الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ العاشر: العَمَلُ عِندَ تَعَذُّرِ بَعضِ الشُّروطِ


تُعتَبَرُ الشُّروطُ حَسَبَ الإمكانِ، فإن تَعَذَّرَ بَعضُها فيُوَلَّى على القَضاءِ الأمثَلُ فالأمثَلُ [117] قال ابنُ مُفلِحٍ فيما حَكاه عَنِ ابنِ تيميَّةَ: (وقال شَيخُنا: الوِلايةُ لَها رُكنانِ: القوَّةُ والأمانةُ؛ فالقوَّةُ في الحُكمِ تَرجِعُ إلى العِلمِ بالعَدلِ وتَنفيذِ الحُكمِ، والأمانةُ تَرجِعُ إلى خَشيةِ اللهِ تَعالى، وهذه الشُّروطُ تُعتَبَرُ حَسَبَ الإمكانِ. ويَجِبُ تَوليةُ الأمثَلِ فالأمثَلِ، وأنَّ على هذا يَدُلُّ كَلامُ أحمَدَ وغَيرِه، فيولَّى لعَدَمٍ أنفَعُ الفاسِقين وأقَلُّهما شَرًّا، وأعدَلُ المُقَلِّدين وأعرَفُهما بالتَّقليدِ، وهو كما قال؛ فإنَّ المَرُّوذيَّ نَقَلَ فيمَن قال: لا أستَطيعُ الحُكمَ بالعَدلِ: يَصيرُ الحُكمُ إلى أعدَلَ منه، قال شَيخُنا: قال بَعضُ العُلَماءِ: إذا لم يوجَدْ إلَّا فاسِقٌ عالِمٌ أو جاهِلٌ دَيِّنٌ، قُدِّمَ ما الحاجةُ إليه أكثَرُ إذَنْ، وقد وَجَدتُ بَعضَ فُضَلاءِ أصحابِنا في زَمَنِنا كَتَبَ للأُنسِ به ما يوافِقُ ذلك، وهو ما قالهُ أبو بَكرٍ الخوارِزميُّ: الوِلايةُ أُنثى تَكبُرُ وتَصغُرُ بواليها، ومَطيَّةٌ تَحسُنُ وتَقبُحُ بمُمتَطيها. فالأعمالُ بالعُمَّالِ، كما أنَّ النِّساءَ بالرِّجالِ، والصُّدورُ مَجالِسُ ذَوي الكَمالِ). ((الفروع)) (11/107،108). ويُنظر للاستِزادةِ في مَوضوعِ التَّقعيدِ لأركانِ الوِلايةِ وشُروطِ التَّوليةِ: ((السياسة الشرعية)) لابن تيمية (ص: 6-40). ، نصَّ على ذلك الجُمهورُ: المالِكيَّةُ [118] ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (1/30)، وقد تَكَلَّمَ المالِكيَّةُ في اشتِراطِ الاجتِهادِ للقاضي ما يُمكِنُ أن يُستَفادَ مِنهُ في هذه المَسألةِ؛ وذلك أنَّهم يَرَونَ في المَشهورِ مِنَ المَذهَبِ أنَّ الاجتِهادَ شَرطٌ بحَسَبِ الإمكانِ، فيُوَلَّى المُجتَهِدُ، فإن تَعَذَّرَ فأمثَلُ مُقَلِّدٍ، أمَّا على القَولِ المُعتَمَدِ فهُم لا يَشتَرِطونَ أن يَكونَ القاضي مُجتَهِدًا، لَكِنَّهم يَرَونَ أنَّه لا يَجوزُ العُدولُ عَنِ المُجتَهِدِ أو أمثَلِ مُقَلِّدٍ إن وُجِدَ. يُنظر: ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/88،89). ، والشَّافِعيَّةُ [119] ((تحفة المحتاج)) للهيتمي (10/114)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/240). ، والحَنابِلةُ [120] ((الفروع)) لابن مفلح (11/107،108)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (15/34). ، وهو مُقتضى مَذهَبِ الحَنَفيَّةِ [121] ذلك أنَّ أبرَزَ الصِّفاتِ التي يَقَعُ فيها التَّفاوُتُ أوِ التَّعَذُّرُ هيَ العَدالةُ والاجتِهادُ، والمَذهَبُ عِندَ الحَنَفيَّةِ أنَّهما لا يُشتَرَطانِ لصِحَّةِ التَّوليةِ، فيَنفُذُ قَضاءُ الفاسِقِ لفَسادِ الزَّمانِ، وأمَّا الاجتِهادُ فهو شَرطُ أولَويَّةٍ، بمَعنى أنَّه يَنفُذُ قَضاءُ المُقَلِّدِ، وإن وُجِدَ المُجتَهِدُ فهو أَولى بالوِلايةِ. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (6/283،284، 288)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/356، 365). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: من الكتابِ
1- قَولُه تعالى: لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا [البقرة: 286] .
2- قَولُه تعالى: فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ [النساء: 84] .
3- قَولُه تعالى: فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ [التغابن: 16] .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((دَعوني ما تَرَكتُكُم؛ إنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبلَكُم بسُؤالِهم واختِلافِهم على أنبيائِهم، فإذا نَهَيتُكُم عَن شَيءٍ فاجتَنِبوه، وإذا أمَرتُكُم بأمرٍ فأْتوا منه ما استَطَعتُم)) [122] أخرجه البخاري (7288) واللفظ له، ومسلم (1337). .
وَجهُ الدَّلالةِ من الآياتِ والحديثِ:
الآياتُ فيها دَلالةٌ على أنَّ المَطلوبَ شَرعًا فِعلُ الواجِبِ قَدرَ المُستَطاعِ، فإن تَعَذَّرَ فِعلُ بَعضِه أُتيَ بالبَعضِ المُستَطاعِ، وتَعَذُّرُ بَعضِ شُروطِ القَضاءِ في جَميعِ النَّاسِ سَبَبٌ لا يُمكِنُ مَعَه إلَّا الأخذُ بما تَحَقَّقَ مِنها الأمثَلُ فالأمثَلُ؛ لأنَّه هو المُستَطاعُ [123] يُنظر: ((السياسة الشرعية)) لابن تيمية (ص: 15)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (15/283). .
ثالِثًا: أنَّ الضَّرورةَ داعيةٌ إلى الأخذِ بالأمثَلِ فالأمثَلِ وإن تَخَلَّفَت بَعضُ الشُّروطِ؛ رِعايةً لمَصالِحِ المُسلِمينَ، وإلَّا لَتَعَطَّلَتِ الأحكامُ واختَلَّ النِّظامُ؛ فإنَّ شُروطَ القَضاءِ لا تَكادُ تَجتَمِعُ اليَومَ في أحَدٍ [124] يُنظر: ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (1/30)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/240)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (15/34). .

انظر أيضا: