الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الخامِسُ: بطلانُ الاحتجاجِ بالقَدَرِ على الوقوعِ في الكُفرِ أو الشِّركِ أو المعاصي

إنَّ اعتقادَ أنَّ كُلَّ شَيءٍ معلومٌ للهِ تعالى منذ الأزَلِ، ثمَّ قام بكتابتِه، وأنَّه لا يخرجُ شيءٌ عن مشيئتِه وخَلْقِه: لا يعني جوازَ الاحتجاجِ بذلك على الوقوعِ في الكُفرِ أو الشِّركِ أو المعاصي، بل تلك حُجَّةٌ باطِلةٌ مردُّها إلى عدَمِ فَهمِ المعنى الحقيقيِّ للقَضاءِ والقَدَرِ؛ فإنَّ كونَ الشَّيءِ مكتوبًا عند اللهِ تعالى لا يعني أنَّ الإنسانَ مجبورٌ على فِعْلِه، بل له حريةُ الاختيارِ التامَّةُ وتحمُّلُ مَسؤوليةِ اختيارِه وَحْدَه، فيُثابُ على ذلك أو يُعاقَبُ عليه، وقد أُرسِلَت الرسُلُ وأُنزِلَت الكُتُبُ لبَيانِ الحَقِّ من الباطِلِ؛ كي يختارَ الإنسانُ طريقَه على بصيرةٍ، ولكِنْ لأنَّ عِلمَ اللهِ كامِلٌ ولا يغيبُ عنه شيءٌ مُطلقًا، فإنَّ اللهَ يَعلَمُ مُسبقًا ما سيختاره الإنسانُ، فكتب هذا الذي سيختارُه عنده، ولأنَّ عِلمَ اللهِ تامٌّ سيُطابِقُ دائِمًا ما يفعَلُه الإنسانُ ما هو معلومٌ ومكتوبٌ سابقًا عند اللهِ تعالى، فلن يخرُجَ شيءٌ أبدًا عمَّا عَلِمَه وكَتَبَه. كما أنَّ هذا الاختيارَ البشَريَّ مبنيٌّ على إرادةٍ ممنوحةٍ للإنسانِ، فخَلَق اللهُ تعالى له العَقْلَ وخَلَق له الإرادةَ، فهو يختارُ ما يشاءُ ويُريدُ.
ولو اختار سُلوكَ طريقٍ ما أو القيامَ بعَمَلٍ ما فإنَّ اللهَ قد يمنعُه من ذلك لسبَبٍ، أو يتركُه لاختياره دون تدخُّلٍ إلهيٍّ لسَبَبٍ، وهذه الأسبابُ راجعةٌ إلى الإنسانِ نَفْسِه، فمثلًا إذا اختار العبدُ الهدى يزيدُه اللهُ هُدًى أو يمنعُه من الوقوعِ في الضَّلالِ بسَبَبِ هدايتِه الأولى التي اختارها، وهو فَضلٌ من اللهِ تعالى، وإذا اختار الضَّلالَ قد يتركُه وما اختاره فلا يحجُزُه عنه بسببِ ضَلالِه الذي اختاره، أو يُضِلُّه بسببِ تعَمُّدِه واختيارِه الوقوعَ في الظُّلمِ والتكذيبِ بالحَقِّ ونحوِ ذلك، وهذا عدلٌ منه سُبحانَه، فرجع الأمرُ إلى حريَّةِ الاختيارِ للإنسانِ، وعليه فلا يمكِنُ أبدًا جوازُ الاحتجاجِ بالقَدَرِ على الكُفرِ أو المعاصي. هذا والآياتُ القرآنيةُ صريحةٌ في أنَّ اللهَ تعالى لا يرضى لعبادِه الكُفرَ، ولا يأمُرُ بالفحشاءِ، فكيف يُجبرُ الإنسانَ على فِعْلِها، ثمَّ هو بعد ذلك يحاسِبُه ويعاقِبُه عليها؟ تنَزَّه اللهُ وتعالى عن الظُّلمِ؛ فهو أعدَلُ العادِلينَ، وأحكَمُ الحاكِمينَ سُبحانَه.
أما ما يُصيبُ الإنسانَ مِن مصائبَ كفَقرٍ أو مَرَضٍ وغيرِه، ولم يكُنْ له أيُّ يدٍ في التسَبُّبِ بذلك، فلم يقَعْ عليه ما وقع بسَبَب ذنبٍ أو تفريطٍ منه ونحوِ ذلك؛ فهذا الذي يُحتَجُّ فيه بالقَضاءِ والقَدَرِ، فيقالُ: هذا قضاءُ اللهِ وقَدَرُه، نؤمِنُ ونرضى به، مع اجتهادِ المصابِ المُبتَلى في دَفْعِه عنه، فهو يدفَعُ قَدَرَ اللهِ بقَدَرِ اللهِ.
قال الخطَّابيُّ: (قد يحسَبُ كثيرٌ من النَّاسِ أن معنى القَدَرِ من اللهِ والقَضاءِ منه معنى الإجبارِ والقَهرِ للعَبدِ على ما قضاه وقدَّره... وليس الأمرُ في ذلك على ما يتوهَّمونه، وإنما معناه الإخبارُ عن تقدُّمِ عِلمِ اللهِ سُبحانَه بما يكونُ من أفعالِ العِبادِ وأكسابِهم وصدورِها عن تقديرٍ منه وخَلقٍ لها خيرِها وشَرِّها، والقَدَرُ اسمٌ لِما صدر مُقدَّرًا عن فعلِ القادِرِ كما الهَدمُ والقَبضُ والنَّشرُ أسماءٌ لما صدر عن فعلِ الهادِمِ والقابضِ والنَّاشرِ، يقال: قَدَرْتُ الشَّيءَ وقَدَّرْتُ، خفيفةً وثقيلةً بمعنًى واحدٍ، والقَضاءُ في هذا معناه الخَلقُ، كقَولِه عزَّ وجَلَّ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 12] أي: خلقَهنَّ، وإذا كان الأمرُ كذلك فقد بقي عليهم من وراءِ عِلمِ اللهِ فيهم أفعالُهم وأكسابُهم ومباشرتُهم تلك الأمورَ وملابسَتُهم إيَّاها عن قَصدٍ وتعَمُّدٍ وتقديمِ إرادةٍ واختيارٍ، فالحُجَّةُ إنما تلزَمُهم بها واللائِمةُ تلحَقُهم عليها)( يُنظر: ((معالم السنن)) (4/ 322). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (اللهُ يَعلَمُ ما كان قبلَ أن يكونَ، وقد كتب ذلك فهو يَعلَمُ أنَّ هذا يموتُ بالبَطْنِ أو ذاتِ الجَنْبِ أو الهَدْمِ أو الغَرَقِ أو غيرِ ذلك من الأسبابِ، وهذا يموتُ مقتولًا: إمَّا بالسُّمِّ، وإمَّا بالسَّيفِ، وإمَّا بالحَجَرِ، وإمَّا بغيرِ ذلك من أسبابِ القَتْلِ.
وعِلْمُ اللهِ بذلك، وكتابتُه له، بل مشيئتُه لكُلِّ شيءٍ، وخَلْقُه لكُلِّ شَيءٍ: لا يمنَعُ المدْحَ والذَّمَّ، والثوابَ والعِقابَ)( يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/516). .
وقال أيضًا: (سَلَفُ الأُمَّةِ وأئِمَّتُها مُتَّفِقون أيضًا على أنَّ العِبادَ مأمورون بما أمرهم اللهُ به، منهيُّون عمَّا نهاهم اللهُ عنه، ومُتَّفِقون على الإيمانِ بوَعْدِه ووعيدِه الذي نطق به الكِتابُ والسُّنَّةُ، ومُتَّفِقون أنَّه لا حُجَّةَ لأحدٍ على اللهِ في واجبٍ تَرَكه ولا محرَّمٍ فعَلَه، بل للهِ الحُجَّةُ البالغةُ على عبادِه، ومن احتجَّ بالقَدَرِ على تركِ مأمورٍ أو فِعلِ محظورٍ أو دَفْعِ ما جاءت به النصوصُ في الوعدِ والوعيدِ، فهو أعظَمُ ضَلالًا وافتراءً على اللهِ ومخالفةً لدينِ اللهِ من أولئك القَدَريَّةِ)( يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/452). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (الاحتجاجُ بالقَدَرِ حُجَّةٌ باطِلةٌ داحِضةٌ باتِّفاقِ كُلِّ ذي عَقلٍ ودينٍ مِن جميعِ العالَمين، والمحتَجُّ به لا يَقبَلُ من غيرِه مِثلَ  هذه الحُجَّةِ إذا احتجَّ بها في ظلمٍ ظَلَمه إيَّاه، أو تَرْكِ ما يجِبُ عليه من حقوقِه، بل يَطلُبُ منه ما له عليه، ويُعاقِبُه على عُدوانِه عليه... تعلَمُ القلوبُ بالضرورةِ أنَّ هذه شُبهةٌ باطلةٌ؛ ولهذا لا يقبَلُها أحدٌ من أحدٍ عند التحقيقِ، ولا يحتجُّ بها أحدٌ إلَّا مع عَدَمِ عِلْمِه بالحُجَّةِ بما فعله، فإذا كان معه عِلمٌ بأنَّ ما فعَلَه هو المصلحةُ، وهو المأمورُ به وهو الذي ينبغي فِعلُه، لم يحتَجَّ بالقَدَرِ، وكذلك إذا كان معه علمٌ بأنَّ الذي لم يفعَلْه ليس عليه أن يفعَلَه، أو ليس بمصلحةٍ أو ليس هو مأمورًا به، لم يحتَجَّ بالقَدَرِ، بل إذا كان متَّبِعًا لهواه بغيرِ عِلمٍ احتَجَّ بالقَدَرِ.
ولهذا لَما قال المشركون: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 148] ، قال اللهُ تعالى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام: 148، 149]؛ فإنَّ هؤلاء المُشركِين يَعلَمُون بفِطْرَتِهم وعقولهم أنَّ هذه الحُجَّةَ داحِضةٌ باطِلةٌ.
فإنَّ أحَدَهم لو ظلم الآخَرَ في مالِه، أو فَجَر بامرأتِه، أو قَتَل ولَدَه، أو كان مُصِرًّا على الظلمِ، فنهاه النَّاسُ عن ذلك، فقال: لو شاء اللهُ لم أفعَلْ هذا، لم يَقبَلوا منه هذه الحُجَّةَ، ولا هو يقبَلُها من غيرِه، وإنما يَحْتَجُّ بها المحتجُّ دفعًا للَّومِ بلا وَجهٍ، فقال اللهُ لهم: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا بأنَّ هذا الشِّركَ والتحريمَ من أمرِ اللهِ وأنَّه مصلحةٌ ينبغي فِعْلُه، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ؛ فإنَّه لا عِلْمَ عندكم بذلك، إن تظنُّون ذلك إلَّا ظَنًّا، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ: تحزِرون وتَفترون، فعُمدتُكم في نَفْسِ الأمرِ ظَنُّكم وخَرَصُكم، ليس عُمدتُكم في نفسِ الأمرِ كَونَ اللهِ شاء ذلك وقَدَّره، فإنَّ مجَرَّدَ المشيئةِ والقَدَرِ لا يكونُ عُمدةً لأحَدٍ في الفِعلِ، ولا حُجَّةً لأحدٍ على أحدٍ، ولا عُذرًا لأحدٍ؛ إذ النَّاسُ كُلُّهم مُشتركون في القَدَرِ، فلو كان هذا حُجَّةً وعُمدةً، لم يحصُلْ فَرْقٌ بين العادِلِ والظَّالمِ، والصَّادِقِ والكاذِبِ، والعالمِ والجاهِلِ، والبَرِّ والفاجِرِ، ولم يكُنْ فَرقٌ بين ما يُصلِحُ النَّاسَ من الأعمالِ وما يُفسِدُهم، وما ينفَعُهم وما يضُرُّهم.
وهؤلاء المُشرِكون المحتجُّون بالقَدَرِ على تَرْكِ ما أرسل اللهُ به رُسُلَه من توحيدِه والإيمانِ به، لو احتجَّ به بعضُهم على بعضٍ في إسقاطِ حُقوقِه ومخالفةِ أمْرِه لم يقبَلْه منه، بل كان هؤلاء المشركون يذمُّ بعضُهم بعضًا، ويعادي بعضُهم بعضًا، ويقاتِلُ بعضُهم بعضًا على فِعْلِ ما يرونه تركًا لحَقِّهم أو ظُلمًا، فلما جاءهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدعوهم إلى حقِّ اللهِ على عبادِه وطاعةِ أمرِه، احتجُّوا بالقَدَرِ، فصاروا يحتجُّون بالقَدَرِ على تركِ حقِّ ربهم ومخالفةِ أمرِه بما لا يقبلونه ممَّن ترَكَ حَقَّهم وخالف أمْرَهم!...
ولهذا تجِدُ كثيرًا من المحتَجِّين به والمستَنِدين إليه من النُّسَّاكِ والصُّوفيَّةِ والفُقَراءِ، والعامَّةِ والجُندِ والفُقَهاءِ وغَيرِهم، يَفِرُّون إليه عند اتِّباعِ الظَّنِّ وما تهوى الأنفُسُ، فلو كان معهم عِلمٌ وهُدًى لم يحتجُّوا بالقَدَرِ أصلًا، بل يعتَمِدون عليه لعدَمِ الهُدى والعِلْمِ. وهذا أصلٌ شَريفٌ من اعتنى به عَلِم منشَأَ الضَّلالِ والغَيِّ لكثيرٍ من النَّاسِ)( يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (3/ 55-59). .
وقال علي القاري: (لا يجوزُ للعاصي حالَ ارتِكابِ المعصية أن يعتَذِرَ بالقَضاءِ والقَدَرِ والمشيئةِ، وإن كان حقًّا في نفسِ الأمرِ؛ ولهذا ذمَّ اللهُ سُبحانَه الكُفَّارَ بقَولِه: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام: 148] )( يُنظر: ((شرح كتاب ألفاظ الكفر)) (ص: 364). .
وقال جمال الدِّينِ القاسميُّ في تفسيرِ قَولِه تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 148] : (إنَّ مشيئةَ اللهِ تعالى وقضاءَه وقَدَرَه لا تستلزِمُ محبَّتَه ورضاه لكُلِّ ما شاءه وقدَّره، وهؤلاء المُشرِكون لَمَّا استدلُّوا بمشيئته على محبَّتِه ورضاه كذَّبهم وأنكر عليهم، وأخبر أنَّه لا عِلْمَ لهم بذلك، وأنهم خارِصون مُفترون؛ فإنَّ محبَّةَ اللهِ للشَّيءِ ورضاه به إنما يُعلَمُ بأمرِه به على لسانِ رَسولِه، لا بمجَرَّدِ خَلْقِه؛ فإنَّه خلق إبليسَ وجنودَه، وهم أعداؤه، وهو سُبحانَه يُبغِضُهم ويلعَنُهم، وهم خَلْقُه، فهكذا في الأفعالِ؛ خَلَق خَيْرَها وشَرَّها، وهو يحِبُّ خَيْرَها ويأمُرُ به ويثيبُ عليه، ويُبغِضُ شَرَّها وينهى عنه ويعاقِبُ عليه، وكلاهما خَلْقُه. ولله الحِكْمةُ البالغةُ التامَّةُ في خَلْقِه ما يُبغِضُه ويَكرَهُه من الذَّواتِ والصِّفاتِ والأفعالِ، كُلٌّ صادِرٌ عن حِكْمَتِه وعِلْمِه، كما هو صادِرٌ عن قُدرتِه ومشيئتِه)( يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (4/ 527). .
وقال ابنُ عاشورٍ في تفسيرِ قَولِه تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا [الأنعام: 148] : (حاصِلُ هذه الحُجَّةِ: أنَّهم يحتَجُّون على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ ما هم عليه لو لم يكُنْ برضا اللهِ تعالى لصَرَفَهم عنه ولَمَا يسَّره لهم، يقولون ذلك في مَعرِضِ إفحامِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإبطالِ حُكمِه عليهم بالضلالةِ، وهذه شبهةُ أهلِ العُقولِ الأَفِنةِ، الذين لا يفرِّقون بين تصرُّفِ اللهِ تعالى بالخَلْقِ والتقديرِ وحِفظِ قوانينِ الوجودِ، وهو التصَرُّفُ الذي نسَمِّيه نحن بالمشيئةِ وبالإرادةِ، وبين تصَرُّفِه بالأمرِ والنهيِ، وهو الذي نسمِّيه بالرِّضا وبالمحبَّةِ؛ فالأوَّلُ تصَرُّفُ التكوينِ، والثَّاني تصَرُّفُ التكليفِ، فهم يحسَبون أن تمكُّنَهم من وَضعِ قواعِدِ الشِّركِ ومن التحريمِ والتحليلِ ما هو إلَّا بأنْ خَلَق اللهُ فيهم التمكُّنَ من ذلك، فيَحسَبون أنَّه حين لم يمسِكْ عِنانَ أفعالهم كان قد رَضِيَ بما فعلوه، وأنَّه لو كان لا يرضى به لَما عَجَز عن سَلبِ تمكُّنِهم...
وسببُ هذه الضلالةِ العارضةِ لأهلِ الضلالِ من الأمَمِ التي تلوحُ في عُقولِ بعضِ عوامِّ المسلِمين في معاذيرِهم للمعاصي والجرائِمِ أن يقولوا: أمرُ اللهِ، أو مكتوبٌ عند اللهِ، أو نحوُ ذلك- هو الجهلُ بأنَّ حِكْمةَ اللهِ تعالى في وضعِ نِظامِ هذا العالمِ اقتضت أن يجعَلَ حِجابًا بين تصَرُّفِه تعالى في أحوالِ المخلوقاتِ، وبين تصَرُّفِهم في أحوالِهم بمقتضى إرادتِهم، وذلك الحجابُ هو ناموسُ ارتباطِ المُسَبَّبات بأسبابِها، وارتباطِ أحوالِ الموجوداتِ في هذا العالمِ بعضِها ببعضٍ، ومنه ما يسمَّى بالكَسْبِ والاستطاعةِ... وذلك هو مَورِدُ التكليفِ الدَّالِّ على ما يرضاه اللهُ وما لا يرضى به، وأنَّ اللهَ وضع نظامَ هذا العالمِ بحِكْمةٍ، فجعل قِوامَه هو تدبيرَ الأشياءِ أمورَها من ذواتِها، بحسَبِ قُوًى أودعها في الموجوداتِ؛ لتسعى لِما خُلِقت لأجْلِه، وزاد الإنسانَ مَزِيَّةً بأن وضع له عقلًا يمكِّنُه من تغييرِ أحوالِه على حَسَبِ احتياجِه، ووضع له في عَقْلِه وسائِلَ الاهتداءِ إلى الخيرِ والشَّرِّ، كما قيَّض له دعاةً إلى الخيرِ تُنَبِّهُه إليه إن عرَتْه غفلةٌ، أو حجبته شهوةٌ، فإنْ هو لم يَرْعَوِ غيُّه، فقد خان بِساطَ عَقْلِه بطَيِّه.
وبهذا ظهر تخليطُ أهلِ الضَّلالةِ بين مشيئةِ العِبادِ ومشيئةِ اللهِ؛ فلذلك ردَّ اللهُ عليهم هنا قَولهم: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا؛ لأنهم جعلوا ما هو مشيئةً لهم مشيئةً للهِ تعالى... فهذه المشيئةُ التي اعتلُّوا بها مشيئةٌ خفِيَّةٌ لا تتوصَّلُ إلى الاطِّلاعِ على كُنْهِها عقولُ البشَرِ؛ فلذلك نعى اللهُ عليهم استنادَهم إليها على جَهْلِهم بكُنْهِها، فقال: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فشَبَّه بتكذيبِهم تكذيبَ المكَذِّبين الذين من قَبْلِهم، فكنَّى بذلك عن كونِ مَقصَدِ المُشرِكين من هذه الحُجَّةِ تكذيبَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)( يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8/ 146-148). .
وقال ابنُ عثيمين: (الإيمانُ بالقَدَرِ على ما وصَفْنا لا يمنحُ العبدَ حُجَّةً على ما تَرَك من الواجباتِ أو فعَلَ من المعاصي، وعلى هذا فاحتجاجُه به باطِلٌ من وجوهٍ:
الأوَّلُ: قَولُه تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام: 148] ، ولو كان لهم حُجَّةٌ بالقَدَرِ ما أذاقهم اللهُ بأسَه.
الثاني: قَوله تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165] ، ولو كان القَدَرُ حُجَّةً للمُخالِفين لم تنتَفِ بإرسالِ الرُّسُلِ؛ لأنَّ المخالفةَ بعد إرسالهم واقِعةٌ بقَدَرِ اللهِ تعالى.
الثَّالِثُ: ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ -واللفظُ للبخاريِّ- عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما منكم من أحدٍ إلَّا قد كُتِب مَقعَدُه من النَّارِ أو من الجنَّةِ، فقال رجلٌ من القومِ: ألَا نتكِلُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: لا، اعمَلوا؛ فكُلٌّ مُيسَّرٌ، ثمَّ قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى الآية))( أخرجه البخاري (6605) واللَّفظُ له، ومسلم (2647). ، وفي لفظ لمسلمٍ: ((فكُلٌّ ميسَّرٌ لِما خُلِق له))( أخرجه مسلم (2647). وأخرجه البخاري (4949) ، فأمر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعمَلِ، ونهى عن الاتِّكالِ على القَدَر.
الرَّابعُ: أنَّ اللهَ تعالى أمر العبدَ ونهاه، ولم يكلِّفْه إلَّا ما يستطيعُ، قال اللهُ تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وقال: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، ولو كان العبدُ مجبرًا على الفعلِ لكان مكلَّفًا بما لا يستطيعُ الخلاصَ منه، وهذا باطِلٌ؛ ولذلك إذا وقعت منه المعصيةُ بجَهلٍ أو نسيانٍ أو إكراهٍ، فلا إثمَ عليه؛ لأنَّه معذورٌ.
الخامِسُ: أنَّ قَدَرَ اللهِ تعالى سِرٌّ مكتومٌ لا يُعلَمُ به إلَّا بعد وقوعِ المقدورِ، وإرادةُ العبدِ لِما يفعلُه سابقةٌ على فِعْلِه، فتكونُ إرادتُه الفِعلَ غيرُ مَبنيةٍ على عِلمٍ منه بقَدَرِ اللهِ، وحينئذٍ تنتفي حجَّتُه بالقَدَرِ؛ إذ لا حُجَّةَ للمرءِ فيما لا يَعلَمُه.
السَّادِسُ: أنَّنا نرى الإنسانَ يحرِصُ على ما يلائِمُه من أمورِ دُنياه حتى يدرِكَه، ولا يَعدِلُ عنه إلى ما لا يلائِمُه، ثم يَحْتَجُّ على عدولِه بالقَدَرِ، فلماذا يعدِلُ عما ينفعُه في أمورِ دينِه إلى ما يضرُّه، ثم يَحْتَجُّ بالقَدَرِ؟ أفليس شأنُ الأمرين واحدًا؟!
وإليك مِثالًا يوضِّحُ ذلك: لو كان بين يدَيِ الإنسانِ طريقان أحدُهما ينتهي به إلى بلدٍ كُلُّها فوضى وقَتْلٌ ونهبٌ وانتهاكٌ للأعراضِ وخوفٌ وجوعٌ، والثاني ينتهي به إلى بلدٍ كُلُّها نظامٌ، وأمنٌ مستَتِبٌّ، وعيشٌ رغيدٌ، واحترامٌ للنفوسِ والأعراضِ والأموالِ، فأيَّ الطريقينِ يَسلُكُ؟
إنه سيسلُكُ الطريقَ الثَّانيَ الذي ينتهي به إلى بلدِ النِّظامِ والأمنِ، ولا يمكِنُ لأيِّ عاقلٍ أبدًا أن يسلُكَ طريقَ بلدِ الفوضى والخوف، ويَحْتَجَّ بالقَدَرِ، فلماذا يسلُكُ في أمرِ الآخرةِ طريقَ النَّارِ دون الجنةِ ويَحْتَجُّ بالقَدَرِ؟
مثالٌ آخرُ: نرى المريضَ يؤمَرُ بالدواءِ فيَشرَبُه ونَفْسُه لا تشتهيه، ويُنهى عن الطعامِ الذي يضُرُّه فيتركُه ونَفْسُه تشتهيه، كُلُّ ذلك طلبًا للشفاءِ والسلامةِ، ولا يمكِنُ أن يمتنعَ عن شُربِ الدواءِ، أو يأكُلَ الطعامَ الذي يضرُّه ويَحْتَجَّ بالقَدَرِ، فلماذا يترك الإنسانُ ما أمر اللهُ ورسولُه، أو يفعلُ ما نهى اللهُ ورسولُه عنه ثمَّ يَحْتَجُّ بالقَدَرِ؟
السَّابع: أنَّ المحتَجَّ بالقَدَرِ على ما ترَكَه من الواجباتِ أو فعَله من المعاصي، لو اعتدى عليه شخصٌ فأخذ مالَه أو انتهك حُرمَتَه ثمَّ احتجَّ بالقَدَرِ، وقال: لا تَلُمْني فإنَّ اعتدائي كان بقَدَرِ اللهِ! لم يقبَلْ حُجَّتَه، فكيف لا يقبَلُ الاحتجاجَ بالقَدَرِ في اعتداءِ غيرِه عليه، ويَحْتَجُّ به لنَفْسِه في اعتدائِه على حقِّ اللهِ تعالى؟!)( يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (5/ 139-141). .
وقال أيضًا: (شاعت كَلِمةٌ بين النَّاسِ في هذا الزَّمَنِ المتأخِّرِ، وهي قولةُ: هل الإنسانُ مُسَيَّرٌ أم مخيَّرٌ؟
الأفعالُ التي يفعَلُها الإنسانُ يكونُ مخيرًا، فالإنسانُ مخيَّرٌ؛ فبإمكانِه أن يأكُلَ ويشرَبَ، ولهذا بعضُ النَّاسِ إذا سمع أذانَ الفَجرِ قام إلى الماءِ لِيَشرَبَ، وذلك باختيارِه، وكذلك إذا جاء الإنسانَ النومُ فإنه يذهَبُ إلى فراشِه لينامَ باختيارِه، وإذا سمع أذانَ المغربِ، والتَّمرُ أمامه والماءُ، فإنه يأكُلُ باختيارِه، وهكذا جميعُ الأفعالِ تجِدُ أنَّ الإنسانَ فيها مخيَّرٌ، ولولا ذلك لكان عقوبةُ العاصي ظلمًا، فكيف يعاقَبُ الإنسانُ على شيءٍ ليس فيه اختيارٌ له؟ ولولا ذلك لكان ثوابُ المطيعِ عبَثًا، فكيف يثابُ الإنسانُ على شيءٍ لا اختيارَ له فيه؟! وهل هذا إلَّا من بابِ العَبثِ؟
إذًا فالإنسانُ مخيَّرٌ، ولكِنْ ما يقَعُ من فِعلٍ منه فهو بتقديرِ اللهِ؛ لأنَّ هناك سُلطةً فوق سُلطتِه ولكِنَّ اللهَ لا يُجبِرُه، فله الخيارُ ويفعَلُ باختيارِه.
ولهذا إذا وقع الفِعلُ من غيرِ إرادةٍ من الإنسانِ لا يُنسَبُ إليه، قال تعالى في أصحابِ الكَهْفِ: وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، فنسب الفِعلَ «نقَلِّبُهم» إليه سُبحانَه؛ لأنَّ هؤلاء نُوَّمٌ فلا اختيارَ لهم، وقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من نَسِيَ وهو صائِمٌ فأكَلَ أو شَرِبَ فلْيُتِمَّ صَومَه؛ فإنما أطعمه اللهُ وسقاه ))( أخرجه البخاري (1933)، ومسلم (1155) واللَّفظُ له من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. . فنسب الإطعامَ والسَّقيَ إلى اللهِ؛ لأنَّ النَّاسِيَ ما فعل الشيءَ باختيارِه، فلم يختَرْ أن يُفسِدَ صَومَه بالأكْلِ والشُّربِ.
الحاصِلُ: أنَّ هذه العبارةَ لم أرَها في كتُبِ المتقدِّمين من السَّلَفِ من الصَّحابةِ والتابعين وتابعيهم، ولا في كلامِ الأئمَّةِ، ولا في كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ، أو ابنِ القيِّمِ أو غيرِهم ممن يتكلَّمون، لكِنْ حدثَت هذه أخيرًا، وبدؤوا يُطَنْطِنون بها «هل الإنسانُ مُسَيَّرٌ أم مخيَّر؟» ونحن نعلمُ أنَّنا نفعَلُ الأشياءَ باختيارِنا وإرادتِنا، ولا نشعرُ أبدًا أنَّ أحدًا يُكرِهُنا عليها ويسوقُنا إليها سَوقًا، بل نحن الذين نريدُ أن نفعَلَ فنفعَلُ، ونريدُ أن نترُكَ فنترُكُ.
لكن كما أسلَفْنا أوَّلًا في مراتِبِ القَدَرِ، فإنَّ فِعْلَنا ناشئٌ عن إرادةٍ جازمةٍ وقُدرةٍ تامةٍ، وهذان الوصفانِ في أنفُسِنا، وأنفُسُنا مخلوقةٌ للهِ، وخالِقُ الأصلِ خالِقٌ للفرعِ)( يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (3/ 214). .
وقال أيضًا: (الأمورُ التي يفعلُها الإنسانُ العاقِلُ، يفعَلُها باختيارِه بلا ريبٍ... وأما الأمورُ التي تقعُ على العبدِ، أو منه بغيرِ اختيارِه، كالمَرَضِ، والموتِ، والحوادِثِ، فهي بمَحْضِ القَدَرِ، وليس للعبدِ اختيارٌ فيها ولا إرادةٌ)( يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (2/ 91). .
الاحتجاجُ بحَديثِ احتِجاجِ آدَمَ وموسى عليهما السَّلامُ
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عليهما السَّلَامُ عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الذي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِن رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ في جَنَّتِهِ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إلى الأرْضِ! فَقالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الذي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ وَأَعْطَاكَ الألْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شيءٍ وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا، فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا، قالَ آدَمُ: فَهلْ وَجَدْتَ فِيهَا وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: أَفَتَلُومُنِي علَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟! قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى((( رواه البخاري (4736)، ومسلم (2652) واللَّفظُ له. .
فهذا الحديثُ الذي يروي ما جرى بين آدَمَ وموسى عليهما السَّلامُ من محاورةٍ ومحاجَّةٍ قد يُفهَم منه جوازُ الاحتجاجِ بالقَدَرِ على الوقوعِ في الذُّنوبِ والمعاصي، وليس الأمرُ كذلك، وقد بيَّن أهلُ العِلْمِ خَطَأَ هذا الاستدلالِ، وذكروا معانيَ أُخرى يمكِنُ حملُ الحديثِ عليها دون تكَلُّفٍ.
قال الخطابي: (إنما حُجَّةُ آدَمَ في دفعِ اللَّومِ؛ إذ ليس لأحَدٍ من الآدميِّينَ أن يلومَ أحدًا،… فأمَّا الحُكمُ الذي تنازعاه فهما في ذلك على السَّواءِ، لا يقدِرُ أحدٌ أن يُسقِطَ الأصلَ الذي هو القَدَرُ، ولا أن يُبطِلَ الكَسْبَ الذي هو السَّبَبُ، ومن فعل واحدًا منهما خرج عن القصدِ إلى أحدِ الطرفينِ من مَذهَبِ القَدَرِ أو إلى الجبرِ.
وفي قولِ آدَمَ: ((أنت موسى الذي اصطفاك اللهُ برسالاتِه وبكلامِه، ثمَّ تلومُني على أمرٍ قُدِّرَ علَيَّ قبل أن أُخلَقَ)) استقصارٌ لعِلمِ موسى، يقولُ: إذ جعلك اللهُ بالصِّفةِ التي أنت بها من الاصطفاءِ بالرِّسالاتِ والكلامِ، فكيف يسَعُك أن تلومَني على القَدَرِ المقدورِ الذي لا مَدفَعَ له؟ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فحَجَّ آدمُ موسى)). وحقيقتُه أنَّه دفَعَ حُجَّةَ موسى التي ألزمه بها اللَّومَ، وذلك أنَّ الابتداءَ بالمسألةِ والاعتراضِ إنما كان من موسى. لم يكُنْ من آدَمَ إنكارٌ لِما اقترفه من الذَّنبِ وإنما عارضه بأمرٍ كان فيه دَفعُ اللَّومِ، فكان أصوَبَ الرأيينِ ما ذهب إليه آدَمُ)( يُنظر: ((أعلام الحديث)) (3/ 1555). .
وقال ابنُ بطالٍ: (قال المهلَّبُ وغيرُه: "فحَجَّ آدَمُ موسى" أي: غلبَه بالحُجَّةِ. قال اللَّيثُ بنُ سعدٍ: وإنما صحَّت الحُجَّةُ في هذه القِصَّةِ لآدَمَ على موسى؛ من أجْلِ أنَّ اللهَ قد غفر لآدَمَ خطيئَتَه، وتاب عليه، فلم يكُنْ لموسى أن يُعَيِّرَ بخطيئةٍ قد غفرها اللهُ له؛ ولذلك قال له آدَمُ: أنت موسى الذي آتاك اللهُ التوراةَ، وفيها عِلمُ كُلِّ شَيءٍ، فوجدتَ فيها أنَّ اللهَ قد قدَّر عليَّ المعصيةَ، وقدَّر عليَّ التوبةَ منها، وأسقط بذلك اللومَ عنِّي، أتلومُني أنت، واللهُ لا يلومُني؟ وبمثل هذا احتَجَّ ابنُ عُمَرَ على الذي قال له: إنَّ عُثمانَ فَرَّ يومَ أحُدٍ، فقال ابنُ عُمَرَ: ما على عثمانَ ذنبٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قد عفا عنه بقَولِه: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران: 155] ، وأمَّا من عَمِل الخطايا ولم تأتِه المغفرةُ، فإنَّ العُلَماءَ مُجمِعون أنَّه لا يجوزُ له أن يَحْتَجَّ بمثل حُجَّةِ آدَمَ فيقولَ: أتلومُني على أن قتَلْتُ أو زَنيتُ أو سرَقْتُ، وقد قَدَّرَ اللهُ عليَّ ذلك؟ والأُمَّةُ مجمِعةٌ على جوازِ حمدِ المحسِنِ على إحسانِه، ولَومِ المسيءِ على إساءتِه وتعديدِ ذنوبِه عليه)( يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 315). .
وقال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: ( ((فحَجَّ آدَمُ موسى)) ظاهِرُ هذا أنَّ آدَمَ إنما غلب موسى بالحُجَّةِ؛ لأنَّه اعتذر بما سبق له من القَدَرِ عمَّا صدر عنه من المخالفةِ، وقَبِل عُذرَه، وقامت بذلك حُجَّتُه؛ فإن صَحَّ هذا لزم عليه أن يَحْتَجَّ به كُلُّ من عصى، ويعتَذِرَ بذلك فيُقبَلَ عُذرُه، وتَثبُتَ حُجَّتُه، فحينئذ تكونُ للعُصاةِ على اللهِ حُجَّةٌ، وهو مناقِضٌ لقَولِه تعالى: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وقد اختلف العُلَماءُ في تأويلِ هذا الحديثِ؛ فقيل: إنما غلبه آدمُ بالحُجَّةِ؛ لأنَّ آدَمَ أبو موسى، وموسى ابنٌ، ولا يجوزُ لومُ الابنِ أباه، ولا عَتْبُه.
قلتُ: وهذا نأيٌ عن معنى الحديثِ، وعمَّا سيق له، وقيل: إنما كان ذلك لأنَّ موسى قد كان عَلِم من التوراةِ أنَّ اللهَ تعالى قد جعل تلك الأكلةَ سَبَبَ إهباطِه من الجنَّة، وسُكناه الأرضَ، ونَشْرِ نَسْلِه فيها ليُكَلِّفَهم ويمتحِنَهم ويرتِّبَ على ذلك ثوابَهم وعقابَهم الأخرويَّ.
قلتُ: وهذا إبداءُ حِكْمةِ تلك الأكلةِ، لا انفصالَ عن إلزامِ تلك الحُجَّةِ، والسؤالُ باقٍ لم ينفَصِلْ عنه.
وقيل: إنما توجَّهَت حُجَّتُه عليه؛ لأنَّه قد عَلِمَ من التوراةِ ما ذكروا أنَّ اللهَ تاب عليه واجتباه وأسقط عنه اللَّومَ والعَتْبَ. فلَومُ موسى وعَتْبُه له مع عِلْمِه بأنَّ اللهَ تعالى قدَّر المعصيةَ وقضى بالتوبةِ، وبإسقاطِ اللَّومِ والمعاتبةِ، حتى صارت تلك المعصيةُ كأنْ لم تكُنْ- وقع في غيرِ محَلِّه، وعلى غيرِ مُستَحَقِّه، وكان هذا من موسى نسبةُ جفاءٍ في حالةِ صَفاءٍ، كما قال بعضُ أربابِ الإشاراتِ: ذِكْرُ الجفاءِ في حالِ الصَّفاءِ جَفاءٌ. وهذا الوَجهُ إن شاء اللهُ أشبَهُ ما ذُكِر، وبه يتبَيَّنُ أنَّ ذلك الإلزامَ لا يلزَمُ. واللهُ أعلمُ)( يُنظر: ((المفهم)) (6/ 667). .
وقال النوويُّ: ( ((فحَجَّ آدمُ موسى)) برَفعِ آدَمَ، وهو فاعِلٌ، أي: غلبه بالحُجَّةِ وظهر عليه بها، ومعنى كلامِ آدَمَ: أنَّك يا موسى تعلَمُ أنَّ هذا كُتِب عليَّ قبل أن أُخلَقَ وقُدِّرَ عليَّ، فلا بدَّ من وقوعِه ولو حرَصْتُ أنا والخلائِقُ أجمعون على رَدِّ مِثقالِ ذَرَّةٍ منه لم نقدِرْ، فلِمَ تلومُني على ذلك؟ ولأنَّ اللومَ على الذَّنبِ شَرعيٌّ لا عقليٌّ، وإذ تاب اللهُ تعالى على آدَمَ وغفر له، زال عنه اللومُ فمن لامَه كان محجوجًا بالشَّرعِ، فإن قيل: فالعاصي منَّا لو قال: هذه المعصيةُ قَدَّرها اللهُ عليَّ، لم يسقُطْ عنه اللومُ والعقوبةُ بذلك وإن كان صادِقًا فيما قاله! فالجوابُ: أنَّ هذا العاصي باقٍ في دارِ التكليفِ جارٍ عليه أحكامُ المكَلَّفين من العقوبةِ واللَّومِ والتوبيخِ وغيرِها، وفي لومِه وعقوبتِه زجرٌ له ولغيرِه عن مِثلِ هذا الفِعلِ، وهو محتاجٌ إلى الزَّجرِ مالم يمُتْ، فأمَّا آدَمُ فمَيِّتٌ خارجٌ عن دارِ التكليفِ وعن الحاجةِ إلى الزَّجرِ، فلم يكُنْ في القَولِ المذكورِ له فائدةٌ، بل فيه إيذاءٌ وتخجيلٌ. واللهُ أعلمُ)( يُنظر: ((شرح مسلم)) (16/ 202). .
وقال المظهري: (قَوله عليه السَّلامُ: ((فحَجَّ آدمُ))، أي: غلب آدمُ على موسى عليهما السلامُ في الحُجَّةِ.
واعلَمْ أنَّ حُكمَ رَسولِ اللهِ عليه السَّلامُ بأنَّ آدمَ عليه السَّلامُ غلب على موسى عليه السَّلامُ في الحُجَّة ليس بسببِ أنَّ آدَمَ لم يكُنْ مستحِقًّا اللَّومَ بهذه الخطيئةِ، بل كان مستحِقًّا اللومَ؛ لأنَّا لو قلنا: لم يكُنْ مستحِقًّا اللومَ على تلك الخطيئةِ لم يكُنْ غيرُ آدمَ عليه السَّلامُ أيضا مستوجِبًا اللومَ على الخطيئةِ، وحينئذ تبطُلُ أحكامُ الشَّرعِ وتُرفَعُ فائدةُ مجيءِ الرُّسُلِ على الخَلْقِ وإنزالِ الكُتُبِ بين جميعِ المكَلَّفين من الأنبياءِ، وغيرُهم مُستوجِبون اللَّومَ على الخطيئةِ، وإنما كان حَجُّ آدَمَ موسى لعِلَلٍ:
أحَدُها: أنَّ لومَ موسى آدمَ بعد أن عفا اللهُ تعالى عن آدَمَ خطيئَتَه، واللومُ فيه غيرُ متوَجِّهٍ.
الثانية: أنَّ لومَ موسى آدَمَ عليه السَّلامُ كان بعد زوالِ التكليفِ، وذلك أنَّ هذه المحاجَّةَ كانت في السَّماءِ بعد أن خرجت روحُ كُلِّ واحدٍ منهما من جَسَدِه في الأرضِ ثم صَعِد السَّماءَ، وفي هذه الحالةِ لم يبْقَ تكليفٌ على أحدٍ حتى يلامَ أحَدٌ)( يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (1/ 175). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (الصَّوابُ في قِصَّةِ آدَمَ وموسى: أنَّ موسى لم يَلُمْ آدَمَ إلَّا من جهةِ المصيبةِ التي أصابَتْه وذريَّتَه بما فعل، لا لأجْلِ أن تارِكَ الأمرِ مُذنِبٌ عاصٍ؛ ولهذا قال: لماذا أخرَجْتَنا ونفْسَك من الجنَّةِ؟ لم يقُلْ: لماذا خالَفْتَ الأمرَ؟ ولماذا عصَيتَ؟ والنَّاسُ مأمورون عند المصائِبِ التي تصيبُهم بأفعالِ النَّاسِ أو بغيرِ أفعالهم بالتسليمِ للقَدَرِ، وشهودِ الرُّبوبيَّةِ)( يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/319). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (موسى أعرفُ باللهِ وأسمائِه وصفاتِه من أن يلومَ على ذنبٍ قد تاب منه فاعِلُه، فاجتباه ربُّه بعده، وهداه واصطفاه. وآدَمُ أعرَفُ برَبِّه من أن يحتجَّ بقَضائِه وقَدَرِه على معصيتِه، بل إنما لام موسى آدمَ على المعصيةِ التي نالت الذرِّيَّةَ بخُروجِهم من الجنَّةِ ونزولِهم إلى دارِ الابتلاءِ والمحنةِ بسَبَبِ خطيئةِ أبيهم، فذكَرَ الخطيئةَ تنبيهًا على سببِ المصيبةِ والمحنةِ التي نالت الذرِّيَّةَ، ولهذا قال له: أخرَجْتَنا ونفْسَك من الجنَّةِ، وفي لفظٍ: خيَّبْتَنا.
فاحتجَّ آدَمُ بالقَدَرِ على المصيبةِ، وقال: إنَّ هذه المصيبةَ التي نالت الذرِّيَّةَ بسَبَبِ خطيئتي كانت مكتوبةً بقَدَرِه قبل خَلقِي، والقَدَرُ يُحتجُّ به في المصائِبِ دون المعايبِ، أي: أتلومُني على مصيبةٍ قُدِّرت عليَّ وعليكم قبل خَلقِي بكذا وكذا سنةً؟ هذا جوابُ شيخِنا رحمه اللهُ.
وقد يتوجَّهُ جوابٌ آخَرُ، وهو أنَّ الاحتجاجَ بالقَدَرِ على الذَّنبِ ينفَعُ في موضِعٍ، ويضُرُّ في موضعٍ؛ فينفَعُ إذا احتجَّ به بعد وقوعِه والتوبةِ منه وتركِ معُاوَدتِه، كما فعل آدَمُ، فيكونُ في ذِكْرِ القَدَرِ إذ ذاك من التوحيدِ ومعرفةِ أسماءِ الرَّبِّ وصفاتِه وذِكْرِها ما ينتفِعُ به الذَّاكِرُ والسَّامِعُ؛ لأنَّه لا يدفَعُ بالقَدَرِ أمرًا ولا نهيًا، ولا يبطُلُ به شريعةً، بل يخبرُ بالحَقِّ المحْضِ على وَجهِ التوحيدِ والبراءةِ من الحولِ والقُوَّةِ، يُوَضِّحُه أنَّ آدَمَ قال لموسى: ((أتلومُني على أن عَمِلتُ عَمَلًا كان مكتوبًا عليَّ قبل أن أُخلَقَ؟))، فإذا أذنب الرَّجُلُ ذنبًا، ثم تاب منه توبةً، وزال أمرُه حتى كأنْ لم يكُنْ، فأنَّبَه مؤنِّبٌ عليه ولامه، حَسُن منه أن يَحْتَجَّ بالقَدَرِ بعد ذلك، ويقولَ: هذا أمرٌ كان قد قُدِّرَ علَيَّ قبل أن أُخلَقَ، فإنه لم يدفَعْ بالقَدَرِ حقًّا، ولا ذَكَره حُجَّةً له على باطلٍ، ولا محذورَ في الاحتجاجِ به.
وأمَّا الموضِعُ الذي يضرُّ الاحتجاجُ به ففي الحالِ والمُستَقبَلِ، بأن يرتَكِبَ فِعلًا محرَّمًا أو يترُكَ واجبًا فيلومَه عليه لائمٌ، فيَحْتَجَّ بالقَدَرِ على إقامتِه عليه وإصرارِه، فيُبطِلُ بالاحتجاجِ به حقًّا ويرتَكِبَ باطِلًا، كما احتجَّ به المصِرُّون على شِرْكِهم وعبادتِهم غيرَ اللهِ، فقالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا [الأنعام: 148] لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف: 20] فاحتجُّوا به مصوِّبين لِما هم عليه، وأنهم لم يندَموا على فِعْلِه، ولم يَعزِموا على تَرْكِه، ولم يقِرُّوا بفسادِه؛ فهذا ضِدُّ احتجاجِ من تبيَّن له خطأُ نَفْسِه، ونَدِمَ وعَزَم كُلَّ العَزْمِ على ألَّا يعودَ؛ فإذا لامه لائمٌ بعد ذلك قال: كان ما كان بقَدَرِ اللهِ.
ونكتةُ المسألةِ أنَّ اللومَ إذا ارتفع صَحَّ الاحتجاجُ بالقَدَرِ، وإذا كان اللومُ واقِعًا فالاحتجاجُ بالقَدَرِ باطِلٌ)( يُنظر: ((شفاء العليل)) (ص: 47). .

انظر أيضا: