الموسوعة الفقهية

المَسألةُ الأولى: القوَّةُ مِن غَيرِ عُنفٍ واللِّينُ مِن غَيرِ ضَعفٍ


يُستَحَبُّ في القاضي أن يَكونَ قَويًّا مِن غَيرِ عُنفٍ، لَيِّنًا مِن غَيرِ ضَعفٍ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [645] ((المبسوط)) للسرخسي (16/108)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (6/287). ، والمالِكيَّةِ [646] ((الكافي)) لابن عبد البر (2/953). ، والشَّافِعيَّةِ [647] ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (12/418). ويُنظر: ((البيان)) للعمراني (13/22). ، والحَنابِلةِ [648] يرى الحَنابِلةُ استِحبابَ تَحَقُّقِ هذه الصِّفةِ في القاضي، ولَهم وجهٌ -غَيرُ مَقطوعٍ بهِ- بالوُجوبِ. ((الإنصاف)) للمرداوي (11/200)، ((الإقناع)) للحجاوي (4/377). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
قَولُه تعالى: ‌فَبِمَا ‌رَحۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ [آل عمران: 159] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ العُنفَ والغِلظةَ مِنَ الأوصافِ المَذمومةِ التي تُسَبِّبُ النُّفرةَ في النَّاسِ، فعَلى القاضي أن يَتَحَرَّزَ عَنها [649] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (16/108). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَن عَبدِ اللهِ بنِ بُسرٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ جَعَلَني عَبدًا كَريمًا، ولَم يَجعَلْني جَبَّارًا عَنيدًا)) [650] أخرجه أبو داود (3773) واللفظ له، وابن ماجه (3263). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3773)، وصحَّح إسنادَه البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/8)، وجوَّده النووي في ((رياض الصالحين)) (301)، وحسَّنه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (9/452)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/43). .
2- عَن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، قالت: ((ما ضَرَبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَيئًا قَطُّ بيَدِه، ولا امرَأةً ولا خادِمًا، إلَّا أن يُجاهِدَ في سَبيلِ اللهِ، وما نيلَ منه شَيءٌ قَطُّ فيَنتَقِمَ مِن صاحِبِه، إلَّا أن يُنتَهَكَ شَيءٌ مِن مَحارِمِ اللهِ فيَنتَقِمَ للَّهِ عَزَّ وجَلَّ)) [651] أخرجه مسلم (2328). .
ثالثًا: مِنَ الآثارِ
عَن عَطاءِ بنِ يَسارٍ، قال: لَقيتُ عَبدَ اللهِ بنَ عَمرِو بنِ العاصِ رَضيَ اللهُ عنهما، فقُلتُ: أخبِرْني عَن صِفةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فقال: (أجَلْ، واللهِ إنَّه لَمَوصوفٌ في التَّوراةِ ببَعضِ صِفَتِه في القُرآنِ (يا أيُّها النَّبيُّ إنَّا أرسَلناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذيرًا) وحِرزًا للأُمِّيِّينَ، أنتَ عَبدي ورَسولي، سَمَّيتُكَ المُتَوكِّلَ، ليس بفَظٍّ ولا غَليظٍ ولا صَخَّابٍ في الأسواقِ، ولا يَدفَعُ بالسَّيِّئةِ السَّيِّئةَ، ولَكِن يَعفو ويَغفِرُ، ولَن يَقبِضَه اللهُ تَعالى حَتَّى يُقيمَ به المِلَّةَ العَوجاءَ، بأن يَقولوا: لا إلَهَ إلَّا اللهُ، ويَفتَحوا بها أعيُنًا عُميًا وآذانًا صُمًّا) [652] أخرجه البخاري (2125). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحديثينِ والأثَرِ:
في هذه الأخبارِ إشارةٌ إلى بَعضِ أخلاقِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والقاضي خَليفةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في القَضاءِ بَينَ النَّاسِ، فيَنبَغي أن يَتَحَرَّزَ عَمَّا هو مُنتَفٍ عَن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [653] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (16/108). .
رابعًا: أنَّ القوَّةَ في القاضي تَمنَعُ طَمَعَ الظَّالِمِ فيه، وإذا كانَت مِن غَيرِ عُنفٍ لم يَيأسِ الضَّعيفُ مِن حَقِّه، أمَّا اللِّينُ في القاضي فهو يَمنَعُ خَوفَ صاحِبِ الحَقِّ منه، فلا يَترُكُ حَقَّه خَوفًا منه، وإذا كانَ مِن غَيرِ ضَعفٍ لم يَطمَعِ الظَّالِمُ فيه، فلا يُقِرُّ بالحَقِّ [654] يُنظر: ((الممتع في شرح المقنع)) لابن المنجى (4/522). .

انظر أيضا: