موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: الذِّكرُ والحذْفُ


الأصْلُ في بناءِ الجُملةِ أنْ تكونَ مُحدَّدةَ الأرْكانِ، واضِحةَ المَعالِمِ، بحيثُ لا يُؤدِّي عدَمُ ذلك إلى اللَّبْسِ أو نقْصِ المَعْنى، اللَّذَين يَنْفيانِ عنِ الكَلامِ الفَصاحةَ والبَلاغَةَ؛ ولِذلك كان ذكْرُ أرْكانِ الجُملةِ واجِبًا على المُتكلِّم، لكنَّه قد يَجوزُ العُدولُ عن هذا الواجِبِ والتَّسامحُ فيه إذا كان المَعْنى واضِحًا بدُونِه، وكما قِيل: «البَلاغَةُ: الإيجازُ».
وللحذْفِ غايَتانِ رئيْسَتانِ:
1- أنَّه وَسيلَةٌ مِنَ الوَسائِلِ الفنِّيَّةِ في التَّعبيرِ الأدبيِّ، يَلجأ إليها الأدِيبُ بوحْيٍ مِن ذوْقِه للإيْحاءِ بِما لدَيه مِن مَعانٍ وأغْراضٍ.
2- أنَّ في الحذْفِ تَنْشيطًا لخَيالِ المُتلقِّي ودعْوى غيرَ مُباشِرةٍ له للحدْسِ بِهذا المَحْذوفِ، واكْتِشافِ ما وراء حذْفِه مِن أسْرارٍ.
ومِنَ المُسلَّماتِ والبَدَهيَّاتِ أنَّ الحذْفَ لا يَجوزُ ولا يَجمُلُ إلَّا إذا دلَّ عليه دَليلٌ، أيْ: إذا كانت هُناك قَريْنةٌ مَقاليَّةٌ أو حاليَّةٌ تُبيِّنُ للقارِئِ أوِ السَّامِعِ مَوضعَ الحذْفِ وتَقديرَ المَحذوفِ، فإذا افتقَدَ الأسْلوبُ الدَّليلَ على المَحْذوفِ كان قَبيحًا، وصار باعِثًا على التَّعْميةِ والغُموضِ لا وَسيلةً مِن وَسائِلِ الإيْحاءِ والجَمالِ الفنِّيِّ [143] ينظر: ((علم المعاني في الموروث البلاغي)) (ص: 105، 106). .
قال عبدُ القاهرِ الجُرْجانيُّ عنِ الحذْفِ: (هو بابٌ دَقيقُ المَسْلَكِ، لَطيفُ المَأخَذِ، عَجيبُ الأَمرِ، شَبيهٌ بالسِّحْرِ؛ فإنَّك تَرى به ترْكَ الذكْرِ أَفصَحَ مِن الذِّكرِ، والصَّمتَ عنِ الإفادةِ أَزيَدَ للإِفادةِ، وتَجِدُكَ أنطَقَ ما تكونُ إِذا لم تَنطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بَيانًا إذا لم تُبِنْ، وهذه جُملةٌ قد تُنكِرُها حتَّى تَخبُرَ [144] خَبَرَ الأَمْرَ: عَلِمَه، وبابُه نصَرَ، والاسمُ: الخُبْرُ، بالضَّمِّ، وهو العِلمُ بالشَّيءِ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 87). ، وتَدفعُها حتَّى تَنظُرَ) [145] ((دلائل الإعجاز)) (ص: 145، 146). .
والحذْفُ على ثَلاثةِ أنواعٍ:
1- حذْفُ جزْءٍ مِنَ الكَلمةِ أو ما يُنزَّلُ مَنْزِلةَ الجزْءِ مِنَ الكَلمةِ.
2- حذْفُ جزءٍ مِنَ الجُملةِ: المُسنَدِ إليه، أوِ المُسنَدِ، أو أحَدِ مُتعلِّقاتِ الفِعلِ، كالمَفعولِ أوِ الحالِ أو التَّمييزِ ونحْوِ ذلك.
3- حذْفُ جُملةٍ أو أكْثرَ.
النَّوعُ الأوَّلُ: حذْفُ جزْءٍ مِنَ الكَلمةِ، أو ما يُنزَّلُ مَنْزِلةَ الجزْءِ مِنَ الكَلمةِ:
تَناوَل البَلاغيُّونَ هذا النَّوعَ في مَواطِنَ مُتفرِّقةٍ مِن كُتُبِهم، ولم يُفرِدوا له مَبْحثًا خاصًّا به كما أفْردوا للنَّوعَين الآخَرَين.
فمِن ذلك حذْفُ حرْفِ النِّداءِ، كما في قولِه تعالى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [يوسف: 29] ، قيل: حذَف منه حرْفَ النِّداءِ لقُربِه، وتَفطُّنِه للحَديثِ؛ ففيه تَقْريبٌ له وتَلْطيفٌ لمَحلِّه [146] ينظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/ 161)، ((تفسير النسفي)) (2/ 106). . وقولِه تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [ق: 31 - 34] ، فقد جوَّز الزَّمَخْشريُّ أنْ يكونَ قولُه: مَنْ خَشِيَ منادًى، كقَولِهم: مَن لا يزالُ مُحسنًا أحْسِنْ إليَّ، أي: يا مَنْ... وحذَف حرْفَ النِّداءِ للتَّقْريبِ [147] ينظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/ 390). .
ومِن ذلك تَرْخيمُ المُنادى [148] يُنظَر: ترخيم المنادى وكيفيته في ((علم النحو)) من هذه الموسوعة. ، كما في قولِه تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف: 77] ، فقد قُرِئ في الشَّاذِ (يا مالِ) بالتَّرْخيمِ، وقد علَّل ذلك بأنَّه إشْعارٌ بأنَّهم -لضَعْفِهم- لا يَسْتطيعونَ تَأديةَ اللَّفظِ بالتَّمامِ، ولِذلك اخْتَصروا [149] ينظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/ 264)، ((تفسير البيضاوي)) (5/ 96). .
وقولِ امرِئِ القَيْسِ: الطويل
أفاطِمَ مَهلًا بعضَ هذا التَّدلُّلِ
وإنْ كنتِ قدْ أزمعْتِ صَرْمي فأجْمِلي [150] مهلًا، أي: رفقًا. الإدلالُ والتدليلُ: أن يَثِقَ الإنسانُ بحُبِّ غيرِه إيَّاه فيؤذيه على حَسَبِ ثِقَتِه به. أزمعْتُ الأمرَ وأزمعْتُ عليه: وطَّنْتُ نفسي عليه. يقولُ: يا فاطمةُ دَعِي بَعْضَ دلالِك، وإن كنتِ وطَّنْتِ نَفْسَكِ على فراقي فأجمِلي في الهِجْرانِ. ينظر: ((شرح ديوان امرئ القيس)) للمصطاوي (ص: 32).
فرخَّم وقال: «أفَاطِمَ» إقامةً للوزْنِ وإظهارًا لمَعْنى التَّحبُّبِ.
ومن ذلك حذْفُ حرْفِ العلَّةِ من آخِرِ الفِعلِ، كما في قولِه تعالى: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر: 1-4] ، أيْ: واللَّيلِ إذا يَسْري؛ فحُذِفتِ الياءُ تَخفيفًا ومُراعاةً لرُؤوسِ الآيِ، ففَواصِلُ القُرآنِ كالأسْجاعِ في النَّثرِ، والأسْجاعُ تُعامَلُ مُعاملةَ القَوافي، قال أبو عليٍّ الفارِسيُّ: وليس إثْباتُ الياءِ في الوقْفِ بأحسنَ مِنَ الحذْفِ، وجَميعُ ما لا يُحذَفُ وما يُخْتارُ فيه ألَّا يُحذَفَ (نحْوُ القاضِ بالألفِ واللَّامِ) يُحذَفُ إذا كان في قَافيةٍ أو فاصِلةٍ، فإنْ لم تكنْ فاصِلةً فالأحسنُ إثْباتُ الياءِ [151] ينظر: ((الكتاب)) لسيبويه (4/ 184، 185)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (6/ 404)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 316). .
ومن ذلك حذْفُ حرْفِ النَّفيِ إذا كان مَعْلومًا مِنَ السِّياقِ، كما في قولِه تعالى: قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ [يوسف: 85] ، أيْ: لا تَفتَأُ، أيْ: لا تَزالُ، قال ابنُ عاشورٍ: (جَوابُ القسَمِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ فيه حرْفُ النَّفيِ مُقدَّرٌ بقَرينةِ عدَمِ قرْنِه بنُونِ التَّوْكيد؛ لأنَّه لو كان مُثْبتًا لَوَجَب قرْنُه بنُونِ التَّوكيدِ، فحذَف حرْفَ النَّفيِ هنا) [152] ((تفسير ابن عاشور)) (13/ 44). ؛ ففي الآيةِ فنٌّ مِن فُنونِ البَلاغةِ يُسمَّى بائتِلافِ اللَّفظِ معَ المَعْنى، وهو تَلاؤُمُ ألْفاظِ المَعْنى الْمُرادِ بعضِها معَ بعضٍ ليس فيها لفْظةٌ نابِيةٌ أو قَلِقَةٌ عن أخَواتِها بحيثُ يُمكِنُ اسْتبدالُها؛ فإنَّه سُبحانَه لمَّا أتَى بأغْربِ ألْفاظِ القسَمِ بالنِّسبةِ إلى أخواتِها وهي التَّاءُ؛ لأنَّ الواوَ والباءَ أكْثرُ دَورانًا على الألْسنةِ منها- أتَى سُبحانَه بأغْرَبِ صِيَغِ الأفْعالِ النَّاقصةِ الَّتي تَرفَعُ الأسْماءَ وتَنصِبُ الأخْبارَ بالنِّسبةِ إلى أخواتِها وهِي (تفتَأُ)، وحذَف منها حرْفَ النَّفيِ زِيادةً في الإغْرابِ، ولأنَّ المَقامَ لا يَلتبِسُ بالإثْباتِ، وكذلك لفْظةُ حَرَضًا أغْربُ مِن جَميعِ أخَواتِها مِن ألْفاظِ الهَلاكِ؛ فاقْتَضى حُسنُ النَّظمِ وحُسنُ الوضعِ فيه أنْ تُجاوَرَ كلُّ لَفظةٍ بلَفظةٍ مِن جِنْسِها في الغَرابةِ والاسْتِعمالِ؛ تَوخِّيًا لحُسنِ الجِوارِ، ورَغبةً في ائتلافِ المَعاني بالألْفاظِ، ولتَتعادلَ الألفاظُ في الوضْعِ، وتتناسَبَ في النَّظمِ [153] ينظر: ((التحرير والتحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 195 - 196)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/ 37 - 40). .
ومن ذلك حذْفُ ياءِ المُتكلِّمِ، كما في قولِه تعالى: وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الحج: 44] ، وقولِه سُبحانَه: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [سبأ: 45] ، وقولِه جلَّ شأنُه: ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [فاطر: 26] ، وقولِه عزَّ وجلَّ: فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر: 16-18-21-30]؛ مُراعاةً لرُؤوسِ الآياتِ؛ فالأصْلُ: نَكِيري، ونُذُرِي [154] ينظر: ((خصائص التركيب)) لمحمد أبو موسى (ص: 154 - 159)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكة (ص: 330 - 333). .
النَّوعُ الثَّاني: حذْفُ جزءٍ مِنَ الجُملةِ، وهُو ثَلاثةُ مَباحِثَ: حذْفُ المُسنَدِ إليه، وحذْفُ المُسنَدِ، وحذْفُ المَفعولِ.

انظر أيضا: