خامسًا: مظاهِرُ وصُوَرُ الاحترامِ والتَّوقيرِ
1- توقيرُ المُسلِمِ لرَبِّه سُبحانَه وتعظيمُه بما يليقُ به، وهذا التَّوقيرُ للهِ سُبحانَه ينتُجُ عنه احترامُ أوامِرِه ونواهيه، وتعظيمُ دينِه وشَرعِه، وحِرصُ المُسلِمِ على التَّحلِّي بجميلِ الصِّفاتِ التي أَمَر بها سُبحانَه، فهذا التَّوقيرُ يُثمِرُ الخيرَ للعبدِ في الدُّنيا والآخرةِ، ويُثمِرُ التَّخلُّقَ بالأخلاقِ التي يعودُ أثَرُها ونَفعُها على النَّاسِ في معاشرتِهم والتَّعامُلِ معهم.
قال اللَّه تعالى حكايةً عن نبيِّه نوحٍ عليه السَّلامُ أنَّه قال لقومِه عندما كفَروا به وبرسالتِه:
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح: 13] ، أي: ما لكم لا ترون للهِ عَظَمةً، وقيل: ولا تُعَظِّمون اللَّهَ حَقَّ عَظمتِه
، فاستخدمَ لَفظَ الوَقارِ في معنى التَّوقيرِ والتَّعظيمِ للهِ تعالى بما يليقُ به سُبحانَه من كمالِ التَّعظيمِ والتَّبجيلِ.
2- احترامُ وتوقيرُ المُسلِمِ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتعظيمِ أمرِه ونهيِه، واتِّباعِ آثارِه، والسَّيرِ على طريقتِه، وألَّا يُقدِّمَ شيئًا على ما جاء به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ قال اللَّه تعالى:
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح: 8 - 9] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ، قال
ابنُ عبَّاسٍ وغيرُ واحِدٍ: يُعَظِّموه.
وَتُوَقِّرُوهُ من التَّوقيرِ، وهو الاحترامُ والإجلالُ والإعظامُ)
.
وقال
السَّعديُّ: (
وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ أي: تُعَزِّروا الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتُوَقِّروه، أي: تُعَظِّموه وتُجِلُّوه، وتقوموا بحُقوقِه، كما كانت له المِنَّةُ العظيمةُ برِقابِكم)
.
وقال اللَّهُ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 1 - 4] ، فبيَّن سُبحانَه أنَّ الذين يَخفِضون أصواتَهم عِندَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم توقيرًا وتبجيلًا له، أولئك هم الذين امتحَن اللَّهُ قلوبَهم لتَقواه، وأخلصَهم لها، ولهم مَغفرةٌ لذُنوبِهم، ولهم ثوابٌ عظيمٌ عِندَ اللَّهِ يومَ القيامةِ، فيُدخِلُهم الجنَّةَ
.
وقال اللَّهُ تعالى:
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] في تلك الآيةِ يَظهَرُ الأمرُ بتوقيرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واحترامِه؛ فقد نهى اللَّهُ سُبحانَه المُسلِمين أن ينادوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِثلَ مُناداتِهم بعضِهم بعضًا، وقد التَزم الصَّحابةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم الأدَبَ في مناداتِه، فكانوا ينادونه: يا رسولَ اللَّهِ، ويا نبيَّ اللَّهِ، أو يا أيُّها النَّبيُّ، ويا أيُّها الرَّسولُ
.
وقال القاضي عِياضٌ: (اعلَمْ أنَّ حُرمةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ مَوتِه وتوقيرَه وتعظيمَه لازمٌ كما كان حالَ حياتِه، وذلك عِندَ ذِكرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذِكرِ حَديثِه وسُنَّتِه، وسماعِ اسمِه وسيرتِه، ومعاملةِ آلِه وعِترتِه
، وتعظيمَ أهلِ بَيتِه وصَحابتِهـ)
.
وعن حمَّادِ بنِ زَيدٍ، قال: (كنَّا عِندَ أيُّوبَ فسَمِع لَغَطًا، فقال: ما هذا اللَّغَطُ؟ أمَا بلَغَهم أنَّ رفعَ الصَّوتِ عِندَ الحديثِ عن رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كرفعِ الصَّوتِ عليه في حياتِهـ)
.
3- احترامُ أُولي الأمرِ وتوقيرُهم، ومن مظاهِرِ احترامِهم السَّمعُ والطَّاعةُ لهم في غيرِ معصيةٍ، وتركُ التَّشغيبِ عليهم، وعَدَمُ سَبِّهم أو إهانتِهم، وما ذلك إلَّا لِما قد يترَتَّبُ على مخالفةِ هذه الأوامِرِ من إحداثِ الفِتنةِ بَيْنَ النَّاسِ، وما قد يُفضي إلى الشُّرورِ.
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (وأولو الأمرِ أصحابُ الأمرِ وذَووه، وهم الذين يأمُرون النَّاسَ، وذلك يشتركُ فيه أهلُ اليَدِ والقُدرةِ، وأهلُ العِلمِ والكلامِ؛ فلهذا كان أولو الأمرِ صِنفَينِ: العُلَماءُ والأمراءُ. فإذا صلَحوا صلَح النَّاسُ، وإذا فسَدوا فسَد النَّاسُ)
.
وقال القَرافيُّ: (ضَبطُ المصالحِ العامَّةِ واجِبٌ، ولا تنضَبِطُ إلَّا بعَظَمةِ الأئمَّةِ في نفسِ الرَّعيَّةِ، ومتى اختُلِف عليهم أو أُهينوا تعذَّرت المصلحةُ)
.
وقال
ابنُ حِبَّانَ: (الواجِبُ على كُلِّ مَن يغشى السُّلطانَ وامتُحِن بصُحبتِه ألَّا يَعُدَّ شَتمَه شَتمًا ولا إغلاظُه إغلاظًا ولا التَّقصيرُ في حَقِّه ذَنبًا؛ لأنَّ رِيحَ العِزَّةِ بسَطَت لسانَه ويَدَه بالغِلظةِ، فإن أنزله الوالي منزلةً رفيعةً من نفسِه فلا يَثِقَنَّ بها، وليجانِبْ معه كلامَ المَلَقِ، والإكثارَ من الدُّعاءِ في كُلِّ وقتٍ، وكثرةَ الانبساطِ؛ فرُبَّ كَلِمةٍ أثارت الوحشةَ، بل يجتَهِدُ في توقيرِه وتعظيمِه عِندَ النَّاسِ، فإنْ غَضِبَ فليحتَلْ في تسكينِ غَضَبِه باللِّينِ والمداراةِ، ولا يكونُ سببًا لتهييجِهـ)
.
4- احترامُ وتقديرُ العُلَماءِ وإنزالُهم المنزلةَ اللَّائقةَ بهم لمكانتِهم، ومن مظاهِرِ احترامِهم التَّعاوُنُ معهم على البِرِّ والتَّقوى، والحَذَرُ من قَدْحِهم أو الوقوعِ في غِيبتِهم.
قال تعالى:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] .
قال
البَيهقيُّ: (فقَرَن اسمَ العُلَماءِ باسمِ الملائكةِ كما قَرَن اسمَ الملائكةِ باسمِه، وكما وَجَب الفضلُ للملائكةِ بما أكرمَهم به، فكذلك يجبُ الفَضلُ للعُلَماءِ بما أكرَمهم به مِن مِثلِهـ)
.
ومن آدابِ المتعَلِّمِ النَّظَرُ إلى مُعَلِّمِه بعَينِ الاحترامِ والتَّبجيلِ؛ قال
النَّوويُّ: (وعليه أن ينظُرَ مُعَلِّمَه بعَينِ الاحترامِ ويعتَقِدَ كَمالَ أهليَّتِه ورُجحانَه على طبقَتهِ؛ فإنَّه أقرَبُ إلى انتفاعِه به، وكان بعضُ المتقَدِّمين إذا ذهب إلى مُعَلِّمِه تصَدَّق بشَيءٍ، وقال: اللَّهُمَّ استُرْ عَيبَ مُعَلِّمي عني، ولا تُذهِبْ بَرَكةَ عِلمِه منِّي)
.
وقال
ابنُ عُثَيمين: (وإذا كان الأنبياءُ لهم حَقَّ التَّبجيلِ والتَّعظيمِ والتَّكريمِ، فلمن ورَثَهم نصيبٌ من ذلك... وبتوقيرِ العُلَماءِ تُوَقَّرُ الشَّريعةُ؛ لأنَّهم حامِلوها، وبإهانةِ العُلَماءِ تُهانُ الشَّريعةُ؛ لأنَّ العُلَماءَ إذا ذلُّوا وسقطوا أمامَ أعيُنِ النَّاسِ ذلَّت الشَّريعةُ التي يحمِلونها، ولم يَبْقَ لها قيمةٌ عِندَ النَّاسِ، وصار كُلُّ إنسانٍ يحتَقِرُهم ويزدريهم، فتضيعُ الشَّريعةُ، كما أنَّ وُلاةَ الأمرِ مِن الأمراءِ والسَّلاطينِ يَجِبُ احترامُهم وتوقيرُهم وتعظيمُهم وطاعتُهم، حَسَبَ ما جاءت به الشَّريعةُ؛ لأنَّهم إذا احتُقِروا أمامَ النَّاسِ، وأُذِلُّوا، وهُوِّن أمرُهم؛ ضاع الأمنُ، وصارت البلادُ فوضى، ولم يكُنْ للسُّلطانِ قُوَّةٌ ولا نفوذٌ)
.
وقيل: (توقيرُ حَمَلةِ الشَّرعِ وحُماتِه من توقيرِ اللَّهِ سُبحانَه وتعالى، فكُلُّ ما يَشرُفُ بالإضافةِ إلى اللَّهِ تعالى فإنَّ حَقَّه التَّعظيمُ والتَّوقيرُ)
.
5- احترامُ وتوقيرُ طَلَبةِ العِلمِ الذين سلَكوا سبيلَه وسَعَوا في تحصيلِه، ومن احترامِهم إنزالُهم منزلةً تليقُ بهم وبالعِلمِ الذي يطلبونَه، دونَ التَّنقُّصِ منهم أو الاستخفافِ بجُهدِهم، أو الحَطِّ من شأنِهم ولو كانوا صغارًا، فإنَّما رفعهم العلمُ الذي يَطلُبونَه.
قال السَّجزيُّ: (فالمتَّبعُ للأثَرِ يجِبُ تقدُّمُه وإكرامُه، وإن كان صغيرَ السِّنِّ غيرَ نَسيبٍ، والمخالِفُ له يلزَمُ اجتنابُه وإن كان مُسِنًّا شريفًا)
.
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوصى بطَلَبةِ العِلمِ خيرًا، وما ذاك إلَّا لفَضلِ مطلوبِهم وشَرَفِهـ)
.
وبوَّب
الخطيبُ البغداديُّ في الجامعِ: (بابُ توقيرِ المحَدِّثِ طَلَبةَ العِلمِ، وأخذِه نفسَه بحُسنِ الاحتمالِ لهم والحِلمِ)
، وذَكَر تحتَ هذا البابِ فُصولًا كثيرةً في احترامِ وتوقيرِ طلبةِ العِلمِ.
6- احترامُ وتوقيرُ الوالدَينِ؛ فقد أكَّد الإسلامُ على ضرورةِ توقيرِ الوالِدَين، والإحسانِ إليهما والاعتناءِ بهما ولو كانا كافِرَينِ، وحرَّم الإساءةَ إليهما بأيِّ صورةٍ كانت وجَرَّمَها.
قال تعالى:
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] ، فالإنسانُ مأمورٌ بتوقيرِ والِدَيه واحترامِهما حتَّى وإن طلبا منه الدُّخولَ في الكُفرِ والشِّركِ، مع عَدَمِ طاعتِهما في ذلك، ثمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تعالى الطَّريقةَ العَمَليَّةَ لبِرِّهما وتوقيرِهما، فقال:
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا فلفظُ المصاحبةِ يدُلُّ على التَّرفُّقِ والرَّحمةِ بهما مع التَّوقيرِ الكامِلِ لهما، ثمَّ يكونُ التَّوقيرُ والمصاحبةُ بالمعروفِ
.
وفي آياتٍ أُخرى أمَر اللَّهُ سُبحانَه بتوقيرِ الوالِدَين خاصَّةً، وبيَّن صُوَرًا عمليَّةً لكيفيَّةِ توقيرِهما، فقال سُبحانَه:
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23 - 24] ، فمِن مظاهِرِ التَّوقيرِ للوالِدَين توقيرُهما بالقَولِ الحَسَنِ الكريمِ، وعَدَمُ التَّلفُّظِ بما يدُلُّ على الضَّجَرِ، ثمَّ التَّوقيرُ والاحترامُ بالفِعلِ، بلِينِ الجانِبِ والتَّذلُّلِ لهما مع الرَّحمةِ بهما، ثمَّ بالدُّعاءِ لهما بأن يرحمَهما اللَّهُ جزاءً وِفاقًا على تربيتِهما لأبنائِهم
.
قال حَنبَلٌ: (كانت كُتُبُ
أبي عبدِ اللَّهِ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ التي يكتُبُ بها: من فلانٍ إلى فلانٍ، فسألتُه عن ذلك، فقال: رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كتَبَ إلى كِسرى وقيصَرَ، وكتَب كُلَّ ما كَتَب على ذلك، وأصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعَمرٌو كَتَب إلى عُتبةَ بنِ فَرقَدٍ، وهذا الذي يكتُبُ اليومَ: لفلانٍ، مُحدَثٌ لا أعرِفُه، قلتُ: فالرَّجُلُ يبدأُ بنفسِه؟ قال: أمَّا الأبُ فلا أحِبُّ إلَّا أن يُقَدِّمَه باسمِه، ولا يبدَأْ وَلَدٌ باسمِه على والِدٍ، والكبيرُ السِّنِّ كذلك يُوَقِّرُه بهـ)
.
7- احترامُ وتوقيرُ الكبيرِ؛ فقد أعطى الإسلامُ الكبيرَ حَقَّه من الشَّرَفِ والتَّقديرِ والتَّوقيرِ، ومِن مظاهِرِ احترامِه التَّوسِعةُ له في المجلِسِ وتقديمُه، وخَفضُ الصَّوتِ عِندَ التَّحدُّثِ إليه، وإلانةُ القولِ له وإكرامُه والشَّفَقةُ عليه، والبَدءُ بالسَّلامِ عليه.
يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن لم يرحَمْ صغيرَنا، ويَعرِفْ حَقَّ كبيرِنا، فليس منَّا))
.
8- احترامُ المُسلِمِ لأخيه المُسلِمِ وتوقيرُه بحِفظِه في غَيبتِه، وعَدَمُ الإساءةِ إليه، وإلقاءُ السَّلامِ عليه، ونُصحُه، واستعمالُ الرِّفقِ والحِلمِ واللِّينِ والسَّماحةِ معه.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((حقُّ المُسلِمِ على المُسلِمِ سِتٌّ. قيل: ما هنَّ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: إذا لَقِيتَه فسَلِّمْ عليه، وإذا دعاك فأجِبْه، وإذا استنصَحَك فانصَحْ له، وإذا عَطَس فحَمِدَ اللَّهَ فسَمِّتْه، وإذا مَرِضَ فعُدْه، وإذا مات فاتَّبِعْهـ))
.
قال
الصَّنعانيُّ: (اعلَمْ أنَّه ذَكَر في هذا سِتَّةَ حُقوقٍ، ومفهومُ عَدَدِه غيرُ مرادٍ؛ فإنَّ له حقوقًا غيرَها)
.
والحذَرُ من الوقوعِ في عِرضِه باغتيابِه أو سَبِّه أو تحقيرِه أو فِعلِ ما يؤذيه، إلى غيرِ ذلك؛ فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أتدرون ما الغِيبةُ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: ذِكْرُك أخاك بما يَكرَهُ، قيل: أفرأَيتَ إن كان في أخي ما أقولُ؟ قال: إن كان فيه ما تقولُ فقد اغتَبْتَه، وإنْ لم يكُنْ فيه فقد بهَتَّهـ))
.
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((المُسلِمُ أخو المُسلِمِ، لا يَظلِمُه ولا يَخذُلُه ولا يَحقِرُهـ))
.
قال
القاريُّ: (أي: لا يحتَقِرُه بذِكرِ المعايِبِ، وتنابُزِ الألقابِ، والاستهزاءِ والسُّخريَّةِ إذا رآه رَثَّ الحالِ، أو ذا عاهةٍ في بدَنِه، أو غيرَ لائقٍ في محادثتِه، فلعَلَّه أخلَصُ ضميرًا وأتقى قلبًا ممَّن هو على ضِدِّ صِفتِه، فيَظلِمُ نفسَه بتحقيرِ مَن وَقَّره اللَّهُ)
.
وعن
ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((سِبابُ المُسلِمِ فُسوقٌ، وقِتالُه كُفرٌ))
.
قال القُرطبيُّ: (قولُه:
((سبابُ المُسلِمِ فُسوقٌ))، أي: خروجٌ عن الذي يجِبُ من احترامِ المُسلِمِ، وحُرمةِ عِرضِه وسَبِّهـ)
.
وعن
عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال :
((إذا كانوا ثلاثةً فلا يتناجى اثنانِ دونَ الثَّالِثِ))
.
ومن ذلك احترامُ ظُروفِ النَّاسِ وحاجاتِهم ومراعاةُ مَرَضِ المريضِ منهم؛ فعن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ قال:
((أتى رجلٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنِّي لَأتأخَّرُ عن صَلاةِ الغَداةِ من أجلِ فُلانٍ؛ ممَّا يُطيلُ بنا فيها، قال: فما رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَطُّ أشَدَّ غضبًا في موعظةٍ منه يومَئِذٍ! ثُمَّ قال: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ مِنكم مُنَفِّرينَ، فأيُّكم ما صلَّى بالنَّاسِ فلْيُوجِزْ؛ فإنَّ فيهم الكَبيرَ والضَّعيفَ وذا الحاجةِ))
.
ومن ذلك احترامُ الأُمِّيِّ والمخطِئِ، والرِّفقُ بهما وتعليمُهما دونَ جَرحِ مَشاعِرِهما:
عن معاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ، قال:
((بينا أنا أُصَلِّي مع رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ عَطَس رجُلٌ من القومِ، فقُلتُ: يرحمُك اللَّهُ! فرماني القومُ بأبصارِهم، فقُلتُ: واثُكْلَ أُمِّيَاه! ما شأنُكم تَنظُرون إليَّ؟! فجَعَلوا يَضرِبون بأيديهم على أفخاذِهم، فلمَّا رأيتُهم يُصَمِّتُونني لكِنِّي سكَتُّ، فلمَّا صلَّى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... قال: إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يَصلُحُ فيها شيءٌ من كلامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسبيحُ والتَّكبيرُ وقراءةُ القرآنِ))
.
ومن ذلك الاحترامُ في المجالِسِ؛ فعن
عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أنَّه نهى أن يُقامَ الرَّجُلُ من مجلِسِه، ويجلِسَ فيه آخَرُ، ولكِنْ تَفَسَّحوا وتوَسَّعوا))، وكان
ابنُ عُمَرَ يكرَهُ أن يقومَ الرَّجُلُ من مجلِسِه ثمَّ يجلِسَ مكانَه
.
وقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [المجادلة: 11] ، أي: إذا قيل لكم: توسَّعوا في المجالِسِ ليَجلِسَ آخرون معكم، فوسِّعوا لهم؛ فإنَّكم إن فعَلْتُم ذلك يوسِّعِ اللَّهُ عليكم في الدُّنيا والآخرةِ
. إلى غيرِ ذلك من مظاهِرِ الاحترامِ والتَّوقيرِ والتَّبجيلِ بَيْنَ المُسلِمِ وأخيه المُسلِمِ.
بل يمتدُّ ذلك إلى احترامِ الأمواتِ، وفي الحديثِ:
((لا تَسُبُّوا الأمواتَ؛ فإنَّهم قد أفضَوا إلى ما قدَّموا))
. وعن عَمرِو بنِ حَزمٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال:
((رآني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا متَّكِئٌ على قبرٍ، فقال: لا تؤذِ صاحِبَ القبرِ))
.
9- الاحترامُ والتَّوقيرُ بَيْنَ الزَّوجينِ، وأساسُ هذا الاحترامِ أن يَسكُنَ كُلُّ طَرَفٍ إلى شريكِه، ويُعَظِّمَ حَسَناتِه، ويتغاضى عن سيِّئاتِه ما أمكَن، وأن يكونَ أساسُ تعامُلِهما بالمعروفِ والإحسانِ، ويُغَلِّبا جانِبَ المودَّةِ والرَّحمةِ فيما بَيْنَهما على ما يقعُ من خلافاتٍ قلَّما يخلو منها بيتٌ.
قال تعالى:
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21] .
فينبغي أن يُعلَمَ (أنَّ الزَّواجَ هو أهَمُّ مُقَوِّماتِ الحياةِ، والمتمِّمُ للوظائِفِ الحيويَّةِ، والحافِظُ للجامعةِ البَشَريَّةِ من الانقراضِ والزَّوالِ بإذنِ اللَّهِ، وأساسٌ لتقديرِ المرءِ في الهيئةِ الاجتماعيَّةِ، وقِوامُه وجودُ الألفةِ والتَّحابُبِ والاحترامِ والتَّوقيرِ بَيْنَ الزَّوجينِ، وبه يحصُلُ التَّعاوُنُ والتَّعاضُدُ والتَّآلفُ والتَّآزُرُ بَيْنَ الأُسَرِ المتناسِبةِ؛ بسَبَبِ ما تمَّ بينها من المصاهرةِ المقَرِّبةِ للبعيدِ، والمحَبِّبةِ للقريبِ، والمُدْنيةِ للأجنَبيِّ)
.
10- ومن ذلك احترامُ الجارِ لجارِه، والنُّصوصُ في حَقِّ الجارِ والوصيَّةُ به معلومةٌ مشهورةٌ.
11- احترامُ الضُّعَفاءِ والمساكينِ والخَدَمِ، وحُسنُ معاملتِهم، وعَدَمُ الاستخفافِ بهم أو الإساءةِ إليهم.
فعن أبي مسعودٍ البَدريِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، لمَّا ضَرَب غلامَه قال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اعلَمْ أبا مسعودٍ أنَّ اللَّه أقدَرُ عليك منك على هذا الغُلامِ!))
.
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه
((أنَّ امرأةً سوداءَ كانت تَقُمُّ المسجِدَ -أو شابًّا- ففَقَدها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسأل عنها -أو عنه- فقالوا: مات، قال: أفلا كنتُم آذنْتُموني، قال: فكأنَّهم صغَّروا أمرَها -أو أمرَه- فقال: دُلُّوني على قَبرِه، فدَلُّوه، فصلَّى عليها))
.
12- احترامُ المرأةِ؛ قال عُمَرُ: (واللَّهِ إنْ كُنَّا في الجاهليَّةِ ما نَعُدُّ للنِّساءِ أمرًا، حتَّى أنزل اللَّهُ تعالى فيهِنَّ ما أنزَلَ، وقسَمَ لهنَّ ما قَسَم)
، والنُّصوصُ في الوصيَّةِ بالمرأةِ أُمًّا وزوجةً وبنتًا، وصلةِ الأرحامِ: كثيرةٌ معلومةٌ.