الموسوعة الفقهية

المَسألةُ الأولى: حُكمُ القَضاءِ على الغائِبِ


يَصِحُّ القَضاءُ على الغائِبِ ويَنفُذُ الحُكمُ عليه إذا كانَ للمُدَّعي بَيِّنةٌ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: المالِكيَّةِ [413] ((الكافي)) لابن عبد البر (2/931)، ((التاج والإكليل)) للمواق (8/151). ، والشَّافِعيَّةِ -في المشهورِ- [414] ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (12/511)، ((روضة الطالبين)) للنووي (11/175). ، والحَنابِلةِ [415] ((الإقناع)) للحجاوي (4/403)، ((منتهى الإرادات)) لابن النجار (5/299،300). ، وهو مَذهَبُ الظَّاهِريَّةِ [416] قال ابن حزم: (ويُقضى على الغائِبِ كما يُقضى على الحاضِرِ. وهو قَولُ الشَّافِعيِّ، وأبي سُلَيمانَ، وأصحابِهما). ((المحلى)) (8/434). ، وقَولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ [417] قال ابنُ قُدامةَ: (وبهذا قال ابنُ شُبرُمةَ، ومالِكٌ، والأوزاعيُّ، واللَّيثُ، وسَوَّارٌ، وأبو عُبَيدٍ، وإسحاقُ، وابنُ المُنذِرِ). ((المغني)) (10/95). ويُنظر: ((البيان)) للعمراني (13/107). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك [418] قال الماوَرديُّ: (لأنَّ القَضاءَ على الغائِبِ إجماعٌ، رُويَ عَن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ أنَّه قال: "ألا إنَّ أُسَيفِعَ -أُسَيفِعَ جُهَينةَ- قد رَضيَ مِن دينِه وأمانَتِه أن يُقالَ: قد سَبَقَ الحاجَّ، فادَّانَ مُعرِضًا فأصبَحَ قد رِينَ به، فمَن كانَ له عليه دَينٌ فليَحضُرْ غَدًا لنَقسِمَ مالَه بَينَهم بالحِصَصِ". وليس له مَعَ انتِشارِ قَولِه في النَّاسِ مُخالِفٌ؛ فكانَ إجماعًا). ((الحاوي)) (16/298). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
1- قَولُه تعالى: يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةً فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ [ص: 26] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ تَعالى أمَرَ بالحُكمِ بالحَقِّ، وما قامَت به البَيِّنةُ على الغائِبِ حَقٌّ، فوجَبَ الحُكمُ به [419] يُنظر: ((الحاوي)) للماوردي (16/298). .
2- قَولُه تعالى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ [النساء: 135] .
3- قَولُه تعالى: وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِ [الطلاق: 2] .
وَجهُ الدَّلالةِ من الآيتينِ:
أنَّ اللهَ تَعالى لم يَخُصَّ في هاتَينِ الآيَتَينِ حاضِرًا مِن غائِبٍ، فصَحَّ القَولُ بوُجوبِ الحُكمِ على الغائِبِ كما يَجِبُ على الحاضِرِ [420] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (8/438). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((البَيِّنةُ على المُدَّعي، واليَمينُ على المُدَّعى عليهـ)) [421] أخرجه من طرقٍ: الشافعي في ((الأم)) (8/208) مختصرًا، والبيهقي (21245) واللفظ له. حسَّن إسنادَه ابنُ الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (2/449)، وذكر ثبوتَه الشافعي في ((الأم)) (8/27). وقَولُه: ((واليمينُ على المدَّعى عليهـ)) أخرجه البخاري (2514)، ومسلم (1710)، ولَفظُ البُخاريِّ: عَنِ ابنِ أبي مُلَيكةَ، قال: ((كَتَبتُ إلى ابنِ عَبَّاسٍ، فكَتَبَ إليَّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَضى أنَّ اليَمينَ على المُدَّعى عليهـ)). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ هذا الحَديثُ على عَدَمِ التَّفريقِ بَينَ أن يَكونَ المُدَّعى عليه حاضِرًا أو غائِبًا، فمَتى ما أحضَرَ المُدَّعي البَيِّنةَ لَزِمَ القاضيَ أن يَحكُمَ بمُقتَضاها [422] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (13/107). .
2- عَن سَهلِ بنِ أبي حَثمةَ: ((أنَّه أخبَرَه عَن رِجالٍ مِن كُبَراءِ قَومِه، أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ سَهلٍ ومُحَيِّصةَ خَرَجا إلى خَيبَرَ مِن جَهدٍ أصابَهم، فأتى مُحَيِّصةُ، فأخبَرَ أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ سَهلٍ قد قُتِلَ وطُرِحَ في عَينٍ -أو فقيرٍ- فأتى يَهودَ، فقال: أنتُم واللهِ قَتَلتُموه، قالوا: واللهِ ما قَتَلناه، ثُمَّ أقبَلَ حَتَّى قدِمَ على قَومِه، فذَكَرَ لَهم ذلك، ثُمَّ أقبَلَ هو وأخوه حُوَيِّصةُ -وهو أكبَرُ منه- وعَبدُ الرَّحمَنِ بنُ سَهلٍ، فذَهَبَ مُحَيِّصةُ ليَتَكَلَّمَ، وهو الذي كانَ بخَيبَرَ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمُحَيِّصةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ، يُريدُ السِّنَّ، فتَكَلَّمَ حُوَيِّصةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصةُ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إمَّا أن يَدوا صاحِبَكُم، وإمَّا أن يُؤذِنوا بحَربٍ، فكَتَبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهم في ذلك، فكَتَبوا: إنَّا واللهِ ما قَتَلناه، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحُوَيِّصةَ ومُحَيِّصةَ وعَبدِ الرَّحمَنِ: أتَحلِفونَ وتَستَحِقُّونَ دَمَ صاحِبِكُم؟ قالوا: لا، قال: فتَحلِفُ لَكُم يَهودُ، قالوا: لَيسوا بمُسلِمينَ، فواداه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عِندِه، فبَعَثَ إليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِائةَ ناقةٍ حَتَّى أُدخِلَت عليهمُ الدَّارَ)) [423] أخرجه البخاري (7192)، ومسلم (1669) واللفظ له. .
وجهُ الدَّلالةِ:
 دَلَّ هذا الحَديثُ على صِحَّةِ الحُكمِ على الغائِبِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَكَمَ على اليَهودِ وهم غائِبونَ [424] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (8/438). .
ثالثًا: مِنَ الآثارِ
1- عَن أبي زُرعةَ بنِ عَمرِو بنِ جَريرِ بنِ عَبدِ اللهِ البَجَليِّ: (أنَّ رَجُلًا كانَ مَعَ أبي موسى الأشعَريِّ، وكانَ ذا صَوتٍ ونِكايةٍ في العَدوِّ، فغَنِموا فأعطاه أبو موسى الأشعَريُّ بَعضَ سَهمِه، فأبى أن يَأخُذَ إلَّا جَميعًا، فضَرَبَه عِشرينَ سَوطًا وحَلَقَ رَأسَه، فجَمَعَ شَعرَه ورَحَلَ إلى عُمَرَ فدَخَلَ عليه، قال جَريرُ بنُ عَبدِ اللهِ: وأنا أقرَبُ النَّاسِ مَجلِسًا مِن عُمَرَ، فأخرَجَ شَعرَه فضَرَبَ به صَدرَ عُمَرَ، وقال: أمَا واللهِ لَولا، فقال عُمَرُ: لَولا ماذا؟ صَدَقَ، واللهِ لَولا النَّارُ! فقال: كُنتُ ذا صَوتٍ ونِكايةٍ في العَدوِّ، ثُمَّ قَصَّ قِصَّتَه على عُمَرَ. فكَتَبَ عُمَرُ إلى أبي موسى: إنَّ فُلانًا قدِمَ عليَّ فأخبَرَني بكَذا وكَذا، فإن كُنتَ فعَلتَ ذلك به فعَزَمتُ عليكَ إن كُنتَ فعَلتَ به ذلك في مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ، فعَزَمتُ عليكَ لَما جَلَستَ له في مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَقتَصَّ مِنكَ، وإن كُنتَ فعَلتَ به ذلك في خَلاءٍ لَما جَلَستَ له في خَلاءٍ حَتَّى يَقتَصَّ مِنكَ، فقال له النَّاسُ: اعفُ عنه، فقال: لا واللهِ لا أدَعُه لأحَدٍ، فلَمَّا قَعَدَ أبو موسى للقِصاصِ، رَفَعَ رَأسَه إلى السَّماءِ، وقال: اللهُمَّ قد عَفَوتُ عنهـ) [425] أخرجه ابنُ شبة في ((تاريخ المدينة)) (3/808)، وابن حزم في ((المحلى)) (9/370) واللفظ له. .
2- عَنِ الشَّعبيِّ، قال: (كَتَبَ عُمَرُ إلى أبي موسى: إنَّه بَلَغَني أنَّ ناسًا مِن قِبَلِكَ دَعَوا بدَعوى الجاهِليَّةِ: يا آلَ ضَبَّةَ، فإذا أتاكَ كِتابي هذا فأنهِكْهُم عُقوبةً في أموالِهم وأجسامِهم حَتَّى يَفرَقوا إذ لم يَفقَهوا) [426] أخرجه ابنُ حزم في ((المحلى)) (9/371). .
3- عَن سَعيدِ بنِ المُسَيَّبِ: (أنَّ عُمَرَ وعُثمانَ قَضَيا في المَفقودِ أنَّ امرَأتَه تَتَرَبَّصُ أربَعَ سِنينَ وأربَعةَ أشهُرٍ وعَشرًا بَعدَ ذلك، ثُمَّ تَتَزَوَّجُ) [427] أخرجه عبد الرزاق (12317) واللفظ له، وابن أبي شيبة (16982)، والبيهقي (15659). صحَّحه ابنُ حزم في ((المحلى)) (9/371)، وصحَّح إسنادَه ابن حجر في ((فتح الباري)) (9/340). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآثارِ:
دَلَّت هذه الآثارُ على صِحَّةِ القَضاءِ على الغائِبِ؛ لأنَّه فِعلُ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم، ولَم يَصِحَّ عَن أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ خِلافٌ لِما دَلَّت عليه الآثارُ [428] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (8/438). .
رابِعًا: أنَّ المُدَّعيَ الحاضِرَ له بَيِّنةٌ مَسموعةٌ عادِلةٌ، فيَجِبُ العَمَلُ بها، كما لَو كانَ الخَصمُ حاضِرًا [429] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/96). .
خامِسًا: أنَّ في المَنعِ مِنَ القَضاءِ على الغائِبِ إضاعةً للحُقوقِ التي وُجِدَ القُضاةُ لحِفظِها، فتُتَّخَذُ الغَيبةُ والاستِنظارُ طَريقًا إلى إبطالِ الحُقوقِ [430] يُنظر: ((الحاوي)) للماوردي (16/299)، ((البيان)) للعمراني (13/107). .
سادِسًا: قياسُ الغائِبِ على الحاضِرِ في جَوازِ الحُكمِ عليه بالبَيِّنةِ، بجامِعِ جَوازِ سَماعِ البَيِّنةِ على الجَميعِ، ومَن جازَ سَماعُ البَيِّنةِ عليه جازَ الحُكمُ بها عليه [431] يُنظر: ((الحاوي)) للماوردي (16/299). .
سابِعًا: أنَّ الغائِبَ لَو حَضَرَ لَكانَ بَينَ إقرارٍ وإنكارٍ، فإن أقَرَّ فالبَيِّنةُ موافِقةٌ، وإن أنكَرَ فالبَيِّنةُ حُجَّةٌ، فلَم يَكُنْ في الغَيبةِ مانِعٌ مِنَ الحُكمِ بالبَيِّنةِ في حالَتَي إقرارِه وإنكارِه [432] ((الحاوي)) للماوردي (16/299). .
ثامِنًا: أنَّ القَضاءَ على المَيِّتِ والصَّغيرِ جائِزٌ، فلَمَّا جازَ القَضاءُ عليهما كانَ القَضاءُ على الغائِبِ أَولى؛ لأنَّ المَوتَ والصِّغَرَ أعظَمُ مِنَ الغَيبةِ [433] يُنظر: ((الكافي)) لابن عبد البر (2/931)، ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (12/511). .

انظر أيضا: