الفَرعُ الأوَّلُ: دَفعُ الصَّائِلِ على النَّفسِ
اختَلَف الفُقَهاءُ في حُكمِ دَفعِ الصَّائِلِ على النَّفسِ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: يَجِبُ دَفعُ الصَّائِلِ على النَّفسِ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ
[1666] ((الهداية)) للمرغيناني (4/ 448)، ((حاشية ابن عابدين)) (6/ 545). ، والحَنابِلةِ -في الأصَحِّ-
[1667] يَرى الحَنابِلةُ -في الأصَحِّ مِنَ المَذهَبِ- أنَّه يَجِبُ دَفعُ الصَّائِلِ على النَّفسِ في غَيرِ حالِ الفِتنةِ، أمَّا في الفِتنةِ فلا يَجِبُ. ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 304)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 155). ، وقَولٌ للمالِكيَّةِ
[1668] وهذا القَولُ رَجَّحَه القُرطُبيُّ وابنُ فرسٍ. ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/ 323)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/ 357). ، وقَولٌ للشَّافِعيَّةِ
[1669] مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ وُجوبُ دَفعِ الصَّائِل إذا كان كافِرًا أو بَهيمةً، وعَدَمُ الوُجوبِ إن كان مُسلِمًا، في أظهَرِ القَولَينِ في المَذهَبِ. ((روضة الطالبين)) للنووي (10/ 188)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/ 183 - 184). ، واختارَه ابنُ عُثَيمين
[1670] قال ابنُ عُثَيمين: (هَل يَجِبُ قَتلُ الصَّائِلِ إذا صالَ؟ بمَعنى: هَل يَلزَمُ الإنسانَ أن يُدافِعَ عن نَفسِه أو لا؟ الجَوابُ: أمَّا أهلُه وحُرمَتُه ونَفسُه فيَجِبُ أن يُدافِعَ، وأمَّا المالُ فمُختَلَفٌ فيه، والصَّحيحُ: أنَّه يَجِبُ أن يُدافِعَ عن مالِهـ). ((الشرح الممتع)) (10/219). .
الأدِلَّة:ِ أوَّلًا: مِنَ الكتابِ 1- قال اللهُ تعالى:
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: 193] .
وَجهُ الدَّلالةِ: أمرَ اللهُ تعالى بالقِتالِ لنَفيِ الفِتنةِ، ومِنَ الفِتنةِ قَصدُ قَتلِ النَّاسِ بغَيرِ حَقٍّ
[1671] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/45). .
2- قَولُه تعالى:
وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] .
وَجهُ الدَّلالةِ: دَلَّت هذه الآيةُ على تَحريمِ قَتلِ النَّفسِ، وكما يَحرُمُ على الإنسانِ قَتلُ نَفسِه فيَحرُمُ عليه إباحةُ قَتلِها
[1672] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 155). .
3- قَولُه تعالى:
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32] .
وَجهُ الدَّلالةِ: تَضَمَّنَتِ الآيةُ إباحةَ قَتلِ المُفسِدِ في الأرضِ، ومِن أعظَمِ الفسادِ قَصدُ قَتلِ النَّفسِ المُحَرَّمةِ، فثَبَتَ بذلك أنَّ القاصِدَ لقَتلِ غَيرِه ظُلمًا مُستَحِقٌّ للقَتلِ مُبيحٌ لدَمِه
[1673] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/50). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ عن سَعيدِ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن قُتِلَ دونَ مالِه فهو شَهيدٌ، ومَن قُتِلَ دونَ دينِه فهو شَهيدٌ، ومَن قُتِلَ دونَ دَمِه فهو شَهيدٌ، ومَن قُتِل دونَ أهلِه فهو شَهيدٌ )) [1674] أخرجه أبو داود (4772)، والترمذي (1421) واللفظ له، والنسائي (4095). صَحَّحه ابنُ تَيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (28/540)، وابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/324)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1421)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (434). .
وَجهُ الدَّلالةِ: الحَديثُ دَليلٌ على أنَّ مَن يُدافِعُ عن نَفسِه فيُقتَلُ فهو شَهيدٌ، ولا يَكونُ مَقتولًا دونَ دَمِه إلَّا وقد قاتَلَ دونَه، ولا يَكونُ شَهيدًا إلَّا وهو مَأمورٌ بالقِتالِ
[1675] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/45، 48)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/ 323). .
ثالِثًا: لأنَّه بالدِّفاعِ عن نَفسِه قدَرَ على إحيائِها، فوجَبَ عليه فِعلُ ما يَتَّقي به قياسًا على المُضطَرِّ لأكلِ المَيتةِ
[1676] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/155). .
القَولُ الثَّاني: يَجوزُ دَفعُ الصَّائِلِ على النَّفسِ ولا يَجِبُ، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ -في الأظهَرِ-
[1677] مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ وُجوبُ دَفعِ الصَّائِلِ إذا كان كافِرًا أو بَهيمةً، وعَدَمُ الوُجوبِ إن كان مُسلِمًا، في أظهَرِ القَولَينِ في المَذهَبِ. ((روضة الطالبين)) للنووي (10/ 188)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/ 183 - 184). ، وقَولٌ للمالِكيَّةِ
[1678] ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/ 323)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير)) (4/ 357). ، ورِوايةٌ عِندَ الحَنابِلةِ
[1679] ((الفروع لابن مفلح وتصحيح الفروع للمرداوي)) (10/ 161)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 304). .
الأدِلَّة:ِ أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ عن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعةِ فِتَنًا كقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، يُصبِحُ الرَّجُلُ فيها مُؤمِنًا ويُمسي كافِرًا، ويُمسي مُؤمِنًا ويُصبِحُ كافِرًا، القاعِدُ فيها خَيرٌ مِنَ القائِمِ، والقائِمُ فيها خَيرٌ مِنَ الماشي، والماشي فيها خَيرٌ مِنَ السَّاعي؛ فكَسِّروا قِسِيَّكُم، وقَطِّعوا أوتارَكُم، واضرِبوا بسُيوفِكُمُ الحِجارةَ، فإن دُخِل على أحَدِكُم فليَكُنْ كَخَيرِ ابنَي آدَمَ )) [1680] أخرجه أبو داود (4259)، والترمذي (2204)، وابن ماجه (3961) واللفظ له. صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (5962)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (101)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (3961)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4259)، وقال الترمذيُّ: حَسَنٌ غَريبٌ صَحيح. .
وَجهُ الدَّلالةِ: الحَديثُ دَليلٌ على تَركِ الدِّفاعِ اقتِداءً بخَيرِ ابنَي آدَمَ
[1681] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/ 184). .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ قَولُ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه لأرِقَّائِه لمَّا أرادوا الدِّفاعَ عنه: (إنَّ أفضَلَكُم عنِّي غَناءً مَن كَفَّ يَدَه وسِلاحَهـ)
[1682] أخرجه سعيد بن منصور (2945)، ونعيم بن حماد في ((الفتن)) (441) واللفظ له، وابن أبي شيبة (32701). .
وَجهُ الدَّلالةِ: فيه دَليلٌ على عَدَمِ وُجوبِ الدَّفعِ؛ حَيثُ استَسلَمَ عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه
[1683] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/ 184). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش