الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الرَّابِعُ: مُصالَحةُ الخَصمَينِ


يُستَحَبُّ للقاضي أن يَعرِضَ الصُّلحَ على الخَصمَينِ في الجُملةِ [631] ويَتَأكَّدُ ذلك في أحوالٍ، كَأن يَكونَ الخُصومُ مِن أهلِ العِلمِ، أو يَكونَ بَينَهم قَرابةٌ، أو أن يَخشى القاضي تَفاقُمَ الأمرِ بَينَ الخُصومِ. ينظر: ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (7/261،262)، ((الفتاوى الهندية)) (3/329، 345). ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [632] ((المبسوط)) للسرخسي (16/61)، ((الفتاوى الهندية)) (3/329، 345). ، والمالِكيَّةِ [633] ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (7/261،262)، ((الشرح الكبير)) للدردير (4/152). ، والشَّافِعيَّةِ [634] ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (12/495)، ((روضة الطالبين)) للنووي (11/162). ، والحَنابِلةِ [635] ((الفروع)) لابن مفلح (11/178،179). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/48). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
1- قَولُه تعالى: لَا خَيۡرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحٍۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا [النساء: 114] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّت هذه الآيةُ على فضلِ الإصلاحِ بَينَ النَّاسِ والنَّدبِ إليه، والقاضي داخِلٌ في هذا الخِطابِ [636] يُنظر: ((الإشراف)) لابن المنذر (4/191). .
2- قَولُه تعالى: وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٌ [النساء: 128] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّه يُستَحَبُّ للقاضي أن يَعرِضَ الصُّلحَ على الخُصومِ؛ لأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قد وصَفَ الصُّلحَ بأنَّه خَيرٌ، وذلك دَليلٌ على النِّهايةِ في الخَيريَّةِ [637] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (8/65)، ((المبسوط)) للسرخسي (16/61). .
3- قَولُه تعالى: وَإِنۡ خِفۡتُمۡ ‌شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحًا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآ [النساء: 35] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّت هذه الآيةُ على استِحبابِ عَرضِ الصُّلحِ على الخُصومِ؛ وذلك لأنَّ اللهَ تَعالى قد شَرَعَ التَّحكيمَ بَينَ الزَّوجَينِ في حالِ الشِّقاقِ؛ للوُصولِ إلى الصُّلحِ [638] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (8/65). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ رَضيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رَجُلًا مِنَ الأنصارِ خاصَمَ الزُّبَيرَ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شِراجِ الحَرَّةِ، التي يَسقونَ بها النَّخلَ، فقال الأنصاريُّ: سَرِّحِ الماءَ يَمُرَّ، فأبى عليه، فاختَصَما عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للزُّبَيرِ: اسقِ يا زُبَيرُ، ثُمَّ أرسِلِ الماءَ إلى جارِكَ، فغَضِبَ الأنصاريُّ فقال: أن كانَ ابنَ عَمَّتِكَ؟ فتَلَوَّنَ وجهُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ قال: اسقِ يا زُبَيرُ، ثُمَّ احبِسِ الماءَ حَتَّى يَرجِعَ إلى الجَدْرِ، فقال الزُّبَيرُ: واللهِ إنِّي لَأحسِبُ هذه الآيةَ نَزَلَت في ذلك: فَلَا ورَبِّكَ لا يُؤمِنونَ حَتَّى يُحَكِّموكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)) [639] أخرجه البخاري (2359، 2360) واللفظ له، ومسلم (2357). .
2- عَن كَعبِ بنِ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه: ((أنَّه تَقاضى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَينًا كانَ له عليه في المَسجِدِ، فارتَفَعَت أصواتُهما حَتَّى سَمِعَها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو في بَيتِه، فخَرَجَ إليهما حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجرَتِه، فنادى: يا كَعبُ. قال: لَبَّيكَ يا رَسولَ اللهِ، قال: ضَعْ مِن دَينِكَ هذا. وأومَأ إليه: أيِ الشَّطرَ، قال: لَقد فعَلتُ يا رَسولَ اللهِ، قال: قُمْ فاقضِهـ)) [640] أخرجه البخاري (457) واللفظ له، ومسلم (1558). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ هذا الحَديثُ على استِحبابِ دُعاءِ الخُصومِ إلى الصُّلحِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَعا الخَصمَينِ للصُّلحِ، وحَضَّهم عليه [641] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (8/63). .
3- عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الصُّلحُ جائِزٌ بَينَ المُسلِمينَ إلَّا صُلحًا أحَلَّ حَرامًا أو حَرَّمَ حَلالًا)) [642] أخرجه أبو داود (3594) مطولًا واللفظ له، وأحمد (8784) مختصرًا صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (5091)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3594)، وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/211): ينبغي أن يقالَ فيه: حسنٌ، وصحَّح إسنادَه عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (718)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (16/319)، وقال النووي في ((المجموع)) (9/376): إسنادُه حَسَنٌ أو صحيحٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ هذا الحَديثُ على جَوازِ الصُّلحِ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ القاضيَ مَأمورٌ بدُعاءِ الخُصومِ إلى الصُّلحِ [643] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (16/61). .
ثالثًا: أنَّ الفَصلَ بَينَ المُتَخاصِمينَ بالقَضاءِ أمرٌ يوجِبُ الشَّحناءَ والتَّفَرُّقَ، بخِلافِ الصُّلحِ؛ فإنَّه أقرَبُ لجَمعِ الخَواطِرِ، وتَأليفِ النُّفوسِ المَطلوبِ شَرعًا [644] يُنظر: ((الشرح الكبير)) للدردير (4/152). .

انظر أيضا: