المَطْلَبُ الثَّالِثُ: ضابِطُ التَّفريقِ بين الكُفْرِ الأكبَرِ والأصْغَرِ
الشِّرْكُ والكُفْرُ الأكْبَرُ المُخْرِجُ من المِلَّة هو ما ناقَضَ أصلَ الدِّينِ الذي هو توحيدُ اللهِ والالتزامُ بالشَّريعةِ إجمالًا.
أما الشِّرْكُ والكُفْرُ الأصْغَرُ فيكونُ بما دون ذلك، بحيث لا ينقُضُ أصلَ الدِّينِ، ولا يكونُ أيضًا من اللَّمَمِ المعفوِّ عنه، كما قال اللهُ تعالى:
إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا [النساء: 31] .
قال
الشوكاني: (أي: إن تجتَنِبوا كبائِرَ الذُّنوبِ التي نهاكم اللهُ عنها نُكَفِّرْ عنكم سيِّئاتِكم، أي: ذنوبَكم التي هي صغائِرُ، وحَملُ السَّيِّئاتِ على الصَّغائِرِ هنا مُتعَيِّنٌ؛ لذِكْرِ الكبائِرِ قبلها، وجَعْل اجتنابِها شَرْطًا لتكفيرِ السَّيِّئاتِ)
.
فكلُّ ما ثَبَت بنَصٍّ أنَّه شِركٌ، لكِنْ دلَّت الدَّلائِلُ على أنَّه ليس شِركًا مُخْرِجًا من المِلَّةِ، فهو شِركٌ أصْغَرُ، وكلُّ ما ثبت بنَصٍّ أنَّه كُفرٌ، لكِنْ دَلَّت الدَّلائِلُ على أنَّه ليس كُفرًا مُخْرِجًا من المِلَّة، فهو كُفرٌ دونَ كُفرٍ، وكذا ما ورد فيه الوعيدُ، نحو: "ليس مِنَّا من فعل كذا وكذا"، أو تبَرَّأ منه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو نفى عنه وَصفَ الإيمانِ، فكُلُّ ذلك من الكبائِرِ.
قال
أبو عُبيدٍ القاسِمُ بنُ سَلَّامٍ: (أمَّا الآثارُ المروِيَّاتُ بذِكرِ الكُفْرِ والشِّرْكِ، ووجوبِهما بالمعاصي، فإنَّ معناها عندنا ليست تُثبِت على أهلِها كُفرًا ولا شِركًا يزيلانِ الإيمانَ عن صاحِبِه، إنَّما وجوبُها أنَّها من الأخلاقِ والسُّنَنِ التي عليها الكُفَّارُ والمُشْرِكون)
.
وقد عمَّم
أحمدُ بنُ حَنبلٍ القَوْلَ بأنَّ مُرتَكِبَ الكبيرةِ ليس مُؤمِنًا، فقال: (من أتى هذه الأربعةَ: الزِّنا، والسَّرِقةَ، وشُرْبَ الخَمرِ، والنُّهبةَ التي يرفع النَّاسُ فيها أبصارَهم إليه، أو مِثْلَهنَّ أو فوقهنَّ؛ فهو مُسْلِم، ولا أُسَمِّيه مُؤمِنًا، ومن أتى دون الكبائِرِ نُسَمِّيه مُؤمِنًا ناقِصَ الإيمانِ)
.
وقال
محمَّدُ بنُ نَصٍر المَرْوزيُّ تعليقًا على كلام
أحمد: (صاحِبُ هذا القَوْلِ يقولُ: لَمَّا نفى عنه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإيمانَ، نَفَيتُه عنه كما نفاه عنه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والرَّسولُ لم يَنْفِه إلَّا عن صاحِبِ كبيرةٍ، وإلا فالمُؤمِنُ الذي يفعل الصَّغيرةَ هي مكفَّرةٌ عنه بفِعْلِه للحَسَناتِ واجتنابِه للكبائِرِ، لكِنَّه ناقِصُ الإيمانِ عَمَّن اجتنب الصَّغائِرَ)
.
فأمَّا الشِّرْكُ الأصْغَرُ فنحوُ الرِّياءِ، كما ورد بذلك النَّصُّ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذلك بأن يكونَ أصلُ العَمَلِ لله، لكن دَخَل عليه الشِّرْكُ في تزيينِه للنَّاسِ.
قال
ابنُ القَيِّمِ: (أمَّا الشِّرْكُ الأصْغَرُ فكيسيرِ الرِّياء، والتَّصنُّعِ للخَلْقِ، والحَلِفِ بغيرِ اللهِ، كما ثبت عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((من حَلَف بغير الله فقد أشرك))
، وقَولِ الرَّجُلِ للرَّجُلِ: «ما شاء اللهُ وشِئتَ» و«هذا من اللهِ ومنك» و«أنا باللهِ وبك»، و«ما لي إلَّا اللهُ وأنت» و«أنا متوكِّلٌ على الله وعليك» و «ولولا أنت لم يكن كذا وكذا»، وقد يكونُ هذا شِركًا أكْبَرَ بحَسَبِ قائِلِه ومَقصَدِهـ)
.
وأمَّا الكُفْرُ الأصْغَرُ فنحوُ الحُكمِ بغيرِ الشَّريعةِ في قَضِيَّةٍ مُعَيَّنةٍ تغليبًا لشَهوةٍ لا استحلالًا، وهذا هو تفسيرُ
ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه؛ لِقَولِه تعالى:
وَمَنْ لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] حيث قال: (ليس هو بالكُفْرِ الذي يذهبون إليهـ)
، أمَّا رَفضُ الشَّريعةِ بالكُلِّيَّة، وتحكيمُ القوانينِ الوضعيَّةِ، فكُفرٌ أكْبَرُ، ودلالةُ الآيةِ على الكُفْرِ الأكْبَرِ -على الصَّحيحِ- هو المعنى المقصودُ بها أصلًا، وقَولُ
ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه لا يُناقِضُ ذلك، ولا يمنَعُ أن يكونَ الحاكِمُ في قضيَّةٍ مُعَيَّنةٍ بغيرِ الشَّرعِ لأجْلِ الشَّهوةِ داخِلًا في مُسَمَّى الكُفْرِ، ولكِنْ باعتبارِه كفرًا أصْغَرَ.
قال
ابنُ القَيِّمِ: (الصَّحيحُ أنَّ الحُكمَ بغيرِ ما أنزل اللهُ يتناوَلُ الكُفْرينِ؛ الأصْغَرَ والأكْبَرَ، بحسَبِ حالِ الحاكِمِ، فإنَّه إن اعتقد وجوبَ الحُكمِ بما أنزل اللهُ في هذه الواقعةِ، وعَدَل عنه عِصيانًا، مع اعترافِه بأنَّه مستَحِقٌّ للعُقوبةِ؛ فهذا كُفرٌ أصْغَرُ، وإن اعتقد أنَّه غيرُ واجِبٍ، وأنَّه مخَيَّرٌ فيه، مع تيقُّنِه أنَّه حُكمُ اللهِ، فهذا كُفرٌ أكْبَرُ، وإن جَهِلَه وأخطأه فهذا مخطئٌ له حُكمُ المُخطِئين)
.
وقال
ابنُ عثيمين: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((وإليه الحُكمُ))
يدُلُّ على أنَّ من جعل الحُكمَ لغيرِ الله، فقد أشرك... يجِبُ على طالبِ العِلمِ أن يَعرِفَ الفَرقَ بين التَّشريعِ الذي يُجعَلُ نِظامًا يمشي عليه، ويَستبدِلُ به القرآنَ، وبين أن يَحكُمَ في قضيَّةٍ مُعَيَّنةٍ بغير ما أنزل الله؛ فهذا قد يكونُ كُفرًا أو فِسقًا أو ظُلمًا)
.
والشِّرْكُ الأصْغَرُ من الكبائِرِ، وهي على مراتِبَ، وبعضُها أكْبَرُ من بعضٍ، كما في حديثِ أبي بَكْرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ألا أنَبِّئُكم بأكْبَرِ الكبائِرِ؟ -ثلاثًا- الإشراكُ باللهِ، وعقوقُ الوالِدَينِ، ...))
الحديث. وعليه يُفهَمُ قَولُ
ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (لأن أحلِفَ باللهِ كاذِبًا أحَبُّ إليَّ من أن أحلِفَ بغَيرِه صادِقًا)
، فمرادُه: أنَّ الشِّرْكَ بالحَلِفِ بغيرِ اللهِ وإن كان من الكبائِرِ، لكِنَّه أكْبَرُ من الحَلِفِ الكاذِبِ، وعلى هذا يمكِنُ أن يُفهَمَ قَولُ
محمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ عن الشِّرْكِ الأصْغَرِ: إنَّه أكْبَرُ من الكبائِرِ
، وهو كقَولِ
ابنِ القَيِّمِ عن الشِّرْكِ الأصْغَرِ كالحَلِفِ بغيرِ اللهِ: (رُتبتُه فوقَ رُتبةِ الكبائِرِ)
، ولا يلزَمُ من قَولِهما إخراجُ الشِّرْكِ الأصْغَرِ عن مُسَمَّى الكبائِرِ، بل كأنَّه أكْبَرُ من جميعِها.
والأصلُ أن تُحمَلَ ألفاظُ الكُفْرِ والشِّرْكِ الواردةُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ -وخاصَّةً المعرَّفَ منها بأل- على حقيقتِها المُطلَقةِ، ومسمَّاها المطلَقِ، وذلك كونُها مُخْرِجةً من المِلَّةِ، حتى يجيءَ ما يمنَعُ ذلك، ويقتضي الحَمْلَ على الكُفْرِ الأصْغَرِ والشِّرْكِ الأصْغَرِ.
قال عبدُ اللَّطيفِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ آل الشَّيخِ: (لفظُ الظُّلمِ والمعصيةِ والفُسوقِ والفُجورِ والموالاةِ والمعاداةِ والرُّكونِ والشِّرْكِ ونحوِ ذلك من الألفاظِ الواردةِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، قد يرادُ مُسَمَّاها المطلَقُ، وحقيقتُها المُطلَقةُ، وقد يرادُ بها مُطلَقُ الحقيقةِ، والأوَّلُ هو الأصلُ عند الأصوليِّين، والثَّاني لا يحمَلُ الكلامُ عليه إلَّا بقَرينةٍ لفظيَّةٍ أو معنويَّةٍ، وإنَّما يُعرَفُ ذلك بالبيانِ النبَويِّ وتفسيرِ السُّنَّةِ؛ قال تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] )
.
وممَّا يَدُلُّ على أنَّ ذلك هو الأصلُ تَبادُرُه إلى الذِّهنِ، كما في حديثِ
ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في قِصَّةِ خُسوفِ الشَّمسِ، وقَولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((وَأُرِيتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ، قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ؛ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ !))
.
قال
ابنُ عبدِ البَرِّ: (أمَّا قَولُه:
((يَكْفُرْنَ العشيرَ ويَكْفُرنَ الإحسانَ )) فالعشيرُ في هذا المَوضِعِ عند أهلِ العِلمِ الزَّوجُ، والمعنى عندهم في ذلك كُفرُ النِّساءِ لحُسنِ مُعاشَرةِ الزَّوجِ، ثُمَّ عَطَف على ذلك كُفْرَهنَّ بالإحسانِ جُملةً في الزَّوجِ وغيرِه، وقال أهلُ اللُّغةِ: العشيرُ: المخالِطُ من المعاشَرةِ)
.
قال
ابنُ تيميَّةَ بعد ذِكْرِه صُوَرًا من الكُفْرِ الأصْغَرِ: (والمقصودُ هنا ذِكرُ أصلٍ جامعٍ تنبني عليه معرفةُ النُّصوصِ، ورَدُّ ما تنازع فيه النَّاسُ إلى الكِتابِ والسُّنَّة؛ فإنَّ النَّاسَ كَثُر نزاعُهم في مواضِعَ في مُسَمَّى الإيمانِ والإسلامِ؛ لكَثرةِ ذِكرِهما، وكثرةِ كلامِ النَّاسِ فيهما، والاسمُ كُلَّما كَثُر التَّكَلُّمُ فيه، فتُكُلِّمَ به مُطلقًا ومُقَيَّدًا بقَيدٍ، ومقيَّدًا بقَيدٍ آخَرَ في مَوضِعٍ آخَرَ؛ كان هذا سببًا لاشتباهِ بَعْضِ معناه، ثُمَّ كُلَّما كَثُر سماعُه كَثُرَ من يَشتَبِهُ عليه ذلك. ومن أسبابِ ذلك أن يَسمَعَ بَعْضُ النَّاسِ بَعْضَ مَواردِه ولا يسمَعَ بَعضَه، ويكونَ ما سَمِعَه مُقَيَّدًا بقَيدٍ أوجبه اختصاصُه بمعنى، فيظُنُّ معناه في سائِرِ موارِدِه كذلك، فمن اتَّبَع عِلْمَه حتى عَرَف مواقِعَ الاستعمالِ عامَّةً وعَلِمَ مأخَذَ الشَّبَهِ، أعطى كُلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه، وعَلِمَ أنَّ خَيرَ الكلامِ كلامُ اللهِ، وأنَّه لا بيانَ أتَمُّ من بيانِه، وأنَّ ما أجمع عليه المُسْلِمون من دينِهم الذي يحتاجون إليه أضعافُ أضعافِ ما تنازعوا فيهـ)
.
وهناك دَلالاتٌ تُثبِتُ أنَّ المرادَ بالشِّرْكِ أو الكُفْرِ المذكورِ في النَّصِّ القُرآنيِّ أو النبَوِيِّ: هو الأصْغَرُ لا الأكْبَرُ؛ منها:
1- تصريحُ النَّصِّ بذلك بنَفْسِه أو بدَلالةِ غَيرِه من النُّصوصِ، وهذه أقوى دَلالةٍ.مِثالُ: دَلالةِ النَّصِّ بنَفْسِه على أنَّ المرادَ بالشِّرْكِ المذكورِ فيه هو الأصْغَرُ لا الأكْبَرُ:حديثُ محمود بن لبيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أخوَفُ ما أخاف عليكم الشِّرْكُ الأصْغَرُ )). قالوا: وما الشِّرْكُ الأصْغَرُ يا رسولَ اللهِ؟ قال:
((الرِّياءُ))
.
قال الحُسَينُ بن محمَّدٍ المغربيُّ: (الحديثُ فيه دلالةٌ على قُبحِ الرِّياءِ، وأنَّه من أعظَمِ المعاصي المحبِطةِ للأعمالِ، فإنَّه إذا كان أخوَفَ المخُوفاتِ كان أعظَمَها وأخطَرَها، وتسميتُه شِركًا أصْغَرَ يدُلُّ على أنَّه في رتبةٍ تلي الشِّرْكَ الأكْبَر الذي هو الظُّلمُ العظيمُ، والوَبالُ المهلِكُ الوَخيمُ)
.
- ومن ذلك: حديثُ
ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أيُّما رجُلٍ قال لأخيه: يا كافِرُ، فقد باء بها أحَدُهما))
، وفي روايةٍ:
((إذا كَفَّر الرَّجُلُ أخاه فقد باء بها أحَدُهما ))
.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (فقد سَمَّاه أخاه حين القَوْلِ، وقد أخبَرَ أنَّ أحَدَهما باء بها، فلو خرج عن الإسلامِ بالكُلِّيَّةِ لم يكُنْ أخاهـ)
.
ومِثالُ دَلالةِ النُّصوصِ على أنَّ المُرادَ بالشِّرْكِ المذكورِ في بَعْضِها هو الأصْغَرُ لا الأكْبَرُ:حديثُ
ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((سِبابُ المُسْلِمِ فُسوقٌ، وقِتالُه كُفرٌ ))
.
وحديثُ
ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا تَرجِعوا بعدي كُفَّارًا؛ يضرِبُ بعضُكم رقابَ بَعضٍ ))
، مع قَولِه تعالى:
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ *الحجرات: 9*، فسَمَّى اللهُ المُؤمِنين المتقاتلينَ مُؤمِنين؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ المرادَ بالكُفْرِ المذكورِ في الحديثِ ليس الكُفْرَ المُخْرِجَ مِن المِلَّةِ.
2- مِمَّا يَدُلُّ على أنَّ المُرادَ في النَّصِّ الشَّرعيِّ الشِّرْكُ أو الكُفْرُ الأصْغَرُ: عدَمُ ترَتُّبِ حَدِّ الرِّدَّةِ على فاعِلِه، وإن أُقيمَ عليه حَدُّ العُصاةِكما في الزَّاني والسَّارِقِ مع نفي الإيمانِ عنهما.
3- من الدَّلالاتِ على الشِّرْكِ والكُفْرِ الأصْغَرِ: أن يأتيَ لَفْظُهما مُنكَّرًا غيرَ مُعَرَّفٍفإن جاء معرَّفًا بأل دَلَّ على أنَّ المقصودَ به الكُفْرُ المُخْرِجُ مِن المِلَّةِ.
مثال ذلك:الحُكمُ على تارِكِ الصَّلاةِ بأنَّه كافِرٌ كُفرًا أكْبَر لمجيءِ الحديثِ في حُكمِ تاركِها على التَّعريفِ.
عن
جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ بين الرَّجُلِ وبين الشِّرْكِ والكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ))
قال أبو العبَّاسِ القُرطبي: (قَولُه:
((بين الرَّجُلِ وبين الشِّرْكِ تَرْك الصَّلاةِ )) يعني: أنَّ من ترك الصَّلاةَ لم يَبْقَ بينه وبين الكُفْرِ حاجِزٌ يَحجُزُه عنه، ولا مانِعٌ يمنَعُه منه، أي: قد صار كافِرًا)
.
وقال
الصَّنعاني: (بين أهل الإسلامِ وبين أهلِ الشِّرْكِ إقامةُ الصَّلاةِ؛ فمن أقامها فهو مُسْلِمٌ، ومن تركَها فلم يُقِمْها، فهو مُشْرِكٌ كافِرٌ)
.
ويؤيِّدُ ذلك دلالةٌ أخرى من حديثِ بُرَيدةَ بنِ الحُصَيبِ الأسلميِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((العَهدُ الذي بيننا وبينهم الصَّلاةُ، فمن تركها فقد كَفَر))
.
فإذا كان الحَدُّ الذي بين المُسْلِمين والكُفَّار هي الصَّلاةُ، فإنَّ تَرْكَها كفرٌ أكْبَر.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (فَرْقٌ بين الكُفْر المعَرَّف باللَّامِ... وبين كفر مُنَكَّر في الإثباتِ)
.
وقال
ابنُ باز: (الكُفْرُ المُطلَقُ المعَرَّف بأداةِ التَّعريف، كقَولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
((بين الرَّجُلِ وبين الكُفْرِ والشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلا ةِ))
... هو الكُفْرُ الأكْبَرُ، في أصَحِّ قَولَيِ العُلَماءِ)
.
وقال
ابنُ عثيمين: (ليس كُلُّ من قامت به شُعبةٌ مِن شُعَبِ الكُفْرِ يصيرُ كافِرًا الكُفْرَ المطْلَقَ، حتى تقومَ به حقيقةُ الكُفْرِ، وفَرْقٌ بين الكُفْرِ المعَرَّفِ باللامِ، كما في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ليس بين العَبْد وبين الكُفْرِ أو الشِّرْكِ إلَّا تَرْكُ الصَّلاةِ ))
وبين كُفْرٍ منكَّرٍ في الإثباتِ؛ مثل:
((اثنتان في النَّاس هما بهم كُفرٌ))
.
4- من الدَّلالاتِ على الشِّرْكِ والكُفْرِ الأصْغَرِ ما فَهِمَه الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم من النَّصِّ.مثالُ ذلك:حديثُ
ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((الطِّيَرةُ شِركٌ ))، وما مِنَّا إلَّا، ولكِنَّ اللهَ يُذهِبُه بالتَّوكُّلِ
فإنَّ آخِرَ الحديثِ:
((وما مِنَّا إلَّا، ولكِنَّ اللهَ يُذهِبُه بالتَّوكُّلِ )) من قَولِ
ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ومعناه: وما مِنَّا أحَدٌ إلَّا ويعتريه التَّطَيُّرُ
.
قال المظهريُّ: (قَوله:
((الطِّيَرةُ شِركٌ )) يعني: النَّافِعُ والضَّارُّ والميسِّرُ والمعَسِّرُ هو اللهُ تعالى، فمَن اعتَقَد أنَّ أحدًا أو شيئًا سِوى اللهِ تعالى ينفَعُ أو يضُرُّ أو ييَسِّرُ أو يعَسِّرُ، فقد اتخذ للهِ شريكًا. قوله:
((وما مِنَّا إلَّا))، قال
البخاري: إنَّ سُلَيمانَ بنَ حَربٍ قال: هذا ليس من كلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل هو كلامِ
ابنِ مَسعودٍ، يعني: ليس مِنَّا إلَّا كان في قَلْبِه الطِّيَرةُ، يعني: نفوسُنا كانت كنفوسِ أهلِ الجاهِليَّةِ في اعتقادِ الطِّيَرة مثيرة، ولكن لَمَّا توكَّلْنا على اللهِ وقَبِلْنا حديثَ رَسولِه واعتقَدْنا صِدْقَه، أذهَبَ اللهُ عَنَّا اعتقادَ أهلِ الجاهليَّةِ، وأقَرَّ في قُلوبِنا السُّنَّةَ واتِّباعَ الحَقِّ)
.