المبحثُ الثَّالِثُ: دُخولُ أزواجِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في آلِ البَيتِ
تعدَّدَت الأدِلَّةُ من الكِتابِ والسُّنَّةِ، الدَّالَّةُ على دخولِ أزواجِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في آلِ بيتِه، منها:
أولًا: من القُرآنِ الكريمِ: قَولُ اللهِ تعالى:
يَا نِسَاءَ النَّبِيّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا [الأحزاب: 32 - 34] .
عن عِكِرمةَ عنِ
ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في قَولِه:
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا قال: (نزلت في أزواجِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاصَّةً). قال عِكْرِمةُ: (من شاء باهَلْتُه أنَّها نزلت في نساءِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
.
قال
السَّمعانيُّ: (قَولُه:
عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ هذا دليلٌ على أنَّ الأزواجَ يجوزُ أن يُسَمَّينَ أهلَ البيتِ، وزعَمَتِ الشِّيعةُ في قَولِه تعالى:
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ أنَّ الأزواجَ لا يدخُلْنَ في هذا، وهذه الآيةُ دليلٌ على أنَّهنَّ يدخُلْنَ فيها)
.
وقال
الزَّمخشريُّ: (في هذا دليلٌ بيِّنٌ على أنَّ نِساءَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أهلِ بَيتِهـ)
.
وقال
القُرطبيُّ: (الذي يظهَرُ مِنَ الآيةِ أنَّها عامَّةٌ في جميعِ أهلِ البَيتِ مِنَ الأزواجِ وغَيرِهم. وإنما قال:
وَيُطَهِّرَكُمْ؛ لأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعَلِيًّا و
حَسَنًا وحُسَينًا كان فيهم، وإذا اجتمعَ المذكَّرُ والمؤنَّثُ غُلِّب المذَكَّرُ، فاقتَضَت الآيةُ أن َّالزَّوجاتِ مِن أهلِ البَيتِ؛ لأنَّ الآيةَ فيهنَّ والمخاطَبةُ لهُنَّ، يدُلُّ عليه سياقُ الكلامِ... فالآياتُ كُلُّها من قَولِه:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ -إلى قَولِه-:
إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا منسوقٌ بَعْضُها على بعضٍ. فكيف صار في الوَسَطِ كلامٌ منفَصِلٌ لغَيرِهنَّ؟! وإنما هذا شيءٌ جرى في الأخبارِ أنَّ النَّبِيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمَّا نزلت عليه هذه الآيةُ دعا عليًّا و
فاطِمةَ و
الحَسَنَ والحُسَينَ، فعَمَد النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى كِساءٍ فلَفَّها عليهم، ثُمَّ ألوى بيَدِه إلى السَّماءِ، فقال:
((اللهُمَّ هؤلاء أهلُ بيتي ، اللَّهُمَّ أذهِبْ عنهم الرِّجْسَ وطهِّرْهم تطهيرًا ))
. فهذه دعوةٌ مِنَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهم بعد نزولِ الآيةِ، أحَبَّ أن يُدخِلَهم في الآيةِ التي خوطِبَ بها الأزواجُ، فذهب الكَلبيُّ ومن وافقه فصَيَّرها لهم خاصَّةً، وهي دعوةٌ لهم خارجةٌ مِنَ التنزيلِ)
.
وقال
البيضاويُّ: (تخصيصُ الشِّيعةِ أهلَ البَيتِ ب
فاطِمةَ وعليٍّ وابنَيْهما رَضِيَ اللهُ عنهم: ضعيفٌ؛ لأنَّ التخصيصَ بهم لا يناسِبُ ما قَبْلَ الآيةِ وما بَعْدَها، والحديثُ يقتضي أنَّهم من أهلِ البَيتِ، لا أنَّه ليس غيرُهم)
.
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (هذا السِّياقُ يدُلُّ على أنَّ أزواجَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أهلِ بَيْتِه؛ فإنَّ السِّياقَ إنَّما هو في مخاطَبَتِهنَّ، ويدُلُّ على أنَّ قوَلهَ:
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ عمَّ غيرَ أزواجِه، كعَلِيٍّ و
فاطمةَ و
حَسَنٍ وحُسَينٍ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ لأنَّه ذكَرَه بصيغةِ التذكيرِ لَمَّا اجتَمَع المذكَّرُ والمؤنَّثُ، وهؤلاء خُصُّوا بكونِهم من أهِل البَيتِ مِن أزواجِه؛ فلهذا خصَّهم بالدُّعاءِ لَمَّا أدخَلَهم في الكِساءِ، كما أنَّ مَسجِدَ قُباءٍ أُسِّسَ على التقوى، ومَسجِدَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيضا أُسِّس على التقوى، وهو أكمَلُ في ذلك، فلما نزَلَ قَولُه تعالى:
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 108] بسَبَبِ مَسجِدِ قُباءٍ، تناوَلَ اللَّفظُ لِمَسجِدِ قُباءٍ ولِمَسجِدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بطريقِ الأَوْلى. وقد تنازع العُلَماءُ: هل أزواجُه من آلِه؟ على قولينِ، هما روايتانِ عن
أحمَدَ، أصَحُّهما أنهُنَّ مِن آلِه وأهلِ بَيْتِه، كما دَلَّ على ذلك ما في الصَّحيحَينِ مِن قَولِه:
((اللهُمَّ صَلِّ على محمَّدٍ وعلى أزواجِه وذُرِّيَّتِهـ))
.
وقال
ابنُ كثيرٍ: (هذا نصٌّ في دخولِ أزواجِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أهلِ البيتِ هاهنا؛ لأنهنَّ سببُ نزولِ هذه الآيةِ، وسَبَبُ النزولِ داخِلٌ فيه قولًا واحدًا... لا يشكُّ فيه من تدبَّرَ القرآنَ أنَّ نساءَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم داخلاتٌ في قَولِه تعالى:
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، فإنَّ سياقَ الكلامِ معهنَّ... ولكِنْ إذا كان أزواجُه من أهلِ بيتِه، فقرابتُه أحقُّ بهذه التسميةِ)
.
وقال
ابنُ عاشور: (أهلُ البيتِ أزواجُ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والخِطابُ موجَّهٌ إليهنَّ، وكذلك ما قَبْلَه وما بَعْدَه، لا يخالِطُ أحدًا شكٌّ في ذلك، ولم يفهَمْ منها أصحابُ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والتابعون إلَّا أنَّ أزواجَ النَّبِيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هنَّ المرادُ بذلك، وأنَّ النُّزولَ في شأنِهن.َّ... وفي صحيحِ
مُسلِمٍ عن
عائِشةَ: خرج رسولُ اللهِ غَداةً وعليه مِرطٌ مُرحَّلٌ، فجاء
الحَسَنُ فأدخلَه، ثُمَّ جاء الحُسَينُ فأدخله، ثُمَّ جاءت
فاطِمةُ فأدخَلَها، ثُمَّ جاء عليٌّ فأدخله، ثُمَّ قال:
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا
فمَحمَلُه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ألحق أهلَ الكِساءِ بحُكمِ هذه الآيةِ، وجعلهم أهلَ بيتِه كما ألحقَ المدينةَ بمكَّةَ في حُكمِ الحَرَميَّةِ بقَولِه:
((إنَّ إبراهيمَ حرَّم مكَّةَ، وإني أُحرِّمُ ما بين لابَتَيْها ))
... ويكونُ هذا من حملِ القُرآنِ على جميعِ محامِلِه غيرِ المتعارِضةِ... وبهذا يتَّضِحُ أنَّ أزواجَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هنَّ آلُ بيتِه بصريحِ الآيةِ، وأنَّ
فاطِمةَ وابنَيْها وزوجَها مجعولون أهلَ بيتِه بدُعائِه أو بتأويلِ الآيةِ على محامِلِها؛ ولذلك هم أهلُ بيتِه بدليلِ السُّنَّةِ... وقد تلقَّف الشِّيعةُ حديثَ الكِساءِ فغَصَبوا وَصْفَ أهلِ البيتِ وقَصَروه على
فاطِمةَ وزَوجِها وابنَيهما عليهم الرِّضوانُ، وزَعَموا أنَّ أزواجَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَسْنَ من أهلِ البيتِ! وهذه مصادَمةٌ للقُرآنِ بجَعلِ هذه الآيةِ حَشوًا بين ما خوطِبَ به أزواجُ النَّبِيِّ، وليس في لفظِ حديثِ الكِساءِ ما يقتضي قَصْرَ هذا الوَصفِ على أهل ِالكِساءِ؛ إذ ليس في قَولِه:
((هؤلاء أهلُ بيتي )) صيغةُ قَصرٍ، وهو كقَولِه تعالى:
إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي [الحجر: 68] ليس معناه: ليس لي ضيفٌ غَيرُهم، وهو يقتضي أن تكونَ هذه الآيةُ مبتورةً عمَّا قبلَها وما بَعْدَها! ويَظهَرُ أنَّ هذا التوَهُّمَ مِن زمَنِ عَصرِ التابعينَ، وأنَّ منشَأَه قراءةُ هذه الآيةِ على الألسُنِ دونَ اتصالٍ بينها وبين ما قَبلَها وما بَعْدَها. ويدُلُّ لذلك ما رواه المفسِّرون عن عِكرِمةَ أنَّه قال: من شاء باهَلْتُه أنَّها نزلت في أزواجِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
.
وقال
الشِّنقيطيُّ: (الصَّوابُ شمولُ الآيةِ الكريمةِ لأزواجِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولعَلِيٍّ و
فاطمةَ و
الحَسَنِ والحُسَينِ رَضِيَ اللهُ عنهم كُلِّهم. فإنْ قيل: إنَّ الضَّميرَ في قَولِه:
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ وفي قَولِه:
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ضميرُ الذكورِ، فلو كان المرادُ نِساءَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقيل: ليُذهِبَ عنكُنَّ ويُطَهِّرَكنَّ. فالجوابُ مِن وَجهينِ:
الأوَّلُ: هو ما ذكَرْنا من أنَّ الآيةَ الكريمةَ شاملةٌ لهنَّ ولعليٍّ و
الحَسَنِ والحُسَينِ و
فاطِمةَ، وقد أجمع أهلُ اللِّسانِ العربيِّ على تغليبِ الذُّكورِ على الإناثِ في الجُموعِ ونَحوِها.
الوَجهُ الثَّاني: هو أنَّ من أساليبِ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ التي نزل بها القرآنُ أنَّ زَوجةَ الرَّجُلِ يُطلَقُ عليها اسمُ الأهلِ، وباعتبارِ لَفظِ الأهلِ تُخاطَبُ مخاطبةَ الجَمعِ المذكَّرِ، ومنه قَولُه تعالى في موسى:
فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا [طه: 10] ، وقَولُه:
سَآتِيكُمْ [النمل: 7] ، وقَولُه:
لَعَلِّي آتِيكُمْ [القصص: 29] ، والمخاطَبُ امرأتُه كما قاله غيرُ واحدٍ)
.
ثانيًا: من السُّنَّة:
ثمَّةَ أدِلَّةٌ صريحةٌ تدُلُّ على صِحَّةِ إطلاقِ الآلِ وأهلِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على زوجاتِه الطَّاهراتِ رَضِيَ اللهُ عنهنَّ؛ منها:
1- عن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: قال النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من يَعذِرُني من رجُلٍ قد بلغَني أذاه في أهلِ بَيتي؟ فواللهِ ما عَلِمْتُ على أهلي إلَّا خَيرًا، ولقد ذَكَروا رجلًا... ما كان يدخُلُ على أهلي إلَّا معي))
.
2- عن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (ما شَبِعَ آلُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منذ قَدِمَ المدينةَ من طعامِ بُرٍّ ثلاثَ ليالٍ تِباعًا، حتى قُبِضَ)
.
3- عن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (إنَّا -آلَ محمَّدٍ- لا تحِلُّ لنا الصَّدَقةُ)
.
قال
ابنُ قُدامةَ تعليقًا على ذلك: (هذا يدُلُّ على تحريمِها على أزواجِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
.
وقال
ابنُ القيِّمِ: (الصَّدَقةَ تحرُمُ عليهم؛ لأنها أوساخُ النَّاسِ، وقد صان اللهُ سُبحانَه ذلك الجَنابَ الرَّفيعَ وآلَه من كلِّ أوساخِ بني آدَمَ، ويا للهِ العَجَبُ، كيف يدخُلُ أزواجُه في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اللَّهُمَّ اجعَلْ رِزْقَ آلِ محمَّدٍ قُوتًا))
،... وفي قَولِ
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
((ما شَبِعَ آلُ رسولِ اللهِ مِن خُبزِ بُرٍّ))
، وفي قَولِ المصَلِّي:
((اللهُمَّ صَلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ))
، ولا يدخُلْنَ في قولِه:
((إنَّ الصَّدَقةَ لا تحِلُّ لمحمَّدٍ ولا لآلِ محمَّدٍ))
؟! مع كونِها من أوساخِ النَّاسِ، فأزواجُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أولى بالصِّيانةِ عنها والبُعدِ منها)
.