المَطلَبُ الأوَّلُ: أن يَكونَ مُكَلَّفًا
يُشتَرَطُ للحُكمِ بالرِّدَّةِ أن يَكونَ مَن وَقَع مِنه ما يوجِبُ الرِّدَّةَ مُكَلَّفًا (عاقِلًا بالِغًا).
الأدِلَّة:ِأوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((رُفِع القَلَمُ عن ثَلاثٍ: عنِ النَّائِمِ حتَّى يَستَيقِظَ، وعنِ الصَّغيرِ حتَّى يَكبَرَ، وعنِ المَجنونِ حتَّى يَعقِلَ أو يُفيقَ)) [1870] أخرجه النسائي (3432) واللَّفظُ له، وابن ماجه (2041)، وأحمد (24694). وأخرجه أبو داود (4398) بلَفظ: (وعنِ المُبتَلى حتَّى يَبرَأَ) بَدَلَ المَجنونِ، وأخرجه الحاكِمُ (2350)، والبَيهَقيُّ (12284) بلَفظ: (وعنِ المَعتوهِ حتَّى يُفيقَ). صَحَّحه الحاكِمُ وقال: على شَرط مُسلِم، وابن العَرَبيِّ في ((عارضة الأحوذي)) (3/392)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3432)، وجَوَّد إسنادَه شُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((مسند أحمد)) (24694)، وقال ابنُ كَثير في ((إرشاد الفقيهـ)) (1/89): إسنادُه على شَرطِ مُسلِم، وقال البخاري كَما في ((العلل الكبير)) للتِّرمِذيِّ (225): أرجو أن يَكونَ مَحفوظًا، وقال ابنُ حَجَرٍ في ((فتح الباري)) (12/124): له شاهِدٌ، وله طُرُقٌ يُقَوِّي بَعضُها بَعضًا. وللحَديثِ شاهِدٌ من حديثِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه. أخرجه الترمذي (1423) بلَفظ: (المَعتوهِ حتَّى يَعقِلَ)، وأخرجه أحمَد (956)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (7306)، على الشَّكِّ: (المَعتوهِ أوِ المَجنونِ حتَّى يَعقِلَ). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (1423)، وصَحَّحه لغَيرِه شُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((مسند أحمد)) (1183 )، وحَسَّنَه البخاري كما في ((العلل الكبير)) للترمذي (226)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تَخريج ((مسند أحمد)) (2/197). .
وَجهُ الدَّلالةِ:دَلَّ الحَديثُ على أنَّ غَيرَ العاقِلِ لا تَصِحُّ رِدَّتُه، ولا حُكمَ لكَلامِه
[1871] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/174). .
2- عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرِئٍ ما نَوى)) [1872] أخرجه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907). .
وَجهُ الدَّلالةِ:في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((وإنَّما لكُلِّ امرِئٍ ما نَوى)) دَلالةٌ على أنَّ غَيرَ العاقِلِ لا تَصِحُّ أفعالُه؛ لأنَّه لا نيَّةَ لَه
[1873] يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (8/195). .
ثانيًا: مِنَ الإجماعِنَقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنذِرِ
[1874] قال ابنُ المُنذِرِ: (أجمَعوا أنَّ المَجنونَ إذا ارتَدَّ في حالِ جُنونه أنَّه مُسلِمٌ على ما كان قَبلَ ذلك). ((الإجماع)) (ص: 28). ، وابنُ قُدامةَ
[1875] قال ابنُ قُدامةَ: (الرِّدَّةُ لا تَصِحُّ إلَّا مِن عاقِلٍ، فأمَّا مَن لا عَقلَ له -كالطِّفلِ الذي لا عَقلَ له، والمَجنونِ، ومَن زالَ عَقلُه بإغماءٍ أو نَومٍ أو مَرَضٍ، أو شَرِبَ دَواءً يُباحُ شُربُه- فلا تَصِحُّ رِدَّتُه، ولا حُكمَ لكَلامِه، بغَيرِ خِلافٍ). ((المغني)) (9/ 4). ، وشَمسُ الدِّينِ ابنُ قُدامةَ
[1876] قال شَمسُ الدِّينِ ابنُ قُدامةَ: (الرِّدَّةُ لا تَصِحُّ إلَّا مِن عاقِلٍ، فأمَّا الطِّفلُ الذي لا يَعقِلُ، والمَجنونُ، ومَن زالَ عَقلُه بنَومِ أو إغماءٍ، أو شُربِ دَواءٍ مُباحٍ شَرِبَه، فلا تَصِحُّ رِدَّتُه، ولا حُكمَ لكَلامِه بغَيرِ خِلافٍ). ((الشرح الكبير)) (10/ 79). ، وابنُ تَيميَّةَ
[1877] قال ابنُ تَيميَّةَ: (فأمَّا المَجنونُ والطِّفلُ الذي لا يُمَيِّزُ فأقوالُه كُلُّها لَغوٌ في الشَّرعِ، لا يَصِحُّ مِنه إيمانٌ ولا كُفرٌ، ولا عَقدٌ مِنَ العُقودِ، ولا شَيءٌ مِنَ الأقوالِ، باتِّفاقِ المُسلِمينَ). ((مجموع الفتاوى)) (14/ 115). ويُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تيمية (6/ 50). ، وابنُ الهُمامِ
[1878] قال ابنُ الهُمامِ: (المَجنونُ لا يَصِحُّ ارتِدادُه بالإجماعِ). ((فتح القدير)) (6/ 98). .
ثالِثًا: أنَّه إذا سَقَطَ عن غَيرِ العاقِلِ التَّكليفُ في العِباداتِ والإثمُ في المَعاصي فلَأَنْ يَسقُطَ الحَدُّ المَبنيُّ على الدَّرءِ والإسقاطِ بالشُّبُهاتِ أَولى
[1879] يُنظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (10/ 119). .
رابِعًا: أنَّ غَيرَ العاقِلِ لا قَولَ لَه، ولا يُمكِنُ استِتابَتُه
[1880] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 27). .
فرعٌ: حُكمُ رِدَّةِ الصَّبيِّ المُمَيِّزِاختَلَف الفُقَهاءُ في حُكمِ رِدَّةِ الصَّبيِّ المُمَيِّزِ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: يُحكَمُ برِدَّةِ الصَّبيِّ المُمَيِّزِ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ
[1881] وهو قَولُ أبي حَنيفةَ ومُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ خِلافًا لأبي يوسُفَ، ويَرى الحَنَفيَّةُ أنَّ المُمَيِّزَ لا يُقتَلُ إلَّا بَعدَ بُلوغِه. ((المبسوط)) للسرخسي (10/100)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/285). ، والمالِكيَّةِ
[1882] يَرى المالِكيَّةُ اعتِبارَ الرِّدَّةِ مِنَ الصَّبيِّ مَعَ عَدَمِ جَرَيانِ أحكامِها إلَّا بَعدَ بُلوغِه. ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/309)، ((منح الجليل)) لعليش (1/ 114). ، والحَنابِلةِ
[1883] يَرى الحَنابِلةُ -في الصَّحيحِ مِنَ المَذهَبِ- أنَّ المُمَيِّزَ لا يُقتَلُ حتَّى يُستَتابَ بَعدَ بُلوغِه. ((الإنصاف)) للمرداوي (10/330)، ((الإقناع)) للحجاوي (4/ 301)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/398). ؛ وذلك لأنَّ الصَّبيَّ المُمَيِّزَ يَصِحُّ إسلامُه، ومَن صَحَّ إسلامُه صَحَّت رِدَّتُه
[1884] ((المبسوط)) للسرخسي (10/100)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 176). .
القَولُ الثَّاني: لا يُحكَمُ برِدَّةِ الصَّبيِّ المُمَيِّزِ، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ
[1885] ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/93). ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/416). ، ورِوايةٌ عن أبي حَنيفةَ
[1886] وبه قال أبو يوسُفَ، ورُويَ أنَّ أبا حَنيفةَ رَجَعَ إلى هذا القَولِ. ((المبسوط)) للسرخسي (10/100). ((حاشية ابن عابدين)) (4/285). ، ورِوايةٌ عِندَ الحَنابِلةِ
[1887] ((الإنصاف)) للمرداوي (10/330). ، وقَولُ سحنونَ مِنَ المالِكيَّةِ
[1888] ((التاج والإكليل)) للمواق (8/ 374). ، وهو اختيارُ ابنِ عُثَيمين
[1889] قال ابنُ عُثَيمين: (والبالِغُ ضِدُّ الصَّغيرِ؛ فإنَّه إذا ارتَدَّ وهو صَغيرٌ فإنَّ ظاهرَ كَلامِ المُؤَلِّفِ أنَّه لا يَكفُرُ؛ لأنَّه غَيرُ مُكَلَّفٍ، وقد رُفِعَ عنه القَلَمُ، فلَو أنَّه أشرَكَ بأن سَجَدَ لصَنَمٍ، أو ما أشبَهَ ذلك، فإنَّنا لا نُكَفِّرُه، كَما أنَّه لَو تَرَكَ الصَّلاةَ لا يكفرُ، وعلى هذا فلا تَصِحُّ رِدَّةُ غَيرِ البالِغِ، وهذا ظاهِرُ كَلامِ المُؤَلِّفِ، وهو الصَّحيحُ. ولَكِنَّ المَذهَبَ أنَّ رِدَّةَ الصَّغيرِ المُمَيِّزِ مُعتَبَرةٌ، ولَكِنَّه لا يُدعى إلى الإسلامِ إلَّا بَعدَ بُلوغِه، ويُستَتابُ، فإن تابَ وإلَّا قُتِلَ. وهناكَ قَولٌ ثالِثٌ في مَسألةِ الصَّغيرِ: أنَّ رِدَّتَه مُعتَبَرةٌ، ويُدعى إلى الإسلامِ، فإن تابَ وإلَّا قُتِلَ، فالأقوالُ إذا ثَلاثةٌ، ولَكِنَّ القَولَ الصَّحيحَ أنَّ رِدَّتَه غَيرُ مُعتَبَرةٍ؛ لعُمومِ الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على رَفعِ الجُناحِ عنِ الصَّغيرِ). ((الشرح الممتع)) (14/445-446). .
الأدِلَّة:ِأوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ1- عن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ: لَقد عَلِمتَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((رُفِع القَلَمُ عن ثَلاثةٍ: عنِ الصَّبيِّ حتَّى يَبلُغَ، وعنِ النَّائِمِ حتَّى يَستَيقِظَ، وعنِ المَعتوهِ حتَّى يَبرَأَ)) [1890] أخرجه أبو داود (4402) واللَّفظُ له، وأحمد (1328) بنحوه. صَحَّحه ابنُ حَزمٍ في ((المحلى)) (9/206)، والنووي في ((المجموع)) (6/253)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/767)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4402)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4402). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أخبَرَ أنَّ القَلَمَ مَرفوعٌ عنِ الصَّبيِّ حتَّى يَحتَلِمَ، وفي إيجابِ الحَدِّ إجراءُ القَلَمِ عليه، وهذا خِلافُ النَّصِّ
[1891] يُنظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/416)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (14/445). .
ثانيًا: لأنَّ الحَدَّ عُقوبةٌ، فيَستَدعي جِنايةً، وفِعلُه لا يوصَفُ بالجِناياتِ؛ ولِهذا لم يَجِبْ عليه سائِرُ الحُدودِ، كَذا هذا
[1892] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/67). .
ثالِثًا: أنَّه إذا سَقَطَ عن غَيرِ البالِغِ التَّكليفُ في العِباداتِ والإثمُ في المَعاصي فلَأَنْ يَسقُطَ الحَدُّ المَبنيُّ على الدَّرءِ والإسقاطِ بالشُّبُهاتِ أَولى
[1893] يُنظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (10/ 119). .
رابِعًا: أنَّ الإسلامَ فيه نَفعٌ للصَّبيِّ المُمَيِّزِ، والكُفرُ فيه ضَرَرُه، ويَجوزُ تَصَرُّفُه النَّافِعُ دونَ الضَّارِّ
[1894] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/100). .