الموسوعة العقدية

 الاسْتِهْزَاءُ بِالكَافِرِينَ

صفةٌ فِعليَّةٌ ثابتةٌ للهِ عزَّ وجلَّ في كِتابِه العزيزِ.
الدَّليلُ:
قولُه تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: 14-15] .
قال ابنُ فارسٍ: (الهُزْءُ: السُّخريَّةُ، يُقالُ: هزِئَ به واستهزَأَ) [1555] يُنظر: ((مجمل اللغة)) (ص: 904). .
وقال ابنُ جَريرٍ في تفسيرِ الآيةِ -بعد أن ذكَرَ الاختلافَ في صفةِ الاستهزاءِ-: (الصَّوابُ في ذلك مِن القولِ والتَّأويلِ عندنا: أنَّ معنى الاستهزاءِ في كلامِ العرَبِ: إظهارُ المستهزِئِ للمستَهْزَأِ به مِن القَولِ والفِعلِ ما يُرضيه ويوافِقُه ظاهِرًا، وهو بذلك مِن قِيلِه وفِعلِه به مُورِّثُه مَساءَةً باطنًا، وكذلك معنى الخِداعِ والسُّخريَّةِ والمَكْرِ... وأمَّا الَّذين زعَموا أنَّ قولَ اللهِ تعالى ذِكْرُه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] إنَّما هو على وجهِ الجوابِ، وأنَّه لم يكُنْ مِن اللهِ استهزاءٌ ولا مَكْرٌ ولا خديعةٌ؛ فنافُونَ عنِ اللهِ عزَّ وجلَّ ما قد أثبَتَه اللهُ عزَّ وجلَّ لنَفْسِه وأوجَبَه لها، وسواءٌ قال قائلٌ: لم يكُنْ مِن اللهِ جلَّ ذِكرُه استهزاءٌ ولا مَكْرٌ ولا خديعةٌ ولا سُخريَّةٌ بمَن أخبَرَ أنَّه يستهزِئُ ويسخَرُ ويمكُرُ به، أو قال: لم يخسِفِ اللهُ بمَن أخبَرَ أنَّه خسَفَ به مِن الأُمَمِ، ولم يُغرِقْ مَن أخبَرَ أنَّه أغرَقَه منهم.
ويُقالُ لقائلِ ذلك: إنَّ اللهَ جلَّ ثناؤُه أخبَرَنا أنَّه مكَرَ بقومٍ مضَوْا قبْلَنا لم نَرَهم، وأخبَرَ عن آخَرينَ أنَّه خسَفَ بهم، وعن آخَرينَ أنَّه أغرَقَهم، فصدَّقْنا اللهَ تعالى ذِكْرُه فيما أخبَرَنا به مِن ذلك، ولم نُفرِّقْ بيْن شيءٍ منه، فما بُرهانُكَ على تفريقِكَ ما فرَّقْتَ بينَه، بزعمِكَ: أنَّه قد أغرَقَ وخسَفَ بمَنْ أخبَرَ أنَّه أغرَقَه وخسَفَ به، ولم يمكُرْ بمَن أخبَرَ أنَّه قد مكَرَ به؟!) [1556] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/315-317). .
وقال أبو القاسِمِ الأصبهانيُّ: (وتولَّى الذَّبَّ عنهم «أي: عنِ المؤمنينَ» حين قالوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة: 14] ، فقال: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] ، وقال: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة: 79] ، وأجاب عنهم فقال: أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ [البقرة: 13] ؛ فأجَلَّ أقدارَهم أن يُوصَفوا بصفةِ عيبٍ، وتولَّى المجازاةَ لهم، فقال: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] ، وقال: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة: 79] ؛ لأنَّ هاتينِ الصِّفتينِ إذا كانتا مِن اللهِ لم تكُنْ سَفَهًا؛ لأنَّ اللهَ حكيمٌ، والحكيمُ لا يفعَلُ السَّفَهَ، بل ما يكونُ منه يكونُ صوابًا وحِكمةً) [1557] يُنظر: ((الحجة في بيان المحجة)) (1/ 181). .
وقال ابنُ تيميَّةَ ردًّا على الَّذين يدَّعون أنَّ هناك مَجازًا في القُرآنِ: (وكذلك ما ادَّعَوْا أنَّه مجازٌ في القُرآنِ كلفظِ «المَكْرِ» و«الاستهزاءِ» و«السُّخريَّةِ» المُضافِ إلى اللهِ، وزعَموا أنَّه مُسمًّى باسمِ ما يُقابِلُه على طريقِ المَجازِ، وليس كذلك، بل مُسمَّياتُ هذه الأسماءِ إذا فُعِلَتْ بمَن لا يستحِقُّ العقوبةَ، كانت ظُلمًا له، وأمَّا إذا فُعِلَتْ بمَن فعَلَها بالمَجنيِّ عليه؛ عقوبةً له بمِثلِ فِعْلِه، كانت عَدْلًا، كما قال تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف: 76] ، فكادَ له كما كادَتْ إخوتُه لَمَّا قال له أبوه: لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف: 5] ، وقال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق: 15-16] ، وقال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ [النمل: 5051]، وقال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة: 79] .
ولهذا كان الاستهزاءُ بهم فِعلًا يستحِقُّ هذا الاسمَ، كما رُوِيَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ: أنَّه يُفتَحُ لهم بابٌ مِن الجنَّةِ وهم في النَّارِ، فيُسرِعونَ إليه، فيُغلَقُ، ثم يُفتَحُ لهم بابٌ آخَرُ، فيُسرِعونَ إليه، فيُغلَقُ، فيضحَكُ منهم المؤمنونَ.
قال تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين: 34-36] .
وعنِ الحسَنِ البَصريِّ: إذا كان يومُ القيامةِ خَمَدَتِ النَّارُ لهم كما تخمُدُ الإِهالةُ مِن القِدرِ، فيَمشُونَ، فيُخسَفُ بهم.
وعن مُقاتِلٍ: إذا ضُرِبَ بينهم وبين المؤمنينَ بسُورٍ له بابٌ باطنُه فيه الرَّحمةُ، وظاهِرُه مِن قِبَلِه العذابُ، فيَبقَونَ في الظُّلمةِ، فيُقالُ لهم: ارجِعوا وراءَكم فالتمِسوا نورًا.
وقال بعضُهم: استهزاؤُه: استدراجُه لهم. وقيل: إيقاعُ استهزائِهم، وردُّ خِداعِهم ومَكْرِهم عليهم. وقيل: إنَّه يُظهِرُ لهم في الدُّنيا خلافَ ما أبطَنَ في الآخِرةِ. وقيل: هو تجهيلُهم وتخطئتُهم فيما فعَلوه. وهذا كلُّه حقٌّ، وهو استهزاءٌ بهم حقيقةً) [1558] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/111)، ويُنظر: كلامَ ابن القيِّم في صفة (الخِداع) وكلامَه في ((مختصر الصواعق)) (ص: 404). .

انظر أيضا: