موسوعة الأخلاق والسلوك

سادسًا: صُوَرُ الكَذِبِ ومَظاهِرُه


للكَذِبِ صُوَرٌ ومظاهِرُ كثيرةٌ؛ منها:
1- الكَذِبُ على اللهِ تعالى ورسولِه:
وهذا أعظَمُ أنواعِ الكَذِبِ، (والكَذِبُ على اللهِ نوعانِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: أن يقولَ: قال اللهُ كذا، وهو يَكذِبُ.
والنَّوعُ الثَّاني: أن يُفَسِّرَ كلامَ اللهِ بغيرِ ما أراد اللهُ؛ لأنَّ المقصودَ من الكلامِ معناه، فإذا قال: أراد اللهُ بكذا كذا وكذا، فهو كاذِبٌ على اللهِ، شاهِدٌ على اللهِ بما لم يُرِدْه اللهُ عزَّ وجَلَّ، لكِنَّ الثَّانيَ إذا كان عن اجتهادٍ وأخطأَ في تفسيرِ الآيةِ، فإنَّ اللهَ تعالى يعفو عنه؛ لأنَّ اللهَ قال: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] وقال: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] ، وأمَّا إذا تعمَّد أن يفسِّرَ كلامَ اللهِ بغيرِ ما أراد اللهُ، اتِّباعًا لهواه أو إرضاءً لمصالحَ أو ما أشبه ذلك، فإنَّه كاذِبٌ على اللهِ عزَّ وجَلَّ) .
- وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام: 93] . (يقولُ تعالى: لا أحَدَ أعظَمُ ظُلمًا ولا أكبَرُ جُرمًا ممن كَذَب على اللهِ، بأن نسَب إلى اللهِ قولًا أو حُكمًا، وهو تعالى بريءٌ منه، وإنما كان هذا أظلَمَ الخلقِ؛ لأنَّ فيه من الكَذِبِ وتغييرِ الأديانِ أُصولِها وفروعِها ونسبةِ ذلك إلى اللهِ- ما هو من أكبَرِ المفاسِدِ.
ويدخُلُ في ذلك ادِّعاءُ النُّبُوَّةِ، وأنَّ اللهَ يوحي إليه، وهو كاذِبٌ في ذلك؛ فإنَّه -مع كَذِبِه على اللهِ، وجرأتِه على عظمتِه وسُلطانِه يوجِبُ على الخَلقِ أن يتَّبِعوه، ويجاهِدُهم على ذلك، ويستَحِلُّ دِماءَ من خالفه وأموالَهم.
ويدخُلُ في هذه الآيةِ كُلُّ من ادَّعى النُّبُوَّةَ، كمُسَيلِمةِ الكذَّابِ، والأسوَدِ العَنسيِّ، والمختارِ، وغيرِهم ممن اتَّصف بهذا الوصفِ) . وقد بدأت الآيةُ أوَّلًا بالعامِّ، وهو افتراءُ الكَذِبِ على اللهِ، وهو أعمُّ من أن يكونَ ذلك الافتراءُ بادِّعاءِ وَحيٍ أو غيرِه، ثمَّ ثانيًا بالخاصِّ، وهو افتراءٌ منسوبٌ إلى وحيٍ من اللهِ تعالى، وهذا فيه تنبيهٌ على مزيدِ العقابِ فيه والإثمِ، وقد أخبَرنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم محذِّرًا ممَّن يدَّعون الدَّجَلَ والنُّبُوَّةَ بالكَذِبِ، فقال: ((لا تقومُ السَّاعةُ حتى يُبعَثَ دجَّالون كذَّابون قريبًا من ثلاثين، كُلُّهم يزعُمُ أنَّه رسولُ اللهِ)) .
وقال الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم "من كَذَب عَلَيَّ متعَمِّدًا فليتبوَّأْ مَقعَدَه من النَّارِ" . وذلك لأنَّ الكَذِبَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس مِثلَ الكَذِبِ على أحدٍ غيرِه؛ لأنَّ كلامَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تشريعٌ، وكلامَ غيرِه ليس كذلك؛ فالكَذِبُ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعظَمُ مَضرَّةً، وأوقَعُ فسادًا في نفوسِ المُسلِمين، وهو أشدُّ في الإثمِ من الكَذِبِ على غيرِهـ) .
وقال: ((من حدَّث عنِّي حديثًا وهو يُرى أنَّه كَذِبٌ، فهو أحدُ الكاذِبين)) .
وكفى بهذه الجملةِ وعيدًا شديدًا في حقِّ من روى الحديثَ فيظُنُّ أنَّه كَذِبٌ فضلًا عن أن يتحقَّقَ ذلك ولا يُبَيِّنَه؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جعَل المحَدِّثَ بذلك مشاركًا لكاذبِه في وضعِه .
 (وأكثرُ النَّاسِ كَذِبًا على رسولِ اللهِ هم الرَّافضةُ الشِّيعةُ، فإنَّه لا يوجَدُ في طوائِفِ أهلِ البِدَعِ أحدٌ أكثَرُ منهم كَذِبًا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما نصَّ على هذا عُلَماءُ مُصطلَحِ الحديثِ رحمهم اللهُ، لمَّا تكلَّموا على الحديثِ الموضوعِ قالوا: إنَّ أكثرَ من يكذِبُ على الرَّسولِ هم الرَّافضةُ الشَّيعةُ، وهذا شيءٌ مشاهَدٌ ومعروفٌ لمن تتَّبع كُتُبَهم) .
2- الكَذِبُ على النَّاسِ بادِّعاءِ الإيمانِ:
وهو (كذِبٌ يظهِرُ الإنسانُ فيه أنَّه من أهلِ الخيرِ والصَّلاحِ، والتُّقى والإيمانِ، وهو ليس كذلك، بل هو من أهل الكُفرِ والطُّغيانِ -والعياذُ باللهِ- فهذا هو النِّفاقُ، النِّفاقُ الأكبَرُ. الذين قال اللهُ فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] ، لكِنَّهم يقولون بألسنتِهم، ويحلِفون على الكَذِبِ وهم يعلمون، وشواهِدُ ذلك في القرآنِ والسُّنَّةِ كثيرةٌ؛ إنَّهم -أعني المُنافِقين أهلَ الكَذِبِ- يَكذِبون على النَّاسِ في دعوى الإيمانِ، وهم كاذبون، وانظُرْ إلى قولِ اللهِ تعالى في سورة "المُنافِقون"؛ حيث صدَّر هذه السُّورةَ ببيانِ كَذِبهم؛ حيثُ قال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المُنافِقون: 1] أكَّدوا هذه الجُملةَ بثلاثةِ مُؤَكِّداتٍ: "نشهد" "إنَّ" "اللَّام"، يؤكِّدون أنَّهم يشهَدون أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، فقال اللهُ تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المُنافِقون: 1] في قولِهم: نشهَدُ إنَّك لرسولُ اللهِ هذا أيضًا من أنواعِ الكَذِبِ، وهو أشدُّ أنواعِ الكَذِبِ على النَّاسِ؛ لأنَّ فاعِلَه -والعياذُ باللهِ- مُنافِقٌ) .
3- الكَذِبُ في الحديثِ بَيْنَ النَّاسِ:
(الكَذِبُ في الحديثِ الجاري بَيْنَ النَّاسِ؛ يقولُ: قُلتُ لفُلانٍ كذا. وهو لم يَقُلْه. قال فلانٌ كذا. وهو لم يَقُلْه. جاء فلانٌ. وهو لم يأتِ، وهكذا، هذا أيضًا محرَّمٌ ومن علاماتِ النِّفاقِ، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "آيةُ المُنافِقِ ثلاثٌ: إذا حدَّث كَذَب" ...) .
4- الكَذِبُ لإضحاكِ النَّاسِ:
رُوِيَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((وَيلٌ للذي يحدِّثُ بالحديثِ؛ ليضحِكَ به القومَ، فيَكذِبُ، وَيلٌ له، وَيلٌ له!)) .
قال المُناويُّ: (كرَّره إيذانًا بشِدَّةِ هَلَكتِه؛ وذلك لأنَّ الكَذِبَ وَحدَه رأسُ كُلِّ مذمومٍ، وجِماعُ كُلِّ فضيحةٍ، فإذا انضَمَّ إليه استجلابُ الضَّحِكِ الذي يميتُ القَلبَ، ويجلِبُ النِّسيانَ، ويورِثُ الرُّعونةَ، كان أقبَحَ القبائِحِ؛ ومِن ثَمَّ قال الحُكَماءُ: إيرادُ المُضحِكاتِ على سَبيلِ السُّخْفِ نهايةُ القباحةِ) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (وهذا يفعَلُه بعضُ النَّاسِ ويُسمُّونها النُّكَتَ، يتكَلَّمُ بكلامٍ كَذِبٍ، ولكِنْ من أجلِ أن يُضحِكَ النَّاسَ، هذا غَلَطٌ، تكلَّمْ بكلامٍ مُباحٍ من أجلِ أن تُدخِلَ السُّرورَ على قلوبِهم، وأمَّا الكلامُ الكَذِبُ فهو حرامٌ) .
(والحِكمةُ من هذا المنعِ أنَّه يجُرُّ إلى وضعِ أكاذيبَ مُلفَّقةٍ على أشخاصٍ مُعَيَّنين، يؤذيهم الحديثُ عنهم، كما أنَّه يعطي ملَكةَ التَّدرُّبِ على اصطِناعِ الكَذِبِ وإشاعتِه، فيختَلِطُ في المجتَمَعِ الحَقُّ بالباطِلِ، والباطِلُ بالحقِّ) .
5- المبالغةُ في الإطراءِ والمدحِ:
(تمدُّحُ النَّاسِ مَدرَجةٌ إلى الكَذِبِ، والمُسلِمُ يجِبُ أن يحاذِرَ حينما يُثني على غيرِه، فلا يَذكُرُ إلَّا ما يَعلَمُ من خيرٍ، ولا يجنَحُ إلى المبالغةِ في تضخيمِ المحامِدِ، وطَيِّ المثالِبِ، ومهما كان الممدوحُ جديرًا بالثَّناءِ فإنَّ المبالغةَ في إطرائِه ضَربٌ من الكَذِبِ المحرَّمِ) .
فعن المقدادِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أمرَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن نحثِيَ في وجوهِ المدَّاحين التُّرابَ)) .
قال النَّوويُّ: (اعلَمْ أنَّ مدحَ الإنسانِ والثَّناءَ عليه بجميلِ صِفاتِه قد يكونُ في حضورِ الممدوحِ، وقد يكونُ بغيرِ حُضورِه؛ فأمَّا الذي في غيرِ حُضورِه فلا مَنْعَ منه إلَّا أن يجازِفَ المادِحُ، ويدخُلَ في الكَذِبِ، فيَحرُمَ عليه بسَبَبِ الكَذِبِ لا لكونِه مدحًا، ويُستحَبُّ هذا المدحُ الذي لا كَذِبَ فيه إذا ترتَّب عليه مصلحةٌ، ولم يجُرَّ إلى مفسدةٍ، بأن يبلُغَ الممدوحَ فيُفتَتَنَ به، أو غيرِ ذلك) .
6- كَذِبُ التَّاجِرِ في بيانِ سِلعتِه:
عن عبدِ اللهِ بنِ أبي أوفى رَضِيَ اللهُ عنهما: (أنَّ رجُلًا أقام سِلعةً في السُّوقِ فحَلَف فيها لقد أعطى بها ما لم يُعْطِه؛ ليوقِعَ فيها رجلًا من المُسلِمين، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران: 77] ) .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ثلاثةٌ لا يُكَلِّمُهم اللهُ يومَ القيامةِ، ولا ينظُرُ إليهم: رجُلٌ حَلَف على سلعةٍ لقد أعطَى بها أكثَرَ ممَّا أعطَى وهو كاذبٌ، ورجُلٌ حَلَف على يمينٍ كاذبةٍ بعد العصرِ ليقتَطِعَ بها مالَ رجلٍ مُسلِمٍ...)) . فهذا بائعٌ حلَف كَذِبًا أنَّه اشترى سِلعةً بأكثَرَ من الثَّمَنِ الذي اشتراها به حقيقةً، ويريدُ أن يبيعَها به، فصدَّقه المشتري من أجلِ تلك اليمينِ، وهو كاذِبٌ فيها، والثَّاني: رجُلٌ حلَف كَذِبًا يدَّعي بذلك شيئًا من مالِ أخيه بغيرِ حَقٍّ، فيحلِفُ ليأخُذَ مالَ غيرِه الذي لا يحِلُّ له .
7- الكَذِبُ على الأولادِ:
 فكثيرًا ما يكذِبُ الوالِدانِ على أولادِهما الصِّغارِ؛ رَغبةً في التَّخلُّصِ منهم، أو تخويفًا لهم؛ كي يكفُّوا عن العَبَثِ واللَّعِبِ، أو حَفزًا لهم كي يجِدُّوا في أمرٍ ما، أو غيرَ ذلك .
8- شهادةُ الزُّورِ:
(الحَيفُ في الشَّهادةِ من أشنَعِ الكَذِبِ؛ فالمُسلِمُ لا يبالي إذا قام بشهادةٍ ما أن يقَرِّرَ الحَقَّ، ولو على أدنى النَّاسِ منه وأحَبِّهم إليه، لا تميلُ به قرابةٌ ولا عصبيَّةٌ، ولا تُزيغُه رغبةٌ أو رهبةٌ.
وتزكيةُ المُرَشَّحين لمجالِسِ الشُّورى أو المناصِبِ العامَّةِ نوعٌ من أنواعِ الشَّهادةِ، فمَن انتخَب المغموطَ في كفايتِه وأمانتِه، فقد كَذَب وزَوَّر، ولم يقُمْ بالقِسطِ) .
فعن أبي بَكرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألا أنبِّئُكم بأكبَرِ الكبائِرِ؟ ثلاثًا. قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: الإشراكُ باللهِ، وعُقوقُ الوالِدَين. وجلس وكان متَّكِئًا فقال: ألا وقولُ الزُّورِ. قال: فما زال يكَرِّرُها حتى قُلنا: ليته سكَت)) . والزُّورُ: هو الباطِلُ، ويشمَلُ الكَذِبَ في القولِ والشَّهاداتِ وغيرِها، وقد كرَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التَّحذيرَ من قولِ الزُّورِ تنبيهًا على استقباحِه، وكرَّره دونَ الأوَّلينِ؛ لأنَّ النَّاسَ يهونُ عليهم أمرُه، فيظنُّون أنَّه أقَلُّ من سابقِه، فهوَّل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمرَه ونفَّر عنه حين كرَّره، وقد حصَل في مبالغةِ النَّهيِ عنه ثلاثةُ أشياءَ: الجلوسُ وكان متَّكِئًا، واستفتاحُه بـ«ألَا» التي تفيدُ تنبيهَ المخاطَبِ، وإقبالُه على سماعِه، وتكريرُ ذِكِره .
9- المبالغةُ في المعاريضِ:
لا ريبَ أنَّ في المعاريضِ مندوحةً عن الكَذِبِ، ولكِنْ هناك من يبالغُ في المعاريضِ، ويتوسَّعُ فيها توسُّعًا يخرِجُه عن طَورِه، ويجعَلُه يُدخِلُ فيها ما ليس منها، فتجِدُه يقلِبُ الحقائقَ، وينالُ من الآخرين، ويُلَبِّسُ عليهم، ويحصلُ على مآربِه بالمراوغةِ والمخاتَلةِ؛ ممَّا يوقِعُه في الكَذِبِ، فتُفقَدُ الثِّقةُ به وبحديثِه .
10- الكَذِبُ في الأحلامِ:
عن ابنِ عبَّاسٍ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من تحلَّم بحُلمٍ لم يَرَهْ، كُلِّف أن يعقِدَ بَيْنَ شعيرَتينِ ولن يفعَلَ)) .
((من تحلَّم)) أي: من تكَلَّف الحِلمَ بأن يقولَ: حَلَمتُ بكذا وكذا، ولم يكُنْ حَلَم ولا رأى شيئًا. قولُه: ((كُلِّف)) المرادُ به نوعٌ من التَّعذيبِ .
فإن قُلتَ: الكَذِبُ في اليقَظةِ أكثَرُ ضَرَرًا لتعدِّيه إلى غيرِه ولتضَمُّنِه المفاسِدَ، فما وجهُ تعظيمِ الكاذِبِ في رؤياه بذلك؟ قُلتُ: هو لأنَّ الرُّؤيا جزءٌ من النُّبُوَّةِ، والكاذِبُ فيها كاذِبٌ على اللهِ، وهو أعظَمُ الفِرَى، وأولى بعظيمِ العُقوبةِ .
وعن ابنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مِن أفرَى الفِرَى أن يُرِيَ عينَيه ما لم تَرَ)) .
((أفرى)) أفعلُ تفضيلٍ، أي: أعظَمُ الكَذْباتِ، والفِرى: جَمعُ فِريةٍ، وهي الكَذْبةُ العظيمةُ التي يُتعَجَّبُ منها .
11- كَذِبُ الحُكَّامِ:
عن أبي هُرَيرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ثلاثةٌ لا يُكَلِّمُهم اللهُ يومَ القيامةِ ولا يُزَكِّيهم -قال أبو معاويةَ: ولا ينظُرُ إليهم- ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كذَّابٌ، وعائِلٌ مُستكبِرٌ)) .
و(خصَّ هؤلاء الثَّلاثةَ بأليمِ العذابِ وعُقوبةِ الإبعادِ لالتزامِ كُلِّ واحدٍ منهم المعصيةَ التي ذُكِر، على بُعدِها منه، وعدَمِ ضَرورتِه إليها، وضَعفِ دواعيها عندَه، وإن كان لا يُعذَرُ أحَدٌ بذنبٍ، ولا في معصيتِه اللهَ تعالى، لكِنْ لَمَّا لم تدْعُهم إلى هذه المعاصي ضرائرُ مُزعِجةٌ، ولا دواعٍ مُعتادةٍ، ولا حملَتْهم عليها أسبابٌ لازمةٌ- أشبَهَ إقدامُهم عليها المعاندةَ والاستخفافَ بحَقِّ المعبودِ محضًا، وقَصْدَ معصيتِه لا لغيرِ معصيتِه...
فالإمامُ لا يخشى من أحَدٍ من رعيَّتِه، ولا يحتاجُ إلى مداهنتِه ومصانعتِه؛ إذ إنما يداهِنُ الإنسانُ ويصانِعُ بالكَذِبِ وشِبهِه من يحذَرُه ويخشى معاقبتَه، أو أذاه ومعاتبتَه، أو يَطلُبُ عنده بذلك منزلةً أو منفعةً، فهو غَنيٌّ عن الكَذِبِ جُملةً) .
12- الكَذِبُ السِّياسيُّ:
الكَذِبُ الذي يقومُ على القاعدةِ الميكافيليَّةِ التي تقولُ: (إنَّ الغايةَ تُبَرِّرُ الوسيلةَ) أو (الغايةُ تُسَوِّغُ الواسِطةَ). وهذه القاعدةُ يأخذُ بها غالبيَّةُ السِّياسيِّين .
13- الكَذِبُ الإعلاميُّ وعلى الإنترنتِ ووسائِلِ التَّواصُلِ الاجتماعيِّ:
وهذا من أخطَرِ مظاهِرِ الكَذِبِ التي استُحدِثَت في عصرِنا؛ حيث انتشرت هذه الوسائلُ الإعلاميَّةُ بَيْنَ جميعِ شُعوبِ العالمِ وبينَ مختَلِفِ النَّاسِ الأطفالِ والشَّبابِ والكُهولِ والمُسِنِّين، وأصبح لهذه الوسائلِ الإعلاميَّةِ من التَّأثيرِ الشَّيءُ العظيمُ بل والخطيرُ، خاصَّةً مع سرعةِ الوصولِ إلى أعدادٍ كبيرةٍ في وقتٍ وجيزٍ؛ لذا كان لا بُدَّ من بيانِ بعضِ مظاهِرِ الكَذِبِ عَبْرَ هذه الوسائِلِ لتجَنُّبِها والحَذَرِ منها:
- إنشاءُ حِساباتٍ وهميَّةٍ على مواقعِ الإنترنتِ ووسائِلِ التَّواصُلِ، واستعمالُ أسماءٍ مُستعارةٍ غيرِ حقيقيَّةٍ، أو استعمالُ صُوَرٍ مُستعارةٍ ليست لصاحِبِ الحسابِ الحقيقيِّ.
- المسارعةُ إلى إذاعةِ المنشوراتِ والأخبارِ بكُلِّ أنواعِها، ونشرِها على مواقعِ الإنترنتِ ووسائِلِ التَّواصُلِ، دونَ تثبُّتٍ ولا تحقُّقٍ من صحَّتِها أو مراعاةٍ للعواقِبِ التي تترتَّبُ على نشرِها.
- نَقلُ الأخبارِ الكاذبةِ والشَّائعاتِ عن الأحوالِ العامَّةِ للبُلدانِ والدُّوَلِ، أو عن الشَّخصيَّاتِ العامَّةِ والمشاهيرِ.
- الدَّجَلُ الإعلاميُّ: الذي يقلِبُ الحقائقَ، ويُلَبِّسُ على النَّاسِ بزُخرُفِ القولِ، فيرفَعُ السِّفلةَ الأقزامَ، ويضَعُ السَّادةَ الأعلامَ، ويُغري بالرَّذيلةِ ويحَسِّنُها لتنتشِرَ، ويُزري بالفضيلةِ وينتَقِصُها لتَنزويَ.
- الكَذِبُ الإعلاميُّ وعلى وسائِلِ التَّواصُلِ الاجتماعيِّ، وممارَسةُ الكِهانةِ، وادِّعاءُ مَعرفةِ الغَيبِ تحتَ مسميَّاتِ: الطَّالعِ، والنُّجومِ، وقراءةِ الأبراجِ، وحَظُّك اليومَ، والتَّوقُّعاتِ والتَّنبُّؤاتِ، إلى غيرِ ذلك.
- ومن مظاهرِ الكَذِبِ الذي يُنشَرُ على الوسائِلِ الإعلاميَّةِ من القنَواتِ الفضائيَّةِ والإنترنتِ: ما يقومُ به من يتقدَّمون لترشيحِ أنفُسِهم للأعمالِ والمناصِبِ العامَّةِ من استخدامِ الكَذِبِ والخِداعِ، وتخديرِ النَّاسِ بالأمانيِّ الباطلةِ، والوعودِ المعسولةِ الكاذبةِ، وما إن يحرِزُ هَدَفَه ويَصِلُ إلى مبتغاه حتى يتنكَّرَ لِمن أيَّده، ويَقلِبَ لهم ظَهرَ المجَنِّ، وتتبخَّرَ الأمانيُّ والوعودُ، ويَظهَرَ كَذِبُه .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظَر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/156).
  2. (2) يُنظَر: ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 264).
  3. (3) أخرجه البخاري (3609) مطولًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه.
  4. (4) أخرجه البخاري (110) مطولًا، ومسلم في ((مقدمة الصحيح)) (3) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه.
  5. (5) يُنظَر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (1/ 183)، ((عمدة القاري)) للعيني (8/ 84).
  6. (6) أخرجه مسلم في ((مقدمة الصحيح)) (1/9)، والترمذي (2662)، وابن ماجه (41) من حديثِ المغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذي، وابن حزم في ((أصول الأحكام)) (1/215)، وابن الجوزي في ((الموضوعات)) (1/16).
  7. (7) ((النكت على كتاب ابن الصلاح)) لابن حجر (2/ 839).
  8. (8) يُنظَر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/156، 157).
  9. (9) يُنظَر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/157).
  10. (10) أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59) مطولًا.
  11. (11) يُنظَر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/158).
  12. (12) أخرجه أبو داود (4990)، والترمذي (2315) واللفظ له، وأحمد (20046) من حديثِ معاويةَ بنِ حَيدةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (7/74)، وحسَّنه الترمذي، والألباني في ((صحيح الترمذي)) (2315)، وحسَّن إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4990)، وقوَّاه ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (446).
  13. (13) يُنظَر: ((فيض القدير)) (6/368).
  14. (14) يُنظَر: ((شرح رياض الصالحين)) (6/117).
  15. (15) يُنظَر: ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/495).
  16. (16) ((خلق المسلم)) للغزالي (ص: 36).
  17. (17) أخرجه مسلم (3002).
  18. (18) ((الأذكار)) (ص: 276).
  19. (19) أخرجه البخاري (4551).
  20. (20) أخرجه البخاري (2369) واللفظ له، ومسلم (108) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه.
  21. (21) يُنظَر: ((عمدة القاري)) للعيني (12/ 212)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/ 205).
  22. (22) يُنظَر: ((الكذب مظاهره - علاجهـ)) لمحمد الحمد (ص: 24).
  23. (23) يُنظَر: ((خلق المسلم)) للغزالي (ص: 37).
  24. (24) أخرجه البخاري (2654) واللفظ له، ومسلم (87).
  25. (25) يُنظَر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال 8/ 32)، ((عمدة القاري)) (2/ 115).
  26. (26) يُنظَر: ((الكذب مظاهره - علاجهـ)) لمحمد الحمد (ص: 22).
  27. (27) أخرجه البخاري (7042).
  28. (28) يُنظَر: ((طرح التثريب في شرح التقريب)) للعراقي (2/ 137) ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 428).
  29. (29) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني (24/ 168).
  30. (30) أخرجه البخاري (7043).
  31. (31) ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 430).
  32. (32) أخرجه مسلم (107).
  33. (33) ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (1/ 383).
  34. (34) يُنظَر: ((الكذب مظاهره - علاجهـ)) لمحمد الحمد (ص: 17).
  35. (35) يُنظَر: ((الكذب) لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص: 6)، ((الكذب)) لعبد الملك بن محمد القاسم (ص: 14- 19)، ((الإنترنت)) لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص: 4).