موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- من القُرآنِ الكريمِ


الأمانةُ من الأخلاقِ التي يتَّفِقُ النَّاسُ على أهمِّيَّتِها في الحياةِ؛ لأنَّها تعني أن يكونَ الإنسانُ أمينًا في جميعِ نواحي الحياةِ؛ في عبادتِه، وفي عَمَلِه، وفي حديثِه، وفي مجتَمَعِه، أمينًا في سلوكِه، أمينًا مع نفسِه؛ فالنُّفوسُ بفِطرتِها التي فطَرها اللهُ عليها تميلُ إلى تقديرِ الأمانةِ والأُمَناءِ ، وقد أمر اللهُ تعالى بأداءِ الأمانةِ ومَدحِ أهلِها، إلى غيرِ ذلك في عَدَدٍ من الآياتِ، ومنها:
1- قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58] .
قال ابنُ تيميَّةَ: (قال العُلَماءُ: نزلت... في ولاةِ الأمورِ: عليهم أن يؤدُّوا الأماناتِ إلى أهلِها، وإذا حكَموا بَينَ النَّاسِ أن يحكُموا بالعَدْلِ... وإذا كانت الآيةُ قد أوجَبَت أداءَ الأماناتِ إلى أهلِها والحُكمَ بالعَدلِ، فهذان جِماعُ السِّياسةِ العادِلةِ والوِلايةِ الصَّالحةِ) .
 وقال الشَّوكانيُّ: (هذه الآيةُ من أمَّهاتِ الآياتِ المُشتَمِلةِ على كثيرٍ من أحكامِ الشَّرعِ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّ الخِطابَ يَشمَلُ جميعَ النَّاسِ في جميعِ الأماناتِ، وقد رُوِيَ عن عليٍّ، وزيدِ بنِ أسلَمَ، وشَهرِ بنِ حَوشَبٍ: أنَّها خطابٌ لوُلاةِ المُسلِمين، والأوَّلُ أظهَرُ، وورودُها على سَبَبٍ... لا ينافي ما فيها من العمومِ؛ فالاعتبارُ بعُمومِ اللَّفظِ لا بخُصوصِ السَّبَبِ، كما تقرَّر في الأصولِ، وتدخُلُ الولاةُ في هذا الخِطابِ دُخولًا أوَّلِيًّا، فيجِبُ عليهم تأديةُ ما لديهم من الأماناتِ، ورَدُّ الظُّلاماتِ، وتحرِّي العدلِ في أحكامِهم، ويدخُلُ غيرُهم من النَّاسِ في الخِطابِ؛ فيجِبُ عليهم ردُّ ما لديهم من الأماناتِ، والتَّحَرِّي في الشَّهاداتِ والأخبارِ. وممَّن قال بعمومِ هذا الخطابِ: البراءُ بنُ عازبٍ، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عبَّاسٍ، وأُبيُّ بنُ كَعبٍ، واختاره جمهورُ المُفَسِّرين، ومنهم ابنُ جريرٍ، وأجمعوا على أنَّ الأماناتِ مردودةٌ إلى أربابِها: الأبرارِ منهم والفُجَّارِ، كما قال ابنُ المُنذِرِ) .
ولما كان التَّرتيبُ الصَّحيحُ أن يبدأَ الإنسانُ بنفسِه في جَلبِ المنافِعِ ودَفعِ المضارِّ، ثمَّ يشتَغِلَ بحالِ غيرِه؛ أُمِرَ بأداءِ الأمانةِ أوَّلًا، ثمَّ بَعدَه أُمِرَ بالحُكمِ بالحَقِّ، والحُكمِ بالعَدلِ بَينَ النَّاسِ .
2- وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب: 72-73] .
ففي هذه الآيةِ: (عَظَّم تعالى شأنَ الأمانةِ التي ائتَمَن اللهُ عليها المُكَلَّفين، التي هي امتثالُ الأوامِرِ، واجتنابُ المحارِمِ، في حالِ السِّرِّ والخُفيةِ كحالِ العلانيةِ، وأنَّه تعالى عرَضَها على المخلوقاتِ العظيمةِ؛ السَّماواتِ والأرضِ والجبالِ، عَرْضَ تخييرٍ لا تحتيمٍ، وأنَّكِ إن قُمتِ بها وأدَّيتِها على وَجهِها فلكِ الثَّوابُ، وإنْ لم تقومي بها ولم تؤدِّيها فعليكِ العِقابُ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، أي: خوفًا ألَّا يَقُمْنَ بما حُمِّلْنَ، لا عصيانًا لرَبِّهنَّ، ولا زُهدًا في ثوابِه، وعرَضَها اللهُ على الإنسانِ على ذلك الشَّرطِ المذكورِ، فقَبِلَها وحمَلَها مع ظُلمِه وجَهلِه، وحَمَل هذا الحِملَ الثَّقيلَ) ؛ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا أي: إنَّ الإنسانَ واقِعٌ في ظُلمِ نَفسِه، والجَهلِ برَبِّه وشَرعِه وقَدْرِ الأمانةِ .
(إنَّ الأمانةَ فضيلةٌ ضَخمةٌ، لا يستطيعُ حَملَها الرِّجالُ المهازيلُ، وقد ضرب اللهُ المثَلَ لضخامتِها، فأبان أنَّها تُثقِلُ كاهِلَ الوجودِ، فلا ينبغي للإنسانِ أن يستهينَ بها أو يُفَرِّطَ في حقِّها؛ قال اللهُ تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72] ، والظُّلمُ والجَهلُ آفتانِ عَرَضتا للفِطرةِ الأُولى، وعُنِيَ الإنسانُ بجهادِهما، فلن يَخلُصَ له إيمانٌ إلَّا إذا أنقاه من الظُّلمِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ... [الأنعام: 82] ، ولن تخلُصَ له تقوى إلَّا إذا نقَّاها من الجهالةِ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] ؛ ولذلك بعد أن تقرأَ الآيةَ التي حمَّلَت الإنسانَ الأمانةَ تجِدُ أنَّ الذين غلَبَهم الظُّلمُ والجهلُ خانوا ونافَقوا وأشركوا؛ فحَقَّ عليهم العِقابُ، ولم تُكتَبِ السَّلامةُ إلَّا لأهلِ الإيمانِ والأمانةِ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب: 73] ) .
3- وقال تعالى في ذِكرِ صِفاتِ المُفلِحين: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8] ، (أي: مراعون لها، حافِظون مجتَهِدون على أدائِها والوفاءِ بها، وهذا شامِلٌ لجميعِ الأماناتِ التي بَينَ العبدِ وبَينَ رَبِّه، كالتَّكاليفِ السِّرِّيَّةِ التي لا يطَّلِعُ عليها إلَّا اللهُ، والأماناتِ التي بَينَ العبدِ وبَينَ الخَلقِ في الأموالِ والأسرارِ) .
4- وقال تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 75] ، يعني: ليس علينا في أموالِ الأُمِّيِّين إثمٌ في أخذِ أموالِهم، وإنَّ اللهَ أحَلَّ لنا ذلك؛ فلا حَرَجَ علينا في خيانتِهم، وتَركِ رَدِّ أموالِهم، وهذا القولُ كَذِبٌ منهم على اللهِ ...، وقد قدَّم اللهُ سُبحانَه ذِكرَ من يؤدُّون الأمانةَ من أهلِ الكتابِ قبلَ الذين يخونونها؛ إنصافًا لحَقِّ هذا الفريقِ، ونَعْيًا على الفريقِ الظَّالمِ، كما أنَّ تقديمَ المُسنَدِ في الموضِعَينِ (وَمِنْ أهلِ الكتابِ- ومِنْهم) للتَّعَجيبِ من مضمونِ صِلةِ المُسنَدِ إليهما؛ ففي الأوَّلِ: للتَّعجيبِ من قوَّةِ الأمانةِ، مع إمكانِ الخيانةِ ووُجودِ العُذرِ له في عادةِ أهلِ دينِه، وفي الثَّاني: للتَّعَجيبِ من أن تكونَ الخيانةُ خُلُقًا لمتَّبعِ كِتابٍ مِن كُتُبِ اللهِ، ثمَّ يزيدُ التَّعجيبُ عندَ قَولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، فيَكسِبُ المسنَدَ إليهما زيادةَ عَجَبِ حالٍ .
 ثمَّ عقَّب اللهُ سُبحانَه ذلك بقَولِه تعالى: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران: 76] ، وهذا إخبارٌ من اللهِ عزَّ وجَلَّ بحُسنِ جزاءِ من أدَّى أمانتَه إلى من ائتَمَنه عليها اتِّقاءً للهِ، فأخبر جلَّ ثناؤه: أنَّ من أوفى بعهدِ اللهِ الذي عاهَده في كتابِه، فآمن بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وصدَّق به وبما جاء به من اللهِ من أداءِ الأمانةِ إلى من ائتَمَنه عليها، وغيرِ ذلك مِن أمرِ اللهِ ونهيِه، واتَّقى ما نهاه اللهُ عنه من الكُفرِ به وسائِرِ معاصيه التي حرَّمها عليه، فاجتَنب ذلك مراقبةً لوعيدِ اللهِ وخوفًا من عقابِه- فإنَّ اللهَ يحبُّ الذين يتَّقونه فيخافون عقابَه ويَحذَرون عذابَه، فيَجتَنِبون ما نهاهم عنه وحرَّمه عليهم، ويُطيعونه فيما أمرَهم به .
5- قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة: 283] .
قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ أي: إن كان الذي عليه الحَقُّ أمينًا عندَ صاحبِ الحَقِّ، لحُسنِ ظَنِّه به، وأمانتِه لديه، واستغنى بأمانتِه عن الارتهانِ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ وهو المديونُ أَمَانَتَهُ أي: الدَّينَ الذي عليه . فحثَّ المديونَ على أن يكونَ عندَ ظَنِّ الدَّائِنِ الذي ائتَمَنه، وأن يؤدِّيَ إليه حَقَّه الذي ائتَمَنه عليه ولم يرتهِنْ منه عليه شيئًا ، وإلَّا فأداءُ الأمانةِ واجِبٌ سواءٌ ائتمَنَه أو لم يفعَلْ ذلك .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظَر: ((صيد الأفكار)) لحسين المهدي (1/ 516).
  2. (2) يُنظَر: ((السياسة الشرعية)) (ص: 12).
  3. (3) يُنظَر: ((فتح القدير)) (1/719).
  4. (4) يُنظَر: ((جامع البيان)) لابن جرير (7/173)، ((مفاتيح الغيب)) (10/108)، ((البحر المحيط)) لأبي حيان (3/684).
  5. (5) يُنظَر: ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 673).
  6. (6) يُنظَر: ((جامع البيان)) لابن جرير الطبري (19/196)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/259).
  7. (7) يُنظَر: ((خلق المسلم)) للغزالي (ص: 47).
  8. (8) يُنظَر: ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 887).
  9. (9) يُنظَر: ((جامع البيان)) لابن جرير (5/508)، ((تفسير ابن كثير)) (2/60)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/285).
  10. (10) يُنظَر: ((جامع البيان)) لابن جرير (5/ 514).
  11. (11) ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 348).
  12. (12) ((لباب التأويل في معاني التنزيل)) للخازن (1/ 217).
  13. (13) ((مفاتيح الغيب)) للرازي (10/ 62).