الموسوعة العقدية

المَطلَبُ الأوَّلُ: تَواتُرُ أحاديثِ عَذابِ القَبرِ ونَعيمِه

قال ابنُ أبي العِزِّ: (قَد تَواتَرَتِ الأخبارُ عَن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ثُبوتِ عَذابِ القَبرِ ونَعيمِه لِمَن كانَ لِذلك أهلًا، وسُؤالُ المَلَكينَ، فيَجِبُ اعتِقادُ ثُبوتِ ذلك والإيمانُ به، ولا نَتَكَلَّمُ في كَيفيَّتِه؛ إذ لَيسَ لِلعَقلِ وُقُوفٌ على كَيفيَّتِه؛ لِكَونِه لا عَهدَ لَه به في هَذِه الدَّارِ، والشَّرعُ لا يأتي بما تُحيلُه العُقولُ، ولَكِنَّه قَد يأتي بما تَحارُ فيه العُقولُ، فإنَّ عَودةَ الرُّوحِ إلَى الجَسَدِ لَيسَ على الوَجهِ المَعهودِ في الدُّنيا، بَل تُعادُ الرُّوحُ إلَيه إعادةً غَيرَ الإعادةِ المألوفةِ في الدُّنيا) [1533] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 578). .
وقال أيضًا: (اعلَمْ أنَّ عَذابَ القَبرِ هو عَذابُ البَرزَخِ، فكُلُّ مَن مات وهو مُستَحِقٌّ لِلعَذاب نالَه نَصيبُه مِنه، قُبِرَ أو لَم يُقْبَرْ، أكَلَتْه السِّبَاعُ أوِ احتَرَقَ حَتَّى صارَ رَمادًا ونُسِف في الهَواءِ، أو صُلِبَ أو غَرقَ في البَحرِ، وصَلَ إلَى رُوحِه وبَدنِه مِنَ العَذابِ ما يَصِلُ إلَى المَقبورِ، وما ورَدَ من إجلاسِه، واختِلافِ أضلاعِه ونَحوِ ذلك، فيَجِبُ أن يُفهَمَ عَنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرادُه من غَيرِ غُلُوٍّ ولا تَقصيرٍ) [1534] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 579). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا أحاديثُ عَذابِ القَبرِ ومَسألةُ مُنكَرٍ ونَكيرٍ فكثيرةٌ مُتَواتِرةٌ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1535] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 285). .
وقال ابنُ رَجَبٍ: (قَد تَواتَرَتِ الأحاديثُ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عَذابِ القَبرِ والتَّعَوُّذِ مِنه) [1536] يُنظر: ((أهوال القبور)) (ص: 45). .
وقال حافِظٌ الحَكَميُّ: (إثباتُ سُؤالِ القَبرِ وفتْنَتِه وعَذابِه ونَعيمِه، وقَد تَظاهَرَت بذلك نُصوصُ الشَّريعةِ كِتابًا وسُنَّةً، وأجمَعَ على ذلك أئِمَّةُ السُّنَّةِ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ فمَن بَعدَهم من أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ) [1537] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/ 713). .
وقد ورَدَت إشاراتٌ في القُرآنِ تَدُلُّ على عذابِ القَبرِ.
قال اللهُ تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة: 101] .
أي: سَنُعذِّبُ هَؤُلاءِ الَّذينَ مَرَدوا على النِّفاقِ، في الدُّنيا وفي القَبرِ، ثُمَّ يُرَدُّ هَؤُلاءِ المُنافِقونَ بَعدَ تَعذيبِهم مَرَّتينَ إلَى عَذابٍ عَظيمٍ في نارِ جَهَنَّمَ [1538] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة التوبة)) (ص: 533). .
قال الحَسَنُ البَصريُّ وقتادةُ وابنُ جُرَيجٍ في قَولِ اللهِ تعالى: سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ [التوبة: 101] : (عذابَ الدُّنيا، وعذابَ القَبْرِ) [1539] أخرجه ابن جرير في تفسيره (11/ 646). .
وقال ابنُ جَريرٍ: (الأغلَبُ من إحدى المرَّتَينِ أنَّها في القَبْرِ) [1540] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/ 649). .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 45-46] .
قال القُرطُبيُّ: (الجُمْهورُ على أنَّ هَذا العَرْضَ في البَرزَخِ، احتَجَّ بَعضُ أهْلِ العِلمِ في تَثبيتِ عَذابِ القَبرِ بقَولِه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ما دامَتِ الدُّنيا. كَذلك قال مَجاهِدٌ وعِكْرِمةُ ومُقاتِلٌ ومُحَمَّدُ بنُ كَعبٍ كُلُّهم. قال: هَذِه الآيةُ تَدُلُّ على عَذابِ القَبرِ في الدُّنْيا، ألا تَراه يَقولُ عَن عَذابِ الآخِرةِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ؟) [1541] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/ 318). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (هذه الآيةُ أصلٌ كبيرٌ في استدلالِ أهلِ السُّنَّةِ على عذابِ البَرْزخِ في القُبورِ، وهي قَولُه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [1542] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 146). .
وقال السَّعديُّ: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ أغرقهم اللهُ تعالى في صبيحةٍ واحِدةٍ عن آخِرِهم.
وفي البَرْزَخِ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [1543] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 739). .
وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124] .
قال ابنُ جَريرٍ بَعْدَ ذِكرِ الأقوالِ في الآيةِ: (أَولَى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ قَولُ مَن قال: هو عَذابُ القَبرِ... إنَّ اللَّهَ تَبارك وتعالى أتبَعَ ذلك بقَولِه: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه: 127] فكانَ مَعلومًا بذلك أنَّ المَعيشةَ الضَّنْكَ الَّتي جَعلها اللَّهُ لَهم قَبلَ عَذَابِ الآخِرةِ؛ لِأنَّ ذلك لَو كانَ في الآخِرةِ لَم يَكُنْ لِقَولِه: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه: 127] مَعنًى مَفهومٌ؛ لِأنَّ ذلك إن لَم يَكُنْ تَقَدَّمَه عَذابٌ لَهم قَبلَ الآخِرةِ، حَتَّى يَكونَ الَّذي في الآخِرةِ أشَدَّ مِنه، بَطَلَ مَعنى قَولِه: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه: 127] . فإذ كانَ ذلك كَذلك، فلا تَخلو تِلكَ المَعيشةُ الضَّنْكَ الَّتي جَعلها اللَّهُ لَهم من أن تَكونَ لَهم في حَياتِهمُ الدُّنيا، أو في قُبورِهم قَبلَ البَعثِ؛ إذ كانَ لا وجْهَ لِأن تَكونَ في الآخِرةِ لِما قَد بَيَّنَّا، فإن كانَت لَهم في حَياتِهمُ الدُّنيا، فقَد يَجِبُ أن يَكونَ كُلُّ مَن أعرَضَ عَن ذِكرِ اللَّهِ مِنَ الكُفَّارِ، فإنَّ مَعِيشَتَه فيها ضَنْكٌ، وفي وُجودِنا كَثيرًا مِنهم أوسَعَ مَعيشةً من كَثيرٍ من المُقْبِلينَ على ذِكرِ اللَّهِ تَبارك وتعالى، القانِتينَ لَه المُؤمِنينَ؛ في ذلك ما يَدُلُّ على أنَّ ذلك لَيسَ كَذلك، وإذ خَلَا القَولُ في ذلك من هَذينِ الوجهينِ صَحَّ الوَجهُ الثَّالِثُ، وهو أنَّ ذلك في البَرزَخِ) [1544] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/ 198-200). .
وقال السَّعديُّ: (فُسِّرَتِ المَعيشةُ الضَّنْكُ بعَذابِ القَبرِ، وأنَّه يُضَيَّقُ عليه قَبرُه، ويُحصَرُ فيه ويُعذَّبُ؛ جُزَاءً لِإعراضِه عَن ذِكرِ رَبِّه، وهَذِه إحدَى الآياتِ الدَّالَّةِ على عَذابِ القَبرِ)  [1545]يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 515). .
وقال اللهُ تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة: 21] .
قال ابنُ رَجَبٍ: (قَد دَلَّ القُرآنُ على عَذابِ القَبرِ في مَواضِعَ، كَقَولِه تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَومَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِه تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93] ) [1546] يُنظر: ((أهوال القبور)) (ص: 44). .
وقال اللهُ سُبحانَه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم: 27] .
عَنِ البراءِ بن عازِبٍ رَضيَ اللهُ عَنهما عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا أُقعِدَ المُؤمِنُ في قَبرِه أُتِيَ ثُمَّ شَهِدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فذلك قَولُه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إبراهيم: 27] .
وفي رِوايةٍ أُخرَى: وزادَ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [إبراهيم: 27] نَزَلَت في عَذابِ القَبرِ))
[1547] أخرجه البخاري (1369) واللَّفظُ له، ومسلم (2871). .
وعَن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عَنها قالت: دَخَلَتْ عليَّ عَجُوزانِ من عُجُزِ يَهودِ المَدينةِ، فقالَتَا: إنَّ أهْلَ القُبورِ يُعَذَّبونَ في قُبورِهم، قالت: فكَذَّبْتُهما، ولَم أنعَمْ أنْ أُصَدِّقَهما، فخَرَجَتا، ودَخلَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلتُ لَه: يا رَسولَ اللَّهِ إنَّ عَجُوزينِ من عُجُزِ يَهودِ المَدينةِ دَخَلَتَا عليَّ، فزَعَمَتا أنَّ أهلَ القُبورِ يُعذَّبونَ في قُبورِهم، فقال: ((صَدَقَتا، إنَّهم يُعذَّبونَ عَذابًا تَسمَعُه البَهائِمُ" قالت: فما رأيتُه بَعدُ في صَلاةٍ إلَّا يَتَعَوَّذُ من عَذابِ القَبرِ)) [1548] أخرجه البخاري (6366)، ومسلم (586) واللَّفظُ له. .
قال عِياضٌ: (ذَكَر مُسلِمٌ حَديثَ التَّعَوُّذِ من عَذاب القَبرِ في الصَّلاةِ، وهو صَحيحٌ، ومَذهَبُ أهلِ الحَقِّ القَولُ به، واعتِقادُ صِحَّتِه، وصِحَّةِ فِتنَتِه. وهو -واللَّهُ أعلَمُ- يعني: «فتنةَ المَحيا والمَمَاتِ» الَّتي استَعاذَ مِنهما النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كَما قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أو يكونُ مَعنى: «فتنةَ المَمَاتِ»: أي: حينَ المَوتِ والاحتِضارِ) [1549] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (2/ 537). .
وعَن أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنها قالت: ((قامَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَطيبًا، فذَكرَ فِتنةَ القَبرِ الَّتي يُفتَنُ فيها المَرءُ، فلَمَّا ذَكَرَ ذلك ضَجَّ المُسْلِمونَ ضَجَّةً )) [1550] أخرجه البخاري (1373). .   
قال علي القاري: ( ((قالت: قامَ رَسولُ اللَّهِ خَطيبًا)): حالٌ، أي: واعِظًا ((فذَكَر فتنةَ القَبرِ))، أي: وعَذابَه أوِ ابتِلاءَه والامتِحانَ فيه ((الَّتي يُفتَنُ)): بصيغةِ المَفعولِ، أي: يُبتَلَى ((فيها المَرءُ)): صِفةٌ لِفتنة، يعني: ذَكرَ الفتنةَ بتَفاصيلِها كَما يَجري على المَرءِ في قَبرِه...
((قال)) أيِ: الرَّجُلُ: قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((قَد أوحِيَ إليَّ))، أي: وحَيًا جَلِيًّا أو خَفيًّا ((أنَّكُم)): أيُّها الأمَّةُ ((تُفتَنونُ)): بصيغةِ المَجهولِ، أي: تُمتَحَنونَ ((في القُبورِ)): أيِ افتِتانًا قَريبًا ((من فِتنةِ الدَّجَّالِ)) [1551] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (1/ 218). .
وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنه عَنِ النَّبِىِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: ((مَلأَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ )) [1552] أخرجه البخاري (4111) واللَّفظُ له، ومسلم (627). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قَدِ استُشكِلَ هَذا الحَديثُ بأنَّه تَضمَّنَ دُعاءً صَدَرَ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مَن يَستَحِقُّه، وهو مَن ماتَ مِنهم مُشرِكًا، ولَم يَقَعْ أحَدُ الشِّقَّينَ وهو البُيوتُ، أمَّا القُبورُ فوقَعَ في حَقِّ مَن ماتَ مِنهم مُشرِكًا لا مَحالةَ، ويُجابُ بأن يُحمَلَ على سُكَّانِها) [1553] يُنظر: ((فتح الباري)) (8/ 198). .
وقال ابنُ المَلكِ: ( ((مَلأ اللَّهُ بيوتَهم وقُبورَهم نارًا))، دُعاءٌ عليهم بجَعلِه تعالى النَّارَ مُلازِمَتَهم في حَياتِهم في بُيوتِهم، وفي مَمَاتِهم في قُبورِهم) [1554] يُنظر: ((شرح المصابيح)) (1/ 390). .
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَانَ يَدْعُو في الصَّلَاةِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ )) [1555] أخرجه البخاري (832) واللَّفظُ له، ومسلم (589). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (هَذِه الآثارُ تَشهَدُ لِلآثارِ الَّتي في البابِ قَبلَ هَذا، أنَّ عَذابَ القَبرِ حَقٌّ على ما ذَهَبَ إلَيه أهلُ السُّنَّةِ، ألا تَرَى الرَّسولَ استَعاذَ باللهِ مِنه، وقَد عَصَمَه اللَّهُ وطَهَّرَه، وغَفَرَ لَه ما تَقَدَّمَ من ذَنبِه وما تأخَّرَ، فيَنبَغي لِكُلِّ مَن عَلِمَ أنَّه غَيرُ مَعصومٍ ولا مُطَهَّرٍ أن يُكثِرَ التَّعَوُّذَ مِمَّا استَعاذَ مِنه نَبيُّه؛ ففي أكرَمِ الأكرَمِينَ أُسوةٌ. فإنْ قيلَ: فإذا أخبَرَ اللَّهُ نَبيَّه أنَّه قَد غَفَرَ لَه ما تَقَدَّمَ من ذَنبه وما تأخَّرَ، فما وجهُ استِعاذَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من شَيءٍ قَد عَلِمَ أنَّه قَد أُعيذَ مِنه؟ فالجَوابُ: أنَّ في استِعاذَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من كُلِّ ما استَعاذَ مِنه إظهارًا لِلِافتِقارِ إلَى اللَّهِ، وإقرارًا بالنِّعَمِ، واعتِرافًا بما يَتَجَدَّدُ من شُكرِه عليها ما يَكونُ كَفًّا لَها ألَّا تَرَى أنَّه كانَ يُصلِّي حَتَّى تَتَفطَّرَ قَدَماه، فيُقالُ لَه: يا رَسولَ اللَّهِ، قَد غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ما تَقَدَّمَ من ذَنبكَ وما تأخَّرَ، فيَقولُ: ((أفلَا أكونُ عَبَدًا شَكورًا )) [1556] أخرجه البخاري (1130)، ومسلم (2819). . فمَن عَظُمَتْ عليه نِعَمُ اللَّهِ وجَبَ عليه أن يَتَلَقَّاها بعَظيمِ الشُّكرِ، لا سِيَّما أنبيائِه وصَفْوَتِه من خَلقِه الَّذينَ اختارَهم، وخَشيةُ العِبادِ لِلَّهِ على قَدرِ عِلْمِهم به. وفي استِعاذَتِه مِمَّا أُعيذَ مِنه تَعليمٌ لِأمَّتِه، وتَنبيهٌ لَهم على الاقتِداءِ به واتِّباعِ سُنَّتِه وامتِثالِ طَريقَتِه، واللَّهُ أعلَمُ) [1557] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (3/ 364). .
قال النَّوويُّ: (حاصِلُ أحاديثِ البابِ استِحبابُ التَّعَوُّذِ بينَ التَّشَهُّدِ والتَّسليمِ من هَذِه الأمورِ، وفيه إثباتُ عَذاب القَبرِ وفتنَتِه، وهو مَذهَبُ أهلِ الحَقِّ خِلافًا لِلمُعتَزِلةِ. ومَعنَى فتنةِ المَحيا والمَمَاتِ: الحَياةُ والمَوتُ، واختَلَفوا في المَرادِ بفتنةِ المَوتِ؛ فقيلَ: فتنةُ القَبرِ، وقيلَ: يَحتَمِلُ أن يُرادَ بها الفِتنةُ عِندَ الاحتِضارِ، وأمَّا الجَمعُ بينَ فتنةِ المَحيا والمَمَاتِ وفتنةِ المَسيحِ الدَّجَّالِ وعَذابِ القَبرِ فهو من بابِ ذِكرِ الخاصِّ بَعدَ العامِّ، ونَظائِرُه كَثيرةٌ) [1558] يُنظر: ((شرح مسلم)) (5/ 85). .
وبوَّبَ البُخاريُّ في كِتابِ الدَّعَواتِ بابَ التَّعَوُّذِ من عَذابِ القَبرِ، ومِمَّا ذَكرَه:
عَن أمِّ خالِدٍ بنتِ خالِدٍ قالت: ((سَمِعْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَعَوَّذُ من عَذابِ القَبرِ )) [1559] أخرجه البخاري (1376) .
قال القَسطَلَّانيُّ: (فيه إثباتُ عَذابِ القَبرِ؛ فالإيمانُ به واجِبٌ) [1560] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (9/ 209). .
وعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا هَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ، كَمَا تُعَلَّمُ الكِتَابَةُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ القَبْرِ ))  [1561]أخرجه البخاري (6390). .
قال القَسطَلَّانيُّ: ( ((وأعوذُ بكَ من عَذابِ القَبرِ)) الواقِعُ على الكُفَّارِ ومَن شاءَ اللَّهُ من عُصاةِ الموحِّدينَ، أعاذَنا من كُلِّ مَكروهٍ) [1562] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (9/ 209). .
وقال أيضًا في شَرحِ حَديثِ: ((اطَّلَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أهلِ القَليبِ...))  [1563]أخرجه البخاري (1370) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. بَعدَ غَزوةِ بَدرٍ: (هَم: أبو جَهلِ بنُ هِشامٍ، وأمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، وعُتْبةُ بنُ رَبِيعةَ، وشَيبةُ بنُ رَبِيعةَ، وهم يُعَذَّبونَ ((فقال)) لَهم: ((وجَدْتُم ما وعَد رُبُّكُم حَقًّا؟)) وفي نُسخةٍ: ما وعَدَكُم؟ ((فقيلَ لَه)) عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والقائِلُ عُمرُ بنُ الخَطَّابِ، كَما في مُسلِم: ((أتَدعو)) بهَمزةِ الاستِفهامِ، وسَقَطَت مِنَ اليونَينيَّةِ، كَما في فرعِها ((أمَواتًا؟ فقال)) عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((ما أنتُم بأسمَعَ مِنهم)) لِما أقولُ ((ولَكِن لا يُجيبونَ)): لا يَقدِرونَ على الجَواب. وهَذا يَدُلُّ على وُجودِ حَياةٍ في القَبرِ يَصلُحُ مَعَها التَّعذيبُ؛ لِأنَّه لَمَّا ثَبَتَ سَماعُ أهلِ القَليب كَلامَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتَوبيخَه لَهم، دَلَّ على إدراكِهمُ الكَلامَ بحاسَّةِ السَّمعِ، وعلى جَوازِ إدراكِهم ألمَ العَذابِ ببَقيَّةِ الحَواسِّ بَل بالذَّاتِ) [1564] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (2/ 462). .
ومن أقوالِ أهلِ العِلمِ في إثباتِ عَذابِ القَبرِ:
1- قال الشَّافِعيُّ: (والإيمانُ بعَذابِ القَبرِ، والإيمانُ بالحَوضِ والشَّفاعةِ، وخُروجُ الدَّجَّالِ حَقٌّ، ومُنكَرٌ ونَكيرٌ حَقٌّ، والإيمانُ بهَذا كُلِّه حَقٌّ، فمَن تَركَ من هَذا شَيئًا؛ فهو مُخالِفٌ لِكِتابِ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ وسُنَّةِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1565] يُنظر: ((اعتقاد الشافعي)) للهكاري (ص: 18). .
2- قال أحمَدُ بنُ حَنبلٍ: (أصولُ السُّنَّةِ عِندَنا... الإيمانُ بعَذابِ القَبرِ) [1566] يُنظر: ((أصول السنة)) (ص: 14-30). .
3- قال ابنُ قُتَيبةَ: (إنَّ أصحابَ الحَديثِ كُلَّهم مُجْمِعونَ على... الإيمانِ بعَذابِ القَبرِ، لا يَختَلِفونَ في هَذِه الأصولِ) [1567] يُنظر: ((تأويل مختلف الحديث)) (ص: 64). .
4- قال أبو الحَسَنِ الأشعَريُّ: (أجمَعوا على أنَّ عَذابَ القَبرِ حَقٌّ) [1568] يُنظر: ((رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب)) (ص: 159). .
5- قال ابنُ بَطَّة: (نَحنُ الآنَ ذاكِرونَ شَرحَ السُّنَّةِ... مِمَّا أجمَعَ على شَرحِنا لَه أهلُ الإسلامِ وسائِرُ الأمَّةِ مُذ بَعثَ اللَّهُ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَى وقَتِنا هَذا... ثُمَّ الإيمان بعَذابِ القَبرِ) [1569] يُنظر ((الإبانة الصغرى)) (ص: 191-217). .
6- قال ابنُ بطَّالٍ: (قال أبو بَكر بن مُجاهدٍ: أجمَعَ أهلُ السُّنَّةِ أنَّ عَذابَ القَبرِ حَقٌّ، وأنَّ النَّاسَ يُفتَنونَ في قُبورِهم بَعدَ أن يَحيوا فيها، ويُسْأَلوا فيها، ويُثَبِّتُ اللَّهُ مَن أحَبَّ تَثبيتَه مِنهم. وقال أبو عُثمانَ بنُ الحدادِ: وإنَّما أنكَرَ عَذابَ القَبرِ بِشْرٌ المِرِّيسيُّ والأصَمُّ وضرارٌ... قال القاضي أبو بَكر بنُ الطَّيب وغَيرُه: قَد ورَدَ القُرآنُ بتَصديقِ الأخبارِ الوارِدةِ في عَذابِ القَبرِ، قال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: 46] ) [1570] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (3/ 358). .
7- قال البيهَقيُّ بَعدَ أن ذَكَرَ مَجموعةً مِنَ الأدِلَّةِ على إثباتِ عَذابِ القَبرِ: (ورُوِّينا في حَديثِ البراءِ بن عازِبٍ، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قِصَّةِ عَذابِ القَبرِ، قال: فتُعادُ روحُه في جَسدِه، فيأتيه مَلكانِ، قال الشَّيخُ: وإعادةُ الرُّوحِ في جُزءٍ واحِدٍ، وسُؤالُ جُزءٍ واحِدٍ، وتَعذيبُ جُزءٍ واحِدٍ؛ مِمَّا يَجوزُ في العَقلِ، ولَيسَ في تَفرُّقِ الأجزاءِ استِحالةُ ما ورَدَتَ به الأخبارُ في عَذابِ القَبرِ، وهو كَما شاءَ اللَّهُ، ولِمَن شاءَ اللَّهُ، وإلَى ما شاءَ اللَّهُ، نَعوذُ باللهِ من عَذابِ اللَّهِ. والأخبارُ في عَذابِ القَبرِ كَثيرةٌ، وقَد أفرَدْنا لَها كِتابًا مُشتَمِلًا على ما ورَدَ فيها مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ، وقَدِ استَعاذَ مِنه رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَرَ أمَّتَه بالاستِعاذةِ مِنه) [1571] يُنظر: ((الاعتقاد)) (ص: 257). .
8- قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (أهلُ السُّنَّةَ والجَماعةِ مُصَدِّقونَ بفتنةِ القَبرِ وعَذابِ القَبرِ؛ لِتَوافُرِ الأخبارِ بذلك عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1572] يُنظر: ((الاستذكار)) (2/ 421). .
9- قال أبو الحَسَنِ الآمِديُّ: (أمَّا إنكارُ عَذابِ القَبرِ مَعَ ما اشتَهرَ من حالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصَّحابةِ مِنَ الاستِعاذةِ مِنه، والخَوفِ والحَذَرِ، وقَولِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ حَيثُ عَبَرَ على قَبرينَ، فقال: ((إنَّهما يُعَذَّبانِ)) [1573] رواه البخاري (1378) واللفظ له، ومسلم (292) من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. ولفظ البخاري: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان من كبير - ثم قال: - بلى أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما أحدهما فكان لا يستتر من بوله)). قال: ثم أخذ عودا رطبا فكسره باثنتين ثم غرز كل واحد منهما على قبر، ثم قال: ((لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)) ، وقَولِ اللَّهِ تعالى: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارِ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 45-46] ، فلا سَبيلَ إلَيه، ولا مُعَوَّلَ لِأربابِ العُقولِ عليه، واستِبعادُ ذلك على أنَّه غَيرُ مَحسوسٍ مِنَ المَيِّتِ، فمَن أدرَكَ بعَقلِه حالَ النَّائِمِ في مَنامِه، وما يَنالُه مِنَ اللَّذَّاتِ والتألُّماتِ بسَبَب ما يُشاهِدُه من حَسَنٍ وقَبيحٍ، مَعَ ما هو عليه من سُكونِ ظاهرِ جِسمِه، وخُمودِ جَوارِحِه، بَل وكَذا حالُ المَحمومِ والمَريضِ في حالةِ انغِمارِه؛ لَم يَتَقاصَرْ فهمُه عَن دَركِ عَذابِ القَبرِ ونَعيمِه، ولا فرقَ في ذلك بينَ أن تَكونَ أجزاءُ البَدَنِ مُجتَمِعةً أو مُفرَّقةً، فإنَّ مَن أسكَنَه الألمُ في حالةِ الاجتِماعِ قادِرٌ أن يُسكِنَه ذلك في حالةِ الافتِراقِ، وذلك لا يَستَدعي أن يَكونَ مَحسوسًا ولا مُشاهَدًا) [1574] يُنظر: ((غاية المرام في علم الكلام)) (ص: 303). .
10- قال النَّوويُّ: (اعلَمْ أنَّ مَذهَبَ أهلِ السُّنَّةِ إثباتُ عَذابِ القَبرِ، وقَد تَظاهَرَت عليه دَلائِلُ الكِتابِ والسُّنَّةِ) [1575] يُنظر: ((شرح مسلم)) (17/ 200). .
11- قال ابنُ تيميَّةَ: (مَذهَبُ سائِرِ المُسلِمينَ بَل وسائِرِ أهلِ المِلَلِ... إثباتُ الثَّوابِ والعِقابِ في البَرزَخِ -ما بينَ المَوتِ إلَى يَومِ القيامةِ- هَذا قَولُ السَّلَفِ قاطِبةً وأهلِ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ) [1576] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 262). .
12- قال حافِظٌ الحَكَميُّ عَن إثباتِ سُؤالِ القَبرِ وفتَنَتِه وعَذابِه ونَعيمِه: (قَد تَظاهَرَت بذلك نُصوصُ الشَّريعةِ كِتابًا وسُنَّةً، وأجمَعَ على ذلك أئِمَّةُ السُّنَّةِ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ فمَن بَعدَهم من أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ) [1577] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/713). .
ومن أدِلَّةِ نَعيمِ القَبْرِ:
1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30] .
قال وكيعُ بنُ الجَرَّاحِ: (البُشرَى تَكونُ في ثَلاثةِ مَواطِنَ: عِندَ المَوتِ، وفي القَبرِ، وعِندَ البَعثِ) [1578] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/ 132). .
وقال أبو العاليةِ الرِّياحيُّ: (يُبَشَّرُ المُؤمِنُ في ثَلاثةِ مَواطِنَ: عِندَ دُخولِ القَبرِ، وعِندَ البَعثِ، وعِندَ دُخولِه الجَنةَ) [1579] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/ 50). .
وقال ابنُ كَثيرٍ: (قال زيدُ بن أسلَمَ: يُبشِّرونَه عِندَ موتِه، وفي قَبرِه، وحينَ يُبعَثُ. أخرجه ابنُ أبي حاتِمٍ. وهَذا القَولُ يَجمَعُ الأقوالَ كُلَّها، وهو حَسنٌ جِدًّا، وهو الواقِعُ) [1580] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 177). .
قال السَّعديُّ: (يُثَبِّتونَهم عِندَ المَصائِب والمَخاوِفِ، وخُصوصًا عِندَ المَوتِ وشِدَّتِه، والقَبرِ وظُلْمَتِه، وفي القيامةِ وأهوالِها، وعلى الصِّراطِ، وفي الجَنَّةِ يُهنِّئونَهم بكَرامةِ رَبِّهم) [1581] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 748). .
2- قولُ اللهِ سُبحانَه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27] .
قال السَّعديُّ: (يُخبرُ تعالى أنَّه يُثبِّتُ عِبادَه المُؤمِنينَ... في الحَياةِ الدُّنيا... وفي الآخِرةِ عِندَ المَوتِ بالثَّباتِ على الدِّين الإسلاميِّ والخاتِمةِ الحَسَنةِ، وفي القَبرِ عِندَ سُؤالِ المَلَكينِ، لِلجَوابِ الصَّحيحِ، إذا قيلَ لِلمَيِّتِ: مَن رَبُّكَ؟ وما دينُكَ؟ ومَن نَبيُّكَ؟، هَداهم لِلجَوابِ الصَّحيحِ بأن يَقولَ المُؤمِنُ: اللَّهُ رَبِّي، والإسلامُ ديني، ومُحَمَّدٌ نَبيِّي. وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ عَنِ الصَّوابِ في الدُّنيا والآخِرةِ، وما ظَلمَهمُ اللَّهُ، ولَكِنَّهم ظَلَموا أنفُسَهم. وفي هَذِه الآيةِ دَلالةٌ على فتنةِ القَبرِ وعَذابِه ونَعيمِه، كَما تَواتَرت بذلك النُّصوصُ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الفتنةِ وصِفتِها، ونَعيمِ القَبرِ وعَذابِه) [1582] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 425). .
3- عَنِ البراءِ بن عازِبٍ رَضيَ اللهُ عَنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في المُؤمِنِ إذا أجابَ المَلَكينِ في قَبرِه: ((يُنادي مَنادٍ مِنَ السَّماءِ: أنْ صَدَقَ عَبدي، فأفرِشوه مِنَ الجَنةِ، وألبِسوه مِنَ الجَنةِ، وافتَحوا لَه بابًا إلَى الجَنةِ، قال: فيأتيه من رَوحِها وطَيبِها، ويُفسَحُ له في قَبرِه مَدَّ بَصَرِه، قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؛ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ؟! فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي)) [1583] أخرجه مُطَوَّلًا أبو داود (4753) بنحوه، وأحمد (18534) واللَّفظُ له.  صحَّحَه القرطبي في ((التذكرة)) (119)، وابن القيم في ((الروح)) (1/269)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4753)، وحسَّنه المنذريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (280/4)، وابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (4/290)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (150). .
4- عَنِ ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنهما أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أحَدَكُم إذا ماتَ عُرِضَ عليه مَقعَدُه بالغَداةِ والعَشِيِّ، إن كانَ من أهلِ الجَنَّةِ فمن أهلِ الجَنةِ، وإن كانَ من أهلِ النَّارِ فمن أهلِ النَّارِ، فيُقالُ: هَذا مَقعَدُكَ حَتَّى يَبعَثَكَ اللَّه يَومُ القيامةِ )) [1584] أخرجه البخاري (1379)، ومسلم (2866). .
5- عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا قُبِرَ المَيِّتُ -أو قال: أحَدُكُم- أتاهَ مَلكانِ أسودانِ أزرَقانِ يُقالُ لِأحَدِهما المُنكَرُ، والآخَرِ النَّكيرُ، فيَقولانِ: ما كُنتَ تَقولُ في هَذا الرَّجُلِ؟ فيَقولُ ما كانَ يَقولُ: هو عَبدُ اللَّهِ ورَسولُه أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسولُه. فيَقولانِ: قَد كُنَّا نَعلَمُ أنَّكَ تَقولُ هَذا، ثُمَّ يُفسَحُ لَه في قَبرِه سَبعونَ ذِراعًا في سَبْعِينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَه فيه، ثُمَّ يُقالُ لَه: نَمْ فيَقولُ: أرجِعُ إلَى أهلي فأُخبِرُهم! فيَقولانِ: نَمْ كَنَومةِ العَروسِ الَّذي لا يوقِظُه إلَّا أحَبُّ أهلِه إلَيه، حَتَّى يَبعَثَه اللَّهُ من مَضجَعِه ذلك )) [1585] أخرجه مُطَوَّلًا الترمذي (1071) واللَّفظُ له، والبزار (8462)، وابن حبان (3117). صَحَّحه ابنُ حبان، وحسَّنه الألباني في ((صحيح الترمذي)) (1071)، وقوَّى إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (3117). .
وقال ابنُ الجَوزيِّ في سُؤالِ المَلَكينِ لِلمُؤمِنِ: (فيَقولانِ لَه: مَن رَبُّكَ، وما دينُكَ، ومَن نَبيُّكَ؟ فيَقولُ: اللَّهُ رَبي، وديني الإسلامُ، ونَبيِّي مُحَمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأنا أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شَريكَ لَه وأنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسولُه، فيَقولانِ لَه: قَد عَلِمنا أنَّكَ سَتَكونُ مُؤمِنًا، فيَفتَحانِ لَه بابًا إلَى النَّارِ فيَنظُرُ إلَى ما أعَدَّ اللَّهُ فيها لِأهلِ المَعصيةِ مِنَ النِّقمةِ والعَذابِ، قال: فيَرفعانِ ذلك البابَ دونَه، ثُمَّ يَقولانِ لَه: لا تَخَفْ يا وليَّ اللَّهِ من هَذا البابِ أبَدًا، ثُمَّ يَفتَحانِ لَه بابًا إلَى الجَنةِ، فيَنظُرُ إلَى ما أعَدَّ اللَّهُ لِأهلِ طاعَتِه مِنَ الخَيرِ الدَّائِمِ المُقيمِ الَّذي لا زَوالَ لَه ولا انقِطاعَ، فيَقولانِ لَه: يا وَلِيَّ اللَّهِ، هَذا دارُكَ وقَرارُكَ ومَنزِلُكَ.
فذلك البابُ مَفتوحٌ إلَى قَبرِه إلَى يَومِ القيامةِ يَخرُجُ من ذلك البابِ إلَى قَبرِه ريحُ الجَنَّةِ ورَوحُها وبَردُها يُوَسِّعانِ لَه قَبرَه مَدَّ بَصَرِه، ثُمَّ يَقولانِ لَه: يا ولِيَّ اللَّهِ، نَمْ. فينامُ نَومَ العَروسِ في حِجالِها حَتَّى يَبعَثَه اللَّهُ تعالى يَومَ القيامةِ إلَى أزواجِه وحَرَمِه) [1586] يُنظر: ((بستان الواعظين)) (ص: 170). .
وقال أبو العَبَّاسِ المَقدِسيُّ: (مَعنَى المَوتِ انقِطاعُ تَصَرُّفِ الرُّوحِ عَنِ البَدنِ، وخُروجُ البَدنِ عَن أن يَكونَ آلةً لَها، وسَلْبُ الإنسانِ عَن أموالِه وأهلِه بإزعاجِه إلَى عالَمٍ آخَرَ لا يُناسِبُ هَذا العالَمَ. فإن كانَ لَه بالدُّنيا شَيءٌ يَفرَحُ به، ويَستَريحُ إلَيه، عَظُمَتْ حَسرَتُه عليه بَعدَ المَوتِ، وإن كانَ لا يَفرَحُ إلَّا بذِكرِ اللَّهِ تعالى والأُنْسِ به، عَظُمَ نَعيمُه وتَمَّت سَعادَتُه إذا خُلِّيَ بينَه وبينَ مَحبوبِه، وقُطِعَت عَنه العَوائِقُ والشَّواغِلُ؛ لِأنَّ جَميعَ شَواغِلِ الدُّنيا شاغِلةٌ عَن ذِكرِ اللَّهِ تعالى.
ويَنكَشِفُ لِلمَيِّتِ بالمَوتِ ما لَم يَكُنْ مَكشوفًا في حالِ الحَياةِ... ومِمَّا يَدُلُّ على أنَّ الرُّوحَ لا تَنعَدِمُ بالمَوتِ قَولُه تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] ...
وقَد تَقَدَّمَ أنَّ الإنسانَ إذا انكَشَفت لَه سَيِّئاتُه تَحَسَّر لَها وتألَّم تألُّمًا عَظيمًا، فأمَّا المُؤمِنُ فقال عَبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ: مَثَلُ المُؤمِنِ حَيثُ تَخرُجُ نَفسُه مَثَلُ رَجُلٍ كانَ في سِجْنٍ فأُخرِجَ مِنه، فهو يَتَفسَّحُ في الأرضِ، ويَتَقَلَّبُ فيها، وهو صَحيحٌ؛ فإنَّ المُؤمِنَ يَنكَشِفُ عليه عَقِيبَ المَوتِ من فَضلِ اللهِ وكَرامَتِه ما تَكونُ الدُّنيا بالإضافةِ إلَيه كالسِّجْنِ، فيَكونُ مَحبوسًا في بَيتٍ مُظلِمٍ فُتحَ لَه بابٌ إلَى بُستانٍ واسِعِ الأكنافِ، فيه أنواعُ الأشجارِ، فلا يَسرُّه الرُّجوعُ إلَى الدُّنيا كَما لا يَسرُّه العَودُ إلى بَطنِ أُمِّه) [1587] يُنظر: ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 397). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ مَذهَبَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ ما دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ، واتَّفقَ عليه سَلَفُ الأمَّةِ وأئِمَّتُها: الإيمانُ بالقيامةِ العامَّةِ الَّتي يَقومُ النَّاسُ فيها من قُبورِهم لِرَبِّ العالَمينَ، ويَجزي العِبادَ حينَئِذٍ ويُحاسِبُهم، ويُدخِلُ فريقًا الجَنةَ وفريقًا النَّارَ، كَما هو مُبَيَّنٌ في الكِتاب والسُّنَّةِ.
والإيمانُ مَعَ ذلك بنَعيمِ القَبرِ وعَذابِه، وبما يَكونُ في البَرزَخِ من حينِ المَوتِ إلَى حينِ القيامةِ من نَعيمٍ وعَذابٍ، فالإنسانُ مُنذُ تُفارِقُ رُوحُه بَدَنَه هو إمَّا في نَعيمٍ وإمَّا في عَذابٍ؛ فلا يَتأخَّرُ النَّعيمُ والعَذابُ عَنِ النُّفوسِ إلَى حينِ القيامةِ العامَّةِ، وإن كانَ كَمالُه حينَئِذٍ، ولا تَبقَى النُّفوسُ المُفارِقةُ لِأبدانِها خارِجةً عَنِ النَّعيمِ والعَذابِ أُلوفًا مِنَ السِّنينَ إلَى أن تَقومَ القيامةُ الكُبرَى؛ ولِهَذا قال المُغيرةُ بنُ شُعبةَ: أيُّها النَّاسُ، إنَّكُم تَقولونَ: القيامةُ، القيامةُ، وإنَّه مَن مات فقَد قامَت قيامَتُه)  [1588]يُنظر: ((جامع المسائل - المجموعة الثامنة)) (1/ 113). .
وقال أيضًا بَعدَ أن ساقَ أدِلَّةً كَثيرةً في ذلك: (ففي هَذِه الأحاديثِ ونَحوِها اجتِماعُ الرُّوحِ والبَدنِ في نَعيمِ القَبرِ وعَذابِه، وأمَّا انفِرادُ الرُّوحِ وحدَها فقَد تَقَدَّمُ بَعضُ ذلك... فقَد أخبَرَت هَذِه النُّصوصُ أنَّ الرُّوحَ تُنَعَّمُ مَعَ البَدَنِ الَّذي في القَبرِ -إذا شاءَ اللَّهُ- وأنَّها تُنعَّمُ في الجَنَّةِ وحدَها، وكِلاهما حَقٌّ) [1589] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 295). .
وقال ابنُ بازٍ: (من عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ الإيمانُ بعَذابِ القَبرِ ونَعيمِه، المَيِّتُ إمَّا أن يُنعَّمَ وإمَّا أن يُعَذَّبَ، أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ يُؤمِنونَ بذلك، وقَد أخبَرَ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عَن ذلك؛ فالقَبرُ إمَّا رَوضةٌ من رياضِ الجَنةِ، وإمَّا حُفرةٌ من حُفَرِ النَّارِ؛ فعلى المُسلِم أن يُؤمِنَ بهَذا، وقَد أطلَعَ اللَّه نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على شَخصينِ يُعذَّبانِ، أحَدُهما كانَ يَمشي بالنَّميمةِ، والآخَرُ كانَ لا يَتَنَزَّهُ من بَولِه.
أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ يُؤمِنونَ بعَذابِ القَبرِ ونَعيمِه، أنَّه حَقٌّ على الرُّوحِ والجَسَدِ جَميعًا، ولَكِنْ نَصيبُ الرُّوحِ أكثَرُ، كَما قال اللَّه جَلَّ وعلا في آلِ فرعونَ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا. فهَكَذا المَيِّتُ الصَّالِحُ يُنعَّمُ في قَبرِه، وغَيرُ الصَّالِحِ يُعذَّبُ في قَبرِه، ويَومَ القيامةِ العَذابُ أشَدُّ، والنَّعيمُ أعظَمُ بَعدَ البَعثِ والنُّشورِ) [1590] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (28/ 66). .
وقال أيضًا: (أمَّا ما يَتَعَلَّقُ عَن حالِ القَبرِ، وعَن حالِ المَيِّتِ، فإنَّ السُّؤالَ حَقٌّ، فإنَّ المَيِّتَ تُرَدُّ إلَيه روحُه إذا مات، فقَد صَحَّتْ به الأخبارُ عَن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، تُرَدُّ إلَيه روحُه، فيُسأَلُ في قَبرِه، على كَيفيَّةٍ اللَّهُ أعلَمُ بها، حَياةٌ غَيرُ حَياتِه الدُّنيويَّةِ، حَياةٌ خاصَّةٌ بَرزخيَّةٌ لَيسَت من جِنسِ حَياتِه في الدُّنيا الَّتي يَحتاجُ فيها إلَى الطَّعامِ والشَّراب، ونَحوِ ذلك، لا، بَل حَياةٌ خاصَّةٌ يَعقِلُ مَعَها السُّؤالَ والجَوابَ، ثُمَّ تَرجِعُ روحُه بَعدَ ذلك إلَى عَلِّيينَ، إن كانَ من أهلِ الإيمانِ إلَى الجَنةِ، وإن كانَ من أهلِ النَّارِ إلَى النَّارِ، لَكِنَّها تُعادُ إلَيه وقتَ السُّؤالِ والجَواب، فيَسألُه المَلَكانِ: مَن رَبُّكَ؟ ما دينُكَ؟ مَن نَبيُّك؟ فالمُؤمِنُ يَقولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، والإسلامُ ديني، ومُحَمَّدٌ نَبيِّي، هَكَذا المُؤمِنُ والمُؤمنةُ، ويُقالُ لَه: ما عِلْمُكَ بهَذا الرَّجُلِ؟ يعني مُحَمَّدًا، يَقولُ: هو رَسولُ اللَّهِ جاءَ بالهُدَى فآمَنَّا به، وصَدَّقناه، واتَّبَعْناه، فيُقالُ لَه: نَمْ صالِحًا، قَد عَلِمنا إنْ كُنتَ لِمُؤمِنًا، ويُفتَحُ لَه بابٌ إلَى الجَنةِ، فيأتيه من رَوحِها ونَعيمِها، ويُقالُ لَه: هَذا مَكانُكَ مِنَ الجَنةِ، حَتَّى يَبعَثَكَ اللَّهُ إلَيه، ويُفتَحُ لَه بابٌ إلَى النَّارِ، فيَرَى مَقعَدُه مِنَ النَّارِ، واللَّهُ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، هَذِه أمورٌ عَظيمةٌ غَيبيَّةٌ، فيَرَى مَقعَدَه فيُقالُ لَه: هَذا مَكانُكَ لَو كَفَرْتَ باللهِ، أمَّا الآنَ فقَد عافاكَ اللَّهُ مِنه، وصِرْتَ إلَى الجَنةِ) [1591] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (4/ 302). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (قَولُ أهلِ السُّنَّةِ في نَعيمِ القَبرِ وعَذابِه:
قَولُهم فيه: إنَّه حَقٌّ ثابتٌ؛ لِقَولِه تعالى: في آلِ فرعونٍ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وقَولِه في المُؤمِنينَ: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.
ولِقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الكافِرِ حينَ يُسألُ في قَبرِه: ((فيُجيبُ فينادي مَنادٍ مِنَ السَّماءِ: أنْ كَذَبَ عَبدي، فأفرِشُوه مِنَ النَّارِ، وافتَحوا لَه بابًا إلَى النَّارِ ))، وقَولِه في المُؤمِنِ إذا سُئِلَ في قَبرِه فأجابَ: ((فينادي مَنادٍ مِنَ السَّماءِ: أنْ صَدَقَ عَبدي، فأفرِشوه مِنَ الجَنةِ، وافتَحوا لَه بابًا مِنَ الجَنةِ )) [1592] رواه أبو داود (4753)، وأحمد (18534) مطولاً باختلاف يسير صحَّحَه القرطبي في ((التذكرة)) (119)، وابن القيم في ((الروح)) (1/269)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4753)، وحسَّنه المنذريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (280/4)، وابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (4/290)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (150).  [1593]يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (4/ 294). .
وقال أيضًا: (مِمَّا يَدخُلُ في الإيمانِ باليَومِ الآخِرِ: الإيمانُ بعَذابِ القَبرِ ونَعيمِ القَبرِ، ودَليلُ ذلك قَولُه تعالى: كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ومَحَلُّ الدَّلالةِ قَولُه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ حالَ تَوفِّيهم: سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ وهم وإن كانوا لم يَدخُلوا الجَنةَ الَّتي عَرضُها السَّماواتُ والأرضُ لَكِن دَخلوا القَبرَ الَّذي فيه نَعيمُ الجَنَّةِ.
وقال تعالى أيضًا: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ [الواقعة: 83 - 89] ، وهَذا يَكونُ إذا بَلَغَتِ الرُّوحُ الحُلقومَ، وهَذا هو نَعيمُ القَبرِ، بَل إنَّ الإنسانَ يُبَشَّرُ بالنَّعيمِ قَبلَ أن تَخرُجَ رُوحُه، يُقالُ لِرُوحِه: اخرُجي أيَّتُها النَّفسُ المَطمَئِنَّةُ، اخرُجي إلَى مَغفرةٍ مِنَ اللَّهِ ورِضوانٍ، فتَفرَحُ الرُّوحُ بذلك وتَخرُجُ خُروجًا سَهلًا مُيَسَّرًا.
وأمَّا السُّنَّةُ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ في أحاديثَ كَثيرةٍ بما يَدُلُّ على أنَّ الإنسانَ يُنعَّمُ في قَبرِه) [1594] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (3/ 171). .

انظر أيضا: