الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الرَّابِعُ: استِتابةُ المُرتَدِّ قَبلَ قَتلِه


اختَلَف الفُقَهاءُ في استِتابةِ المُرتَدِّ [1933] واختَلَفوا في مُدَّةِ الاستِتابةِ؛ فذَهَبَ الجُمهورُ: الحَنَفيَّةُ، والمالِكيَّةُ، والحَنابِلةُ، والشَّافِعيَّةُ في قَولٍ: أنَّ مُدَّةَ الاستِتابةِ ثَلاثةُ أيَّامٍ. وذَهَبَ الشَّافِعيَّةُ، وابنُ القَصَّارِ مِنَ المالِكيَّةِ، والحَنابِلةُ في قَولٍ: يُستَتابُ في الحالِ، يَعني: لا يُؤَجَّلُ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 284)، ((منح الجليل)) لعليش (9/ 212). ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/97)، ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 481). قَبلَ قَتلِه، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: يَجِبُ أن يُستَتابَ المُرتَدُّ، فإن تابَ وإلَّا قُتِلَ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: المالِكيَّةِ -على المَشهورِ- [1934] ((التاج والإكليل)) للمواق (8/ 373)، ((منح الجليل)) لعليش (9/ 212). ، والشَّافِعيَّةِ [1935] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 293)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/97). ، والحَنابِلةِ [1936] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 481). ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/174). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الكتابِ
قَولُه تعالى: قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أمرَ اللهُ تعالى بمُخاطَبةِ الكُفَّارِ بالانتِهاءِ، ولَم يُفرِّقْ بَينَ الأصليِّ والمُرتَدِّ [1937] يُنظر: ((تكملة المجموع)) للمطيعي (19/229).  .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عن جَدِّ يَعقوبَ الزُّهريِّ، قال: (لمَّا افتَتَحَ سَعدٌ وأبو موسى رَضِيَ اللهُ عنهما تُستَرَ، أرسَلَ أبو موسى رَسولًا إلى عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه، فذَكَر حَديثًا طَويلًا، قال: ثُمَّ أقبَلَ عُمَرُ على الرَّسولِ فقال: هَل كانت عِندَكُم مِن مُغَرِّبةِ خَبَرٍ؟ قال: نَعَمْ، يا أميرَ المُؤمِنينَ، أخَذنا رَجُلًا مِنَ العَرَبِ كَفَر بَعدَ إسلامِه، قال عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه: فما صَنَعتُم به؟ قال: قَدَّمناه فضَرَبنا عُنُقَه، قال عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه: أفلا أدخَلتُموه بَيتًا ثُمَّ طَيَّنتُم عليه ثُمَّ رَمَيتُم إليه برَغيفٍ ثَلاثةَ أيَّامٍ؛ لَعَلَّه أن يَتوبَ أو يُراجِعَ أمرَ اللهِ، اللهُمَّ إنِّي لم آمُرْ، ولم أَشهَدْ، ولَم أرضَ إذ بَلَغَني) [1938] أخرجه الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (5107). صَحَّح إسنادَه العيني في ((نخب الأفكار)) (12/165). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ عُمَرَ أنكَرَ عليهم قَتلَه مُباشَرةً، وبَيَّنَ لَهم أنَّ المُرتَدَّ يُؤَجَّلُ ثَلاثةَ أيَّامٍ يُستَتابُ فيها وُجوبًا؛ لأنَّه لَو لم يَجِبْ لَما بَرِئَ مِن فِعلِهم [1939] يُنظر: ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 481)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/174). .
ثالِثًا: أنَّه أمكَنَ استِصلاحُه، فلَم يَجُزْ إتلافُه قَبلَ استِصلاحِه [1940] يُنظر: ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 481)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/174). .
رابِعًا: لأنَّ المُرتَدَّ مِمَّن عَرَف الإسلامَ، فيُحتَمَلُ أن تَكونَ عَرَضَت لَه شُبهةٌ، فتَزولُ باستِتابَتِه [1941] يُنظر: ((الإشراف على نكت مسائل الخلاف)) للقاضي عبد الوهاب (2/848)، ((الذخيرة)) للقرافي (12/40). .
القَولُ الثَّاني: يُستَحَبُّ أن يُستَتابَ المُرتَدُّ، فإن تابَ وإلَّا قُتِلَ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1942] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 284)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/ 225). ، ورِوايةٌ عِندَ المالِكيَّةِ [1943] ((تحبير المختصر)) لبهرام (5/317). ، وقَولٌ للشَّافِعيَّةِ [1944] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 293)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/97). ، ورِوايةٌ عِندَ الحَنابِلةِ [1945] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 481). ، واختارَه ابنُ العَرَبيِّ [1946] قال ابنُ العَرَبيِّ: (وهَل تَجِبُ الاستِتابةُ أم لا؟ اختَلَف العُلَماءُ فيها اختِلافًا كَثيرًا؛ فمِنهم مَن تَعَلَّق بمُطلَقِ الحَديثِ، ومِنهم مَن تَعَلَّق بقَولِ عُمَرَ، وإنَّه ليَظهَرُ فيها الاستِحبابُ، فأمَّا الإيجابُ فيَعجِزُ دَليلُه؛ لأنَّ مُعاذًا وأبا موسى خالَفا عُمَرَ وسائِرَ الصَّحابةِ؛ فمِنهم مَن سَكَتَ، ومِنهم من خالَف، فتَنقَطِعُ الحُجَّةُ، ولا يَبقى إلَّا ما يَظهَرُ مِنَ المَعنى، وهو أنَّه يُستَتابُ لَعَلَّه قدِ ارتَدَّ بشُبهةٍ فيُبَيَّنُ، فإن عاد وإلَّا قُتِلَ، وهذا الاحتِمالَ إنَّما يَسقُطُ بالاستِحبابِ، وليس بقَويٍّ). ((القبس في شرح موطأ مالك بن أنس)) (ص: 910). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: قياسًا على الكافِرِ الأصليِّ بجامِعِ إباحةِ قَتلِه [1947] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/97). .
ثانيًا: لأنَّ الدَّعوةَ قد بَلَغَته غَيرَ أنَّه يُحتَمَلُ أنَّه اعتَراه شُبهةٌ، فيُعرَضُ عليه لتُزاحَ عنه الشُّبهةُ [1948] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 284). .

انظر أيضا: