، أو تكون نازلةً مرَّتيْن .
إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا
أي: إنَّ الَّذين يَستبدِلون بما عَهِدَ الله إليهم من الإيمانِ بمحمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأداءِ الأمانة، ويَستبدلون بالحلفِ باللهِ كذبًا استحلالًا لِمَا حرَّم الله عليهم من أموال النَّاس، يَستبدلون بذلك ويأخذونَ به عِوَضًا قليلًا، وبدلًا يسيرًا خسيسًا من حُطام الدُّنيا، فينكُثون عهدَ الله، ويَحلِفون كذبًا من أجْل ذلك .
أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
أي: الَّذين يَفعلون ذلك لا حظَّ لهم مِن الخيرِ يومَ القيامة، ولا نصيبَ لهم منه .
وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ
أي: لا يُكلِّمهم اللهُ يومَ القِيامة تَكليمَ رضًا، أو كلامًا يَسُرُّهم، ولكنَّه يُكلِّمهم تكليمَ إهانةٍ وغضبٍ وسَخَطٍ .
وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أي: ولا يَنظُر إليهم نظرَ رحمةٍ وعطفٍ ولا نَظرًا يَسُرُّهم .
وَلَا يُزَكِّيهِمْ
أي: ولا يُطَهِّرهم من ذُنوبهم وكُفرهم ممَّا تلوَّثوا به في الدُّنيا .
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
أي: ولهم عذابٌ مُؤلِمٌ موجِعٌ .
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ
أي: وإنَّ من أهل الكتابِ جماعةً يَعطِفون ويُمِيلون ألسنتَهم بالكتاب؛ إمَّا بتحريفِ لفظِه، وإمَّا بتحريفِ معناه بتفسيرِه على غيرِ مرادِ الله .
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ
أي: يَلْوُون ألسنَتهم بالكتاب؛ لتظنُّوا أنَّ ما يُحَرِّفونه بكلامِهم من كتابِ الله المنزَّل .
وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
أي: وما ذلك الَّذي لَوَوْا به ألسنتَهم من كتابِ الله .
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
أي: ويقولون عمَّا لَوَوْا به ألْسنتَهم من التحريفِ والكذبِ والباطلِ: هو ممَّا أنزلَه اللهُ على أنبيائِه .
وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
أي: وما ذلك الَّذي لَوَوْا به ألسنتَهم فأحْدَثوه ممَّا أنزلَه اللهُ إلى أحدٍ من أنبيائه، ولكنَّه ممَّا أحْدَثوه من قِبَل أنفسِهم .
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
أي: ويتعمَّدون قولَ الكذبِ على الله، والإلحاقَ بكتابِ الله ما ليس منه وهم يَعلمون مِن أنفسِهم أنَّهم قد كذَبوا وافترَوْا في ذلك .
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ
أي: ما يَنبغي لأحدٍ من النَّاس .
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ
أي: يُنَزِّل اللهُ عليه كتابَه، ويُعلِّمه الحِكمةَ، ويُعطيه النُّبوَّة .
ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ
أي: ثمَّ يدْعو إلى عِبادةِ نفْسه، ويقول للنَّاس: اعبدوني من دونِ الله .
وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
أي: ولكن، إذا آتاه اللهُ ذلك، فإنَّه يقولُ للنَّاس: كونوا عُلماءَ حُكماءَ حُلماءَ، مخلِصين للربِّ، مُتعبِّدين له، مُعَلِّمين للنَّاس، تُربُّونهم بصِغار العِلم قبلَ كِباره .
بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: تُعَلِّمُونَ قراءتان:
1- (تُعَلِّمُونَ) من التعليمِ، وكلُّ مُعلِّمٍ عالمٌ بما يُعلِّم، وليس كلُّ عالمٍ بشيءٍ معلِّمًا، فهذا أبلغُ وأمدح .
2- (تَعْلَمُونَ) والمعنى: بعِلْمكم الكتابَ .
بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ
أي: بسببِ تَعليمِكم الكتابَ لغيرِكم الْمُتَضَمِّن لعِلمِكم .
وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ
أي: بسببِ مُداومتِكم على قِراءتِه، وحِفظِ ألفاظِه .
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نفَى اللهُ تعالى أنْ يكون مَن آتاه الله النُّبوَّةَ مِن البشر داعيًا إلى نفْسه، وأثبت أنَّه يكون-ولا بدَّ- داعيًا إلى الله سبحانه وتعالى؛ أثبت أنَّ ذلك لا بدَّ أن يكون على وجهِ الإخلاص؛ لأنَّ بعضَ الشَّياطين يُحْكِمُ مكره بإبعاد التُّهمة عن نفسه بالدُّعاء إلى غيرِه على وجهِ الشِّرْك، لا سيَّما إنْ كان ذلك الغيرُ ربانيًّا كعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام ، فقال تعالى:
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا
أي: وما كان له أيضًا أن يأمرَكم أن تتَّخذوا الملائكة ولا النَّبيِّين أربابًا تُعبَد من دون الله، فما يَنبغي له أنْ يأمرَكم بعبادةِ أحدٍ من الخَلقِ لا نبيٍّ مرسَل، ولا مَلَكٍ مقرَّبٍ .
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
 أي: فلا يُمكن أنْ يأمرَكم بالكفر بعد إذ أنتم مُنقادُون بالطاعةِ، مُتذلِّلون بالعبوديَّة لله، قد تقرَّر إسلامُكم وثَبَتَ .

الفوائد التربوية :

1- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ.... الآية [آل عمران: 77] أنَّ مَن بَلَغَ مِن رقَّة الدِّيانة إلى حدِّ أنْ يَشتريَ بعهد الله وأَيْمانه ثمنًا قليلًا، فقد بلَغ الغاية القُصوى في الجُرْأَة على الله؛ فكيف يُرْجَى له صلاح بعد ذلك ؟!
2- العمومُ في قوله: لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عمومٌ مشروطٌ بعدم التوبة، وذلك بإجماع الأمَّة؛ فإنَّه إنْ تاب عنها، سقَط الوعيدُ بالإجماع .
3- العُهودُ إذا نُكِثَتْ اختلَّ أمر الدِّين، وفسَدت مصالح الدُّنيا؛ لأجْل هذا كان الوعيدُ على نَكْث العهد- ولو كان لأجل المنفعة- أشدَّ ما نطق به الكتاب وأغلظَه، كما في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آل عمران: 77] .
4- منَ ألْزمِ النَّاس أو أراد منهم أن يتَّبعوا قولَه مهما كان، فإنَّه قد جعَلهم عِبادًا له؛ لأنَّ طاعة الشَّخص من العبادة، قال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران: 79] .
5- الإشارةُ إلى أنَّه يَنبغي للإنسان أن يكون مُعلِّمًا ربانيًّا؛ لقوله: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِّيِّينَ، ومَن كان معلمًا لا ربانيًّا فعِلمه قاصر جدًّا؛ لأنَّ فائدة العِلم وثمرته هي العملُ والتأدُّب بآداب العِلم .
6- المعلِّمُ ليس هو الَّذي يملأ أذهانَ النَّاس عِلمًا فحسبُ، ولكن الَّذي يملأ أفكارَهم أو أذهانَهم علمًا، وأخلاقَهم تربيةً .
7- في قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: 79] ، دلالةٌ على أنَّ العِلم والتعليم والدِّراسة توجب كونَ الإنسان ربانيًّا، فمَن اشتغل بالتعلُّم والتعليم لا لهذا المقصود، ضاعَ سعيُه، وخاب عملُه، وكان مَثَله مثلَ مَن غرس شجرةً حَسناءَ مونِقة بمنظرِها، ولا منفعةَ بثمرِها .

الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا...: هدَّد اللهُ الَّذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا، ومنهم العلماءُ الَّذين يكتمون ما أنزل الله مداهنةً أو مراعاةً، أو من أجْل مال .
2- أضاف العهدَ إلى الله في قوله: بِعَهْدِ اللَّهِ؛ لأنَّه تعالى عَهِدَ إلى النَّاس في كتُبه المنزَّلةِ أنْ يلتزموا الصِّدقَ والوفاءَ بما يتعاهدون ويتعاقدون عليه، وأنْ يُؤدُّوا الأماناتِ إلى أهلها، وأنْ يَعبُدوه ولا يُشركوا به شيئًا ويتَّقوه في جميعِ الأمور، فعهدُ الله يشمل كلَّ ذلك .
3- يدخُل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا كلُّ مَنْ أخذ شيئًا من الدُّنيا في مقابلةِ ما ترَكه من حقِّ الله أو حقِّ عباده، ومَن حلَف على يمين يَقتطع بها مالًا معصومًا .
4- ويَدخُل في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ أيضًا جميعُ ما أمر الله به، ويدخُل فيه ما نصَب عليه الأدلَّة، ويدخُل فيه المواثيقُ المأخوذةُ من جِهة الرَّسول، ويدخل فيه ما يُلزِم الرَّجُلُ نفْسَه؛ لأنَّ كلَّ ذلك من عهد الله الَّذي يَلْزَم الوفاء به .
5- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا: أنه لَمَّا كان الناكثُ للعهد لا ينكُث إلَّا لمنفعةٍ يجعلها بدلًا منه، عبَّر عن ذلك بالشِّراء، الَّذي هو معاوضة ومبادلة، وسَمَّى العوضَ ثمنًا قليلًا .
6- من قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا يُؤخذ أنَّ اليمينَ الغموس وعدمَ القيام بعهدِ الله من كَبائر الذُّنوب، وهو أمرٌ زائدٌ على كونه محرَّمًا؛ لأنَّ الكبيرة أعظمُ من مُطلقِ التَّحريم؛ لأنَّ فيها وعيدًا، وكلُّ ذنب رُتِّب عليه وعيدٌ فهو من كبائرِ الذُّنوب .
7- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا... أنَّ حُكم الحاكمِ لا يُحِلُّ المالَ في الباطِن بقضاء الظَّاهر إذا عَلِم المحكوم له بُطلانَه .
8- إذا كان مَن اشترى بعهد الله ثمنًا قليلًا أو بيمينه لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، فإنَّ مَنْ وفَّى بعهد الله، وحلَف على صِدق، فإنَّه لا يُحْرَمُ النصيب في الآخرة .
9- المراد بقوله تعالى: وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ النَّظر الخاصُّ، أمَّا النَّظر العام، فإنَّ الله تعالى لا يُحجَب عن بصره شيءٌ .
10- في مجيء الوعيد عقب الصِّلة، وهي يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ.. الآية، إيذانٌ بأنَّ مَن شابههم في هذه الصِّفات، فهو لاحقٌ بهم .
11- لَمَّا نسَب الله فريقًا من أهل الكتاب إلى الكذِب عمومًا في قوله: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، نبَّه إلى نوع خاصٍّ منه، هو أكذبُ الكذب، فقال: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ .
12- لَمَّا كان كلامُ الله سبحانه وتعالى لا يَلتبِس بغيره إلَّا على ضعيفِ العقل، ناقص الفِطرة، عبَّر بالحسبان؛ تنفيرًا عن السَّماع منهم، وتنبيهًا على بُعد ما يَسمَعُه الإنسان من غيره، فقال: لِتَحْسَبُوهُ .
13- لَمَّا كان الكذبُ قد يُطلَق على ما لم يتعمَّد، بل وقع خطأً، احترز عنه بقوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي: إنَّه كذِب، لا يَشكُّون فيه .
14- الأنبياء أكملُ الخَلْق على الإطلاق، فأوامرُهم تكون مناسبةً لأحوالهم، فلا يأمرون إلَّا بمعالي الأمور، وهم أعظمُ النَّاس نهيًا عن الأمورِ القبيحةِ، كما في قوله: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَاب... .
15- مادة (درس) تستلزمُ التمكُّنَ من المفعول؛ فلذلك صار درْس الكتابَ بمعنى فَهْمه وإتقانه؛ ولذلك عطف في هذه الآية وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ على بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ .
16- خصَّ الملائكةَ والنبيِّين بالذِّكر؛ لأنَّ الَّذين وُصِفوا من أهل الكتابِ بعبادةِ غير الله لم يَحكِ عنهم إلَّا عبادةَ الملائكة، وعبادة المسيحِ وعُزَيْر .

بلاغة الآيات:

1- في قوله تعالى: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ: يرجِع الضمير في: (لِتَحْسَبُوهُ) إلى ما دلَّ عليه يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَاب وهو المُحرَّف. وقوله: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تأكيدٌ لقولهم: هُوَ مِنَ الكِتَابِ، وزيادةُ تشنيعٍ عليهم، وتسجيلٌ بالكذب، ودلالةٌ على أنَّهم لا يُعرضون ولا يُورِّون، وإنَّما يُصرِّحون بأنه في التوراة هكذا، وقد أنزله اللهُ تعالى على موسى كذلك؛ لفَرطِ جراءتِهم على اللَّه، وقساوةِ قلوبهم، ويَئسِهم من الآخرة .
- قوله تعالى: مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ: فيه تَكرار ؛ حيث أظْهر لفظ (الكتاب) في موضِع الإضمار، فلم يقل: (وما هو منه)؛ للتأكيد، ولزِيادة التَّشنيع عليهم.
2- وقوله: وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: ردٌّ عليهم في إخبارِهم بالكذب، وتأكيدٌ لقوله: وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ حيث نَفَى أولًا نفيًا أخصَّ؛ إذ التعليل كان لأخصَّ، ونَفَى هنا نفيًا أعمَّ؛ لأنَّ الدَّعوى منهم كانت الأعمَّ؛ لأنَّ كونَه من عند الله أعمُّ مِن أن يكون في التوراة أو غيرها ؛ وذلك لأنَّه ليس كلُّ ما لم يكُن في الكتابِ لم يكُن من عند الله؛ فإنَّ الحُكمَ الشرعيَّ قد ثبَت تارةً بالكتابِ وتارةً بالسُّنةِ، والكلُّ من عند اللهِ، وكذا ما يَرجِع إليهما مِن الإجماعِ والقِياس الصَّحيح .
3- في قوله تعالى: يَلْوُونَ، يَقُولُونَ: جِيء بالمضارعِ في هذه الأفعال (يلوون، ويقولون)؛ للدلالةِ على تجدُّد ذلك، وأنَّه دأبُهم .
4- قوله سبحانه: الكِتَابِ مِنَ الكِتَابِ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: فيه تكريرُ الكتاب في الآية مرَّتين، وتكريرُ اسم الجلالة أيضًا مرَّتين؛ لقصدِ الاهتمامِ بالاسمين، وذلك يَجرُّ إلى الاهتمامِ بالخبَر المتعلِّق بهما، والمتعلِّقين به .
5- قوله عزَّ وجلَّ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ: فيه إيجازٌ بالحذف، ومبالغةٌ في نفْي استحقاق أيِّ أحدٍ لذلك القول؛ إذ اللام فيه للاستحقاقِ، وأصل هذا التركيب في الكلام: (ما كان فلان فاعلًا كذا)، فلمَّا أُريدتِ المبالغةُ في النَّفي، عدَل عن نفْي الفِعل إلى نفْي المصدَر الدالِّ على الجِنس، وجعَل نفْي الجنس عن الشَّخْص بواسطة نفْي الاستحقاق .
6- في قوله: ثُمَّ يقُولَ لِلنَّاسِ: أتى بلفظ: ثُمَّ الَّتي هي للمُهلة تعظيمًا لهذا القول، وإذا انتفَى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أَوْلى وأحْرى، أي: إنَّ هذا الإيتاءَ العظيم لا يُجامع هذا القول، وإنْ كان بعد مهلةٍ مِن هذا الإنعام العظيم .
7- قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ:
- جِيء بخبرِ كان مضارعًا في قوله تعالى: بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ؛ لإفادةِ الاستمرارِ التجدُّدي .
- وتَكريرُ بِمَا كُنْتُمْ؛ للإيذانِ باستقلالِ كلٍّ من استمرارِ التعليمِ واستمرارِ القراءةِ بالفضل، وتحصيلِ الربَّانية .
- وتقديمُ التعليمِ على الدِّراسة؛ لزيادة شرفِه عليها، أو لأنَّ الخطابَ الأولَ لرؤسائهم، والثاني لِمَن دُونهم.
8- قوله تعالى: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
- قوله: وَلَا يَأْمُرَكُمْ: فيه زيادةُ حرف النَّفي وَلَا لتأكيدِ معنى النَّفي في قوله: مَا كانَ لِبَشَرٍ، وليستْ معمولة لـ(أنْ)؛ لاقتضاءِ ذلك أنْ يصير المعنى: لا يَنبغي لبشرٍ أُوتي الكتاب ألَّا يأمرَكم، وهو غيرُ صحيح قطعًا ، أو تكون لَا لتأسيسِ النَّفْي على معنى أنَّه ليس له أنْ يأمُرَ بعبادتِه، ولا يأمُرَ باتِّخاذ أكفائِه أربابًا، بل يَنهَى عنه .
- في قوله تعالى: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا تعميمٌ بعد تخصيص، والمعنى: لا يأمُركم بعبادةِ نفْسِه، ولا بعبادةِ أحدٍ من الخَلق من الملائكة والنَّبيِّين وغيرهم .
- قوله عزَّ وجلَّ: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: كلامٌ مستأنَف لخِطاب المؤمنين عن طريقِ التعجُّب من حالِ غيرِهم، والهمزة فيه للاستفهامِ الإنكاريِّ .